الخميس، 7 فبراير 2013

حوار صحيفة الجمهورية بخصوص أطروحة العلمانية الثالثة

عصام القيسي لـ (الجمهورية):
العلمانية الثالثة ستنهي الصراع المذهبي على السلطة.
دعا إلى العلمانية الثالثة التي قال إنها صيغة سياسية تحل الاشتباك القائم بين البعد السياسي والبعد الديني وتدعو إلى استبعاد المذاهب الدينية من الصراع السياسي ومن المرجعية الدستورية للدولة. الكاتب والباحث عصام القيسي في حوار مع (الجمهورية) يؤكد أن قبول العلمانية الثالثة سينهي – وإلى الأبد – مشكلة الصراع المذهبي على السلطة، فإلى نص الحوار.

حاوره – ثابت الأحمدي.
الثلاثاء 15 يناير-كانون الثاني 2013

س: كتاب "عودة العقل" الذي صدر قبل أيام قليلة عن الهيئة العامة للكتاب هو جديد الأستاذ عصام القيسي.. لمحة موجزة عن الكتاب؟.
ج: يظم الكتاب مجموعة منتقاة من مقالاتي التي نشرت خلال الأعوام الماضية، يجمع بينها هم واحد هو هم تحرير العقل العربي عامة والعقل اليمني على وجه الخصوص من مسلماته الزائفة، وأدواته العقيمة، اللاتي أثقلت كاهله وأحبطت مسيرته باتجاه البناء والتنمية. وقد جاء الكتاب تلبية لرغبة بعض القراء والأصدقاء الذين أشاروا علي بضرورة جمع ما تفرق من أفكار ومقالات بين دفتي كتاب يسهل الوصول إليه.
س: ماذا يقصد عصام القيسي بعودة العقل؟.
ج: العنوان يحمل دعوة لإعادة تمكين العقل - الذي هو قرين النقد والإبداع ونقيض النقل والاتباع - في حياتنا. وهو يحاكي عنوانين للأستاذ توفيق الحكيم، الأول "عودة الروح" الذي يعد باكورة أعماله، والآخر عودة الوعي، الذي يعد أشهر أعماله السياسية.
س: على ذكر السياسة، تحدثت في الشهور الماضية عن أطروحة جديدة في الفكر السياسي أطلقت عليها اسم "العلمانية الثالثة" ما طبيعة هذه الأطروحة..؟ 
العلمانيةالثالثةصيغةسياسيةتحلالاشتباكالقائمبينالبعد السياسي والبعد الديني في الحياة السياسية، تدعو إلى استبعاد المذاهب الدينية من الصراع السياسي ومن المرجعية الدستورية للدولة، مع الإبقاء على الدين (الإسلام) مرجعاً للمجتمع والدولة. بعد إعادة تعريف مصطلحات الدين والمذهب والفكر الديني تعريفاً أكثر دقة ووضوحاً. وهي صيغة تفترض وجود علمانيتين سابقتين هما العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية.
 س: عفوا.. سأستعجل سؤالا يفرض نفسه قبل أن تبسط القول في هذا الموضوع، وهو عن العلمانية الأولى والعلمانية الثانية، لنصل - باستبصار ـ إلى العلمانية الثالثة؟
ج: العلمانية – بفتح العين – هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية "سكيولاريزم"، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية "سكيولار" التي تعني العالم أو الجيل أو العصر. وقد تراكمتحول هذه الكلمة (سكيولاريزم) منذاستعمالها في القرن 19 وحتى اليوم دلالات عديدة ومختلفة، إلى حد أن بعض المختصين الغربيين طالب بإسقاطها من الاستعمال، وإحلال كلمات بديلة عنها،لشدةاختلاطدلالاتها ، في حين يصر بعض المثقفين لدينا على أنها واضحة تماما.
والذي يعنينا من هذه الدلالات جميعاً هو ذلك القدر المشترك بينها،لأنه يعطينا فكرة أولية عن مفهوم العلمانية فيمنشئها الغربي، وهو القدر الذي يشير إلى المستوى "الدنيوي" الذي ينتمي إلى عالم الحياة الدنيا، دون عالم الآخرة أو عالم ما وراء المادة، فكل ما ينتمي إلى الحياة الدنيا فهو علماني، أي دنيوي. وهذا هو القدر الذي أتبناه أنا في مفهوم العلمانية، لأنه القدر المحايد الذي لا يتعرض للجانب الديني والغيبي بالنفي أو بالإثبات. فحين نقول إن هناك أشياء تنتمي إلى عالم الدنيا لا إلى عالم الآخرة، فإننا بهذا نتفق مع المنظور الإسلامي نفسه الذي يصرح بوجود عالمين منفصلين مختلفين هما عالم الحياة "الأولى" وعالم الحياة "الأخرى"، ولكل عالم منهما أشياؤه التي تخصه وحده.
س: إذا كانت هذه هي العلمانية فلماذا رفضها الإسلاميون إذن؟.
ج: استعملت العلمانية في الغرب بمعاني كثيرة بعضها مضاد للدين، وهذا هو الذي جعلها مرفوضة عند المتدينين جميعاً. وكان الدكتور عبد الوهاب المسيري قد لخص مسيرة العلمانية في الغرب فقال إن بالإمكان تمييز دائرتين رئيستين في متتالية العلمانية إحداهما صغرى أطلق عليها اسم العلمانية الجزئية، وهي تلك التي تفصل الدين عن الدولة، والأخرى دائرة كبرى أطلق عليها العلمانية الشاملة، وهي تلك التي تفصل الدين عن الحياة برمتها، أي العلمانية الإلحادية.
ثم رشح المسيري للمجتمعات الإسلامية العلمانية الجزئية، وهو ما نتحفظ عليه لاعتبارات ديمقراطية قبل الاعتبارات الدينية. فما دام المجتمع قد ارتضى الدين مرجعاً له فإن من حقه أن يجعل الدين مرجعاً لدولته، وليس من المقبول – ديمقراطياً – أن يكون للدولة مرجعية غير مرجعية المجتمع نفسه، إلا إذا قبل المجتمع نفسه بذلك. وقدجاءتصيغةالعلمانيةالثالثةلحلهذاالاشتباك،لأنهاتقدممركباًثالثاً– بلغة هيجل - يبقي على جوهري الإسلام والعلمانية. لأنهالاتطالببفصلالقيمعنالحياةولابفصلالدينعنالدولة،وإنماتطالببفصلالمذهبالديني عن الدولة،وهذاليسمطلباًعلمانياًفقط،بلهومطلبإسلاميصميم.
س: هناك من سيقول لك: هذا إسلام علماني لا علاقة لنا به، فليس هناك إلا إسلام واحد هو الإسلام السماوي؟.
ج: لكن القائل يجهلأن الإسلام السماوي نفسه يعترف بوجود مساحة علمانية في حياة الإنسان كما أسلفنا، تنتمي إلى الحياة الدنيا لا إلى الدين. فإذا ثبت أن الإسلام يقر بوجود نشاطات دنيوية بحتة،لا علاقة لها بالدين،ويقر بوجود مصادر للمعرفة غير مصدر الوحي، فقد اعترف من ثمبوجود قدر من العلمانية، أيا كانت نسبة هذا القدر وحدوده،ولا بأس أن نتفاوض بعد ذلك على حجم هذه النسبة وطبيعتها. والحوار بالحجة والبرهان لا يضر أحداً سوى خصوم الحقيقة.
س: ما دليلك على أن الإسلام قد اعترف بوجود نسبة من العلمانية؟.
الإسلام – ممثلاً بالقرآن الكريم – يفرق بوضوح بين النشاط الذي ينتمي إلىالآخرة (الدين) والنشاط الذي ينتمي إلى الدنيا (العلمانية)، ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل:"وابتغ فيمآ آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ". (القصص/ 77).فالآية توزع نشاط النبي نفسه على قسمين: قسم ديني هدفه الآخرة وقسم دنيوي، أي علماني بلغتنا. ومن ثم فإن الدين سيكون مرجعاً لمستويات معينة من نشاط الإنسان، بينما ستكون الخبرة الدنيوية (العلمانية) هي المرجع لبقية المستويات، وهو معنى قول النبي فيما نسب إليه "أنتم أعلم بشئون دنياكم". ويبقى فقط أن نفصل بوضوح بين ما ينتمي إلى الدنيا وما ينتمي إلى الآخرة، وفق معايير علمية دقيقة وواضحة.
س: معنى هذا أن الدين عندك لن يكون مرجعاً لكل سلوك الإنسان في الحياة؟
ج: ليس هكذا بالضبط، فالحياة ليست مستوى واحداً، ولا بعداً أفقياً فقط. الحياة نشاط مركب في غاية التعقيد، ويمكن تحليل هذا المركب على مستويات: هناك مستويات لا بد أن يشملها الدين ويغطيها، وهناك مستويات لا بد أن تغطيها التجربة الإنسانية، ولا يصح أن يلغي أحدهما الآخر، فالإسلام ليس بديلا عن الإنسان، والتجربة الإنسانية ليست بديلاً عن الدين.أنا أعتقد – كما يعتقد أكثر المتدينين تطرفاً – أن الإسلام دين يغطي كامل النشاط الإنساني، لكن بفهم غير فهمهم. فالمؤسسة الدينية تعتقد أن الإسلام يغطي كامل النشاط الإنساني بواسطة الأحكام والتشريعات، وأنا أعتقد أن الإسلام يغطي كامل النشاط الإنساني بواسطة القيم والمبادئ. وهذا خلاف جوهري بيننا، ينبغي أن نعرف أين يقف الدين منه.
س: الدين يقول: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"، أي أن كامل نشاط الإنسان خاضع للدين؟.
ج: صحيح، وهذه الآية هي مستندي فيما ذهبت إليه قبل قليل، فالآية كما ترى تقول إن كل نشاطات الحياة والموت ينبغي أن يكون هدفها النهائي هو الله، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت القيم هي التي تغطي هذه النشاطات لا القوانين والتشريعات، لأن القيم عامة ومرتفعة كالسماء تغطي كل حركة، أما الأحكام فهي جزئية، ولا تستطيع أن تغطي كامل النشاط البشري، إلا إذا اعتبرنا حكم "الإباحة" حكماً دينياً كما يقول جمهور الفقهاء التقليديين، لكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، لأن حكم الإباحة نفسه هو اعتراف صريح بوجود مساحة محايدة من نشاط الإنسان لا تقع في دوائر بقية الأحكام الخمسة. وهذا هو مضمون الموقف الذي ذهب إليه بعض الفقهاء في اعتبار حكم المباح من خارج دائرة الأحكام الدينية. وموقف هؤلاء يخرم دعوى الإجماع وهو ما يهمنا هنا.
س: كيف يعترف الدين بوجود مساحة علمانية في نشاط الإنسان وهو الذي يقول إن القرآن قد نزل تبياناً لكل شيء؟.
ج: أولاً، لا يجوز أن نضرب الآيات بعضها ببعض، فالآية السابقة تقول "ولا تنس نصيبك من الدنيا" وهذا تصريح بوجود جزء دنيوي في حياة الإنسان لا علاقة له بنشاط الدين الذي يستهدف الآخرة. ثانياً: عبارة "كل شيء" التي وردت في قوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء"، لا تعني كل شيء بالمفهوم الرياضي الفلسفي، الذي يفيد الشمول، بل هو أسلوب عربي يفيد الكثرة في حدود الاختصاص. وبهذا المعنى ترد في لسان العرب، ووردت في القرآن الكريم، سواء في سياق الحديث عن ملك النبي سليمان أو في سياق الحديث عن ملكة سبأ التي عاصرته، فكلاهما أوتي من كل شيء كما تقول الآيات في سورة النمل 16 و23. أي أنهما أوتيا أشياء كثيرة في حدود اختصاصهما وفي حدود ظروف الزمان والمكان.
س: هناك من سيختلف معك في هذا التفسير ويقول إن القرآن جاء تبياناً لكل شيء بالمعني الحرفي؟
ج: هذا الفهم لن يختلف معي فقط بل سيختلف مع لسان العرب نفسه، ومع سياقات القرآن الواضحة القاطعة، وأكثر من ذلك سيوقع صاحبه – إن كان سنياً - في مطب القول بخلق القرآن، لأن الفهم الحرفي لعبارة "كل شيء" سيجعلنا نقول – مع المعتزلة – ما دام الله خالق كل شيء، وما دام القرآن شيء، فالقرآن مخلوق لله. وليس أمامه إلا تفادي التفسير الحرفي لآيات القرآن، ولا يوجد تفسير آخر لعبارة "كل شيء" غير ما قلناه.
س: لو أخذنا بكلامك في العلمانية الثالثة فهذا يعني أننا سنستبعد المذاهب من الحياة السياسية، والمذاهب الدينية هي جزء من الدين، ألا يعد هذا استبعاداً للدين نفسه؟.
ج: هذا الفهم قد يوقع صاحبه في الشرك، لأن صاحبه لا يفرق بين الدين والفكر الديني، الدين بوصفه منزلاً سماوياً والفكر الديني بوصفه منتجاً بشرياً نتج عن دوران العقل حول النص الديني. فمن المعلوم أن المذهب الديني جزء من الفكر الديني لا جزءاً من الدين نفسه. أي أنه منتج بشري دنيويعلماني.
س: سيقال: هذا فهمك الخاص للدين ولا يلزم أحداً غيرك؟.
ج: ربما ستفاجأ إذا علمت أن هذا ليس فهمي وحدي، بل فهم المؤسسة الدينية نفسها التي نختلف معها أحياناً، وقد صرح بهذا تصريحاً الإمام أبي حامد الغزالي- أخطر وأهم فقهاء الدين في تاريخنا كله بعد الشافعي- إذ يقول: "فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وألحقت الفقهاء بعلماء الدنيا فاعلم ]أنه[ مست الحاجة إلى سلطان يسوسهم (أي الناس) واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، والفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات.."أ هـ. فالغزالي يجعل علم الفقه من علم السياسة، وعلم السياسة من علوم الدنيا، ويجعل فقهاء الدين من علماء الدنيا، فهل بعد هذا علمانية؟!.
س: ما هي حدود الدين المنزل كما تراه، في مقابل حدود الفكر الديني، أو بالأصح كيف نفصلحدود الإسلام من حدود الفكر الإسلامي؟.
ج: دعني أترك الإجابة لعلماء المؤسسة الدينية أنفسهم أيضاً، لأن كلامهم حجة على أتباعهم أكثر من كلامي. ينقل الشيخ محمد الغزالي عن شيخه محمد البهي، وكلاهما علم من أعلام الفكر الديني المعاصر عبارة مشرقة في كتابه "ليس من الإسلام" تقول: "إنالفكرالإسلاميليسهوالإسلام،بلهوصنعةالمسلمينالعقليةفيسبيلالإسلام،وبمشورةمبادئه، والإسلامهوالوحيالإلهيإلىرسولاللهمحمدبنعبداللهصلىاللهعليهوسلم،وكتابهذهالرسالةهوالقرآنالكريم،وفيحكمهماانظمإليهمنسننثابتةللرسولتوضحماطلبتوضيحهمنه"!.
وهذا التعريف يخرج من دائرة الدين كلاً من الحديث المنسوب إلى النبي، وكل مخرجات الفقهاء في الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا بالضبط ما قلناهوما نردده طوال الوقت. والفرق بيننا وبينهم هو اختلاف الدافع في استبعاد الحديث من دائرة الدين، فهم يستبعدونه لأنه لم يثبت وروده بدليل قطعي، ونحن نستبعده لأنه لم تثبت حجيته بدليل قطعي، والنتيجة واحدة.
س: إذا سلمنا بكلامك، ما الذي سيترتب عليه من الناحية السياسية والاجتماعية؟.
ج: إذا سلمنا بأن الإسلام هو القرآن الكريم فحسب، وما دل عليه من سنن عمليه ثابتة قطعاً، توضح ما طلب القرآن توضيحه، كما قال الشيخان من قبل، نيابة عن زملائهم الفقهاء، إذا سلمنا بذلك، فسيترتب على هذا أن يصبح الدين مرجعاً للدولة كما يريد المسلمون جميعاً، مع استبعاد الفكر الديني من هذه المرجعية، أي الحديث المنسوب إلى النبي، والمذاهب الدينية بكل صورها، وهذا هو القدر المعقول من العلمانية الذي لن يتردد العلمانيون في القبول به. خاصة وأن العلمانيين في البلاد العربية في أغلبهم يعلنون إسلامهم واحترامهم للدين. وهكذا نحقق رغبة الطرفين، بشرط أن يقدم كل طرف تنازلاً غير جوهري من مطالبه. بل إننا نحقق رغبة الإسلام نفسه كما برهنا على ذلك قبل قليل.
س: كيف يمكن أن يكون القرآن والسنن العملية مرجعاً للدولة؟
ج: الدولة شخصية اعتبارية،لا تصلي ولا تحج ولا تتزوج، ومن ثم فالدولة ليس لها دين بهذا المعنى.وحين نقول إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة فإنما نقصد أن منظومةالقيم الإسلامية تحديداً هي مرجع السياسات والقوانين التي تسير عليها هذه الدولة. والقرآن نص سماوي نزل بلسان عربي، فيه المحكم الذي يفهمه الناس جميعاً فهما واحداً، وفيه المتشابه الذي تختلف دلالاته من فهم إلى آخر، ونسبة المحكم قليلة في القرآن الكريم كما يقول الفقهاء، وهذه النسبة مرجعية بنصها دون خلاف، لكن يبقى معنا مشكلة النص المتشابه، لأن اختلاف الدلالات بين فهم وآخر يخرج المسألة من دائرة الدين إلى دائرة المذهب، وفي هذه الحالة، يكون النص القرآني على "الإجمال" مرجعاً للدولة، أما عند"التفصيل" فإن من حق المشرع أن يختار من الآراء ما يراه مناسباً من الناحية السياسية، بشرط أن ينظر إلى هذا الاختيار على أنه حالة مدنية يجوز الاختلاف معها والاعتراض عليها، لا حالة دينية مقدسة.هذا بالنسبة لنصوص الشريعة، أما بالنسبة لنصوص العقيدة والأخبار والشعائر التعبدية، فإنها بطبيعتها لا يمكن أن تكون ضمن مرجعية الدولة، لكونها تختص بالأفراد لا بالهيئات.
س: إذن ما الذي أبقيت في القرآن ليكون مرجعاً للدولة؟.
ج: بقي أمران في غاية الأهمية هما جانب القيم والمبادئ كما يسميها الفلاسفة، وجانب الأحكام الشرعيةكما يسميها الفقهاء. إذ على الدولة عند وضع سياساتها الداخلية والخارجية، وعند وضع الدساتير والقوانين التي تسيرها وتسير المجتمع بها، أن تخضع في هذا كله لقيم الإسلام ومبادئه المتفق عليها كما أسلفنا. أما جانب الشريعة (المعاملات) فسيكون القدر المتفق على دلالاته بين المسلمين مرجعاً قانونياً بدلالة نصه، وأما ذلك القدر المختلف على تأويله بينهم فيكون المعنى العام منه فقط ملزماً، دون المعاني التفصيلية التي لا تلزم أحداً، إلا إذا اختارها المشرع، وجعلها قانوناً مدنياً لا قانوناً دينياً كما قلت سلفاً.
س: قد يكون مضمون الأطروحة مقبولاً لكن ألا تعتقد أن كلمة علمانية نفسها مستفزة للمتدينين والعوام؟.
ج: هناك قاعدة عند الأصوليين تقول لا مشاحة في الاصطلاح، أي لا مشكلة في المصطلح إذا كان المضمون مقبولاً. وقد جرت العادة عند الفقهاء الممتازين على استخدام مثل هذه المصطلحات بتسامح وتفهم كبيرين. ستجد فقيها مثل الحجوي الفاسي في "الفكر السامي" وهو أشهر مرجع في تاريخ الفقه، يضع عنواناً فرعياً يقول "الشريعة الإسلامية ديمقراطية لا أرستقراطية". وكذلك فعل خالد محمد خالد ومصطفى السباعي وغيرهم. القرآن نفسه تبنى ألفاظاً من خارج النسق العربي وأعاد توظيفها في أنساق جديدة، مثل مصطلح "الأميين" الذي صكه اليهود للدلالة على الأغيار الذين ليس لهم كتاب سماوي. وبالرغم من الحمولة الثقافية السلبية لهذا المصطلح اليهودي إلا أن القرآن وصف به النبي (ص) كما وصف به قومه دون تحرج.
س: الذين يرفضون العلمانية اليوم يقولون إن هذا المفهوم يحمل في طياته جراثيم الفلسفة المادية الغربية؟.
ج: والديمقراطيةكذلكجاءتمحملةبهذهالجراثيمفلماذاقبلوابها؟. لقد بينا من قبل أن العلمانية علمانيات مختلفة لا علمانية واحدة، وقد رفضنا العلمانية ذات المرجعية المادية كما رفضوها. وأود هنا أن أضيف أمراً غاب عن أذهان الكثيرين، بما فيهم بعض العلمانيين أنفسهم، هو أن العلمانية ليست منتجاً غربياً خالصاً كما يتوهمون، بل هي محطة في طريق كل المجتمعات لا بد أن تمر بها، وكان للمجتمع الغربي فضل السبق في المرور بهذه المحطة قبل غيره، فقط.
س: كيف تكون العلمانية محطة في طريق المجتمعات، هذه النقطة غامضة؟
ج: أغلبية المجتمعات البشرية لها مرجعية دينية، هذه المرجعية تقيم فصلاً بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فلا يوجد دين معروف يقول إن الدين هو الدنيا نفسها، أو أن هذا جزء من ذاك، وإنما قد يقول إن الدنيا واسطة الآخرة أو مزرعة الآخرة، لكن هذه ليست نفس تلك. ولا شك أن هناك تداخل بين الديني والدنيوي في كل عقيدة دينية، والمتدينون في عصورهم البدائية قد يجهلون – من الناحية النظرية – هذا الفصل، ويتعاملون مع المسألة بصورة تعميمية غير علمية، نتيجة غياب العقل التحليلي عند هذه الجماعات البادئة، ونتيجة غياب الحاجة لهذا الفصل في العصور البدائية والوسيطة. إلا أن قانون التطور والتقدم الذي يحكم مسيرة المجتمعات الإنسانية يدفعها – بسبب ظهور ظروف اجتماعية وسياسية جديدة – إلى البدء في التساؤل عن طبيعة العلاقة الدقيقة بين الدين والدنيا، وهكذا يكتشفون أن العلمانية ضرورة سياسية وحقيقة دينية.
س: في حال قبول هذه الصيغة العلمانية ما هي الثمار المتوقعة منها على المستوى السياسي والاجتماعي؟.
ج: بقبول هذه الصيغة العلمانية سننهي - وإلى الأبد - مشكلة الصراع المذهبيعلى السلطة، فلن تكون الدولة سنية ولا شيعية، ولا شيئاً من هذه المذاهب الدينية، بل ستكون دولة مدنيةديمقراطية علمانية منضبطة بالمرجعية القيمية الإسلامية.
س: أستاذعصام،نسمعاليومعنخطابيناثنينعلىالساحةوكلاهماعلىطرفينقيضمنالآخر: الأول: يسعىللتبشيربعودةالخلافةالإسلامية،والآخريسعىللتبشيربالإمامة.. ماذاترىهنا؟
ج: هذهأحلام طوباوية صنعتها المخيلة البدائية والرغبات الأنانية. أطروحة الخلافة– مثلاً-  ليس لها حدود واضحة حتى في رؤوس أصحابها. جرب أن تسألهم: هل المقصود بالخلافة وحدة الحاكم أم وحدة السياسة الخارجية فقط؟ ما هو شكل الدولة وشكل النظام السياسي في دولة الخلافة؟. ما موقف دولة الخلافة من الديمقراطية والمذاهب الدينية؟ هل هناك نموذج تاريخي يحتذى به في هذا الشأن أم أن النماذج ستكون عصرية؟. وكيف تطالبون بمفهوم لم يتحقق تاريخياً منقبل بصورة واضحة؟. وما موقفكم من النظرية المهدوية في هذا الخصوص؟. وغيرها من الأسئلة التفاعلية الحرجةالتي لن يتفقوا على إجاباتها أبداً.
س: وماذا عن اطروحة الإمامة؟.
س: أطروحة الإمامةكان من المفترض أن تصنف في دائرة النكت والطرائف. لكن يبدو أن الفكاهات تتحول عند هذه الشعوب إلى عقائد دينية. هل يعقل أن يصدق الناس بأن الحاكم يأتي عن طريق التعيين الإلهي لا عن طريق الانتخاب الشعبي؟. هل يعقل أن يصدق الناس اليوم بوجود جينات ذهبية مميزة عن جينات الناس الأخرى؟ هل يعقل – ونحن في العصر الذي يطرح مفاهيم "الإله والدين والنبوة" في دائرة الشك والاشتباه – أن يأتي شخص ليقول أنا كائن خاص ولي حقوق خاصة لأني من نسل بنت النبي الفلاني؟. هل يعقل أن الله العدل يجامل نبيه إلى حد أن يرهن مصير أمم طويلة عريضة بأيدي ذرية من نسل بناته لا يختلفون عن الناس في شيء؟. هل يعقل أن يكون هذا هو ما تعذب من أجله بلال وسمية وعمار وما خضع له عمر وأبي بكر وخالد، وما قاتل في سبيله الأوس والخزرج؟. من الواضح أن العقل الإسلامي قد انحط إلى مستويات خطيرة.
س: أليست الإمامة أو الخلافة منصباً دينياً، وأليست الدولة في الإسلام دينية؟.
ج: هذا وهم آخر من أوهام المسلمين التي لا تعد ولا تحصى، فالدولة ومناصبها في الإسلام مدنية لا دينية، أي انها من أعمال الدنيا (العلمانية) لا من أعمال الدين. ولهذا السبب أهمل القرآن والنبي ذكرها وذكر تفاصيلها. والإسلام ليس ديناً ودولة كما يقول البعض بل دين ودين فقط، فلا القرآن دعا إلى إقامة الدولة ولا الرسول فعل ذلك. القرآن يقول: اليوم أكملت لكم دينكم، ولم يقل "اليوم أقمت لكم دولتكم"كما يقولمحمد خلف الله. وقد اعترف معظم الإسلاميين اليوم بأن الدولة في الإسلام مدنية لا دينية، مع أنهم يضيفون عبارة احترازية تقول"بمرجعية إسلامية"، ونحن نوافقهم على هذالكن بمفهوم الدين الذي حددناه هنا.
س: هل تعني أن الرسول (ص) لم ينشئ دولة في المدينة المنورة ولم يكن رئيس جماعة؟.
ج: النبي (ص) يقينا لم ينشئ دولة ولا كان هذا من أهدافه ولا من أهداف رسالته. صحيح أن الهجرة قد أنشأت مجتمعاً سياسياً جديداً للمسلمين في المدينة، إلا أن وجود مجتمع سياسي لا يعني بالضرورة وجود دولة، لأن المجتمع السياسي قد يتحقق في شكل تجمع قبلي مثلاً. والنبي (ص) كان زعيم جماعة لا رئيس دولة، وكانت سلطته على جماعته تفوق – بحكم نبوته – كل سلطات عصره، كما قال الشيخ علي عبد الرازق، لكنه مع ذلك لم يكن رئيس دولة.
س: لكن كيف تفسر تلك الأعمال التي مارسها النبي بحكم كونه ولياً لأمر الجماعة المسلمة، مثل إعداد الجيش وجمع الضرائب ومخاطبة الملوك وعقد المعاهدات، ألا تدل هذه الممارسات على أنه كان رئيس دولة؟.
ج: هذه الوظائف كان يقوم بها في عصر النبي أي زعيم جماعة، حتى لو كان مجرد شيخ قبيلة. عبد الملك الحوثي اليوم يمارس – من حيث الشكل - مثل هذه الوظائف في محافظة صعدة، وجماعة الحوثيين يشكلون مجتمعاً سياسياً هناك، فهل نقول إن الحوثي رئيس دولة، أو أن صعدة قد أصبحت دولة الحوثيين؟. إن لمفهوم الدولة معايير أخرى حاسمة سواء في عصر النبي أو في عصرنا الحديث. وأبرز مظاهر الدولة هي وجود دواوين (وزارات) ومؤسسات، وعملة محلية، وجيش نظامي له سجلات وأختام، ومرتبات ثابتة، وموارد مالية ثابتة لصرف المرتبات، وغيرها من المظاهر المعروفة منذ ظهور الدولة عند السومريين مروراً بالفراعنة وملوك بني إسرائيل وحتى اليوم. إن خلطنا بين مظاهر الزعامة النبوية والزعامة الملوكية الرئاسية يدل على جهلنا بمفاهيم الدولة والسياسة وما شابه ذلك.
س: بعضهم قديعتبر هذا انتقاصاً من وظائف نبوة النبي محمد (ص)؟
ج: نحن نسأل أصحاب هذا التصور: هل كان نبي الله موسى أدنى مقاماً من نبي الله سليمان، لأن هذا الأخير كان نبياً وملكاً بينما كان موسى نبياً رسولاً فقط؟. ثم نسألهم: أيهما أشبه بنموذج الرسالة المحمدية، نموذج موسى أم نموذج سليمان ودواد؟. لقد ورث سليمان الملك من أبيه وفق مؤهلات معينة طرحها بين يدي شعب إسرائيل للمصادقة عليها، بعد أن سألوه: بأي فضل تنال هذا المنصب من دوننا؟ فقال لهم : "يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين" (النمل/16). ومع أن موسى كان زعيماً لبني إسرائيل كما كان داود وسليمان، ومع أن بني إسرائيل يعدونه أعظم زعمائهم وأنبيائهم على الإطلاق، إلا أنهم لا يعدونه ملكاً كما يعدون داود وسليمان، وكذلك هو موقف القرآن أيضاً. وكلمة "ملك" كانت تطلق في العصور القديمة على المنصب السياسي الذي يطلق عليه المسلمون - في أدبياتهم السياسية - منصب الإمامة أو الخلافة.
س: إذن أنت تعتقد أن النبي محمد (ص) مارس السياسة لكنه لم يؤسس دولة ولم يكن رئيسا بالمعنى المتعارف عليه في الدول والمملكات؟.
ج: هذا صحيح، وإلا فليقولوا لنا لماذا سمى القرآن داود وسليمان ملكين، ولم يسم موسى ومحمد ملكين، مع أن الأخيرين كانا زعيمين كبيرين في جماعتهما، أعظم من زعامة داود وسليمان؟. وهل كل شكل من أشكال الزعامة على مجتمع سياسي يعد رئاسة ملوكية بالمفهوم القديم والمفهوم الحديث لكلمة ملك ورئيس؟. وإذا كان جوابهم بنعم، فلماذا لا نعد كل شيوخ القبائل وزعماء الجماعات رؤساء وملوكاً ومؤسسي دول، ما داموا يؤدون الوظائف نفسها التي كان يؤديها النبي في جماعته؟. والسؤال الأهم من كل ذلك: إذا كان النبي قد أسس دولة في المدينة المنورة كما يزعمون، فلماذا لم يترك للصحابة من بعده أي شكل من أشكال نظام الحكم؟. لماذا تركهم في حالة فراغ دستوري أدى إلى خلافهم في السقيفة، ثم أدى إلى صراع سياسي مذهبي ما زال محتدماً بين المسلمين حتى اليوم؟
س: كيف تفسر أنت سكوت القرآن وسكوت النبي - كما تقول - عن الحديث في شئون السياسة والملك؟.
ج: أولاً، لا يحتاج الدين إلى تنبيه الناس إلى ضرورة قيام الدولة، لأن قيام الدولة من الضرورات الاجتماعية لا من الضرورات الدينية، فبمجرد أن يشعر الناس بحاجتهم إلى دولة ترعى مصالحهم وتحمي وجودهم فإنهم يقيمونها دون حاجة إلى نص ديني. بدليل أنه لا يوجد مجتمع مدني على وجه الأرض بدون دولة، سواء أكان مجتمعاً متديناً أو كان مجتمعاً علمانياً.
ثانياً، لا يمكن للدين أن يقترح أو يلزم مجتمعاً بشكل محدد من أشكال النظام السياسي، لأن النظم السياسية هي بنت التجربة الإنسانية، التي تخضع لقانون التطور الاجتماعي والثقافي، وليس المهم – في نظر الدين – هذا الشكل السياسي أو ذاك، بل المهم هو تحقيق القيم الاجتماعية التي أكد عليها.
س: البعضيعتبرأنوصولالإسلامييناليومإلىالسلطةفيأكثرمنقطرعربيمبشربقدومالخلافة؟.
ج: إن لفظ "خلافة" في حد ذاته قرينة كافية على أن الأحاديث التي تبشر بالخلافة في آخر الزمان هي أحاديث مكذوبة على النبي (ص)، فمن المعلوم أن هذا اللفظ قد اخترعه شعب المدينة (الصحابة) للدلالة على من يخلف النبي في مقام ولي الأمر. وقد توقف استخدام هذا المصطلح في فترة عمر وتم استبداله بمصطلح "أمير المؤمنين" لأن عمر تساءل: إذا كان أبو بكر خليفة رسول الله فماذا أكون أنا، خليفة خليفة رسول الله؟!. ثم إن هذا اللفظ لم يرد على ألسنة المختلفين في سقيفة بني ساعدة، وإنما وردت ألفاظ أخرى مثل "الأمر" و"الأمير". ولو أن الرسول كان قد تحدث عن خلافته لوجدنا ذلك على ألسنة صحابته ومعاصريه في خلاف السقيفة. ثم هل يعقل أن يذكر النبي (ص) لفظ الخلافة دون أن يترك بياناً للمسلمين في جميع شئونها؟. ألم يكن من الأولى أن يتنبأ النبي بمشكلة الصراع بين السنة والشيعة وأن يقدم الحلول الحاسمة لهذه المشكلة بدلاً من أن يتنبأ بخليفة آخر الزمان؟!.
س: كيفتقرأواقعالجماعاتالإسلاميةالمعاصرةوخاصة جماعة الأخوان المسلمين ومستقبلهاالسياسيعلىضوءمايجري؟
الظاهر من سلوك الجماعات الإسلامية يدل علىأنهاغيرمستعدة– على مستوى الوعي- للتعلممندروس التاريخ،بدليل أنهارفضتمجملالمراجعاتالتيجاءتمنالداخل،ناهيكعنالنقودالتيجاءتمنخارجهاخلالالثمانينالسنةالماضية.إلا أنها – على مستوى اللاوعي - لا بد أن تتأثر،ولو نسبياً، بالمدارس الجديدة التي بدأت تتشكل داخل التيار الإسلامي الواسع،المدارس الجديدة ذات قابلية عالية للعلمنة والتمدن، وتستهوي كثيراً من شباب الجماعات الإسلامية، مثل الحالة التركية على مستوى التطبيق، والحالة التونسية على مستوى التنظير. أما جماعة الأخوان المسلمين الأم في مصر فهي تعاني مشكلات إضافية خاصة، ناتجة عن اختطاف التنظيم الخاص للجماعة من أيام المرشد مصطفى مشهور.
س: ماذا تعني بالتنظيم الخاص وكيف اختطف الجماعة؟.
ج: التنظيم الخاص هو تنظيم سري مسلح أنشأه مؤسس الجماعة حسن البنا لأغراض من بينها مقاتلة الإنجليز في القنال. لكن التنظيم انحرف عن مهامه الأساسية وذهب يسفك دماء المسلمين أنفسهم، وتسبب - في نهاية المطاف - في اغتيال حسن البنا نفسه، الذي قال عنهم قبل وفاته: ليسوا أخواناً وليسوا مسلمين. وقد انحسر تأثير هذا التنظيم بعد ذلك، وتم تجميده إلى فترة المرشد عمر التلمساني، لكنه عاد متخفياً في شكل عصابة يرأسها مصطفى مشهور، ومن أعضائها البارزين خيرت الشاطر، والمرشد محمد بديع، وشخص ثالث لا حاجة لنا بذكر اسمه الآن. وقد عمل هذا التنظيم الخاص على استبعاد كل الشخصيات الأخوانية المنفتحة والرصينة من داخل الجماعة، حتى لو كانوا من المؤسسين، وتبنى الخط القطبي على حساب الخط البنائي داخل الجماعة.
س: إلى ما يسعى هذا التنظيم برأيك؟
ج: دعني اخبرك أنه يطلق على هذا التنظيم داخل الجماعة اسم تنظيم العشرات، وإذا عرفت أن من بين شخصياته مصطفى شكري، مؤسس جماعة الهجرة والتكفير، وأن هذا الرجل ظل منتمياً إلى الأخوان حتى نهاية حياته، فلن يصعب عليك معرفة الغاية بعد ذلك، إنها السعي إلى السلطة، عن طريق "وأعدوا" لهم ما استطعتم. نظرة هذه العصابة إلى المجتمعات الإسلامية وإلى الأقليات الدينية مريبة جداً، وحرصهم على امتلاك القوة كبير جداً، ومستقبل الجماعة في خطر إذا استمرت هذه العصبة في السيطرة عليها.
س: برأيكلماذالم تستطع هذه الجماعات الدينية أن تكسب رضا المثقفين، ولم تنجح في مواجهة مشاكلها؟
هذه الجماعات وجدت نفسها مضطرة – بحكم الأمر الواقع - للتعامل مع مشكلات ذات طابع حضاريمركب، بينما هي في الأساس لم تصمم لمثل هذه المهام المعقدة. لأنها حين نشأتلمتنشأاستجابةلمشكلات علمية وحضارية، كمشكلةسقوط الحضارة الإسلامية،بل نشأتاستجابةلحدث سياسي جزئي هو سقوط الخلافة العثمانية،ومن ثم فقد تركز اهتمامها من البداية على أسئلة الخلافة لا على أسئلة الحضارة.
 أسئلة الحضارة تبدأ عند النخبة المفكرة ثم تأتي الجماهير الغفيرة بعد ذلك لتتبنى خلاصاتها، بعد أن تصبح ثقافة اجتماعية. وهذا يحتاج إلى وقت طويل وصبر أطول، وهو ما لا يقدر عليه المتحمسون لدولة الخلافة، وهذا هو سر استبعاد هذه الجماعات للكائنات المفكرة ذات الاهتمام النظري العالي. لأنها تعتقد أن مشروعها لا يحتاج لأكثر من خطباء مفوهين، وجنوداً طائعين. وهكذا تجد نفسها أمام مشكلات مركبة بإجابات سطحية بسيطة تقنع محدودي الثقافة لكنها لا تقنع محترفي الفكر ولا تقنع قوانين النهوض والتمكين نفسها!.
س: نريد مثلاً توضيحياً على أسئلة الحضارة وكيف تتم الإجابة عليه من قبل الطرفين؟
ج: خذ مثلاً سؤال: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟. الإجابة التقليدية عند التيار الإسلامي تقول: تخلفنا لأننا تركنا الإسلام وراء ظهورنا، وسنتقدم عندما نعود إلى الإسلام. وأحسنهم يقول تخلفنا لأننا تركنا أسباب التقدم وراء ظهورنا دون أن يفصل ذلك تفصيلاً دقيقاً. هذه الإجابات نفسها تخضع – عند فيلسوف الحضارة – لتحليل عميق فهو يسأل: ما هو الدين، ما حدوده وطبيعته، كيف يكون عاملاً للتقدم أو التخلف، وإذا كان المسلمون قد تخلفوا لأنهم تركوا الإسلام فهل تقدم غيرهم لأنهم تمسكوا بالكفر؟. ما أسباب التقدم أو التخلف، وهل الأصل أن نسأل عن أسباب التقدم، أم الأصل أن نسأل عن أسباب التخلف، ولماذا؟. ما الآثار العميقة التي يخلفها التقدم المادي على بنية الثقافة والمعرفة؟ ما الطريقة العلمية المثلى للإجابة على مثل هذه الأسئلة، ولماذا؟. وهكذا..
س: ما هو الفرق بين إجابة المفكر الفيلسوف وإجابة الداعية الإسلامي من وجهة نظرك؟.
ج: هو كالفرق بين إجابة الطبيب المختص وإجابة حلاق الصحة في الريفالمصري. حلاق الصحة يقول لك: هذه حمى، وعلاجها شربة"الحج محمود"، وثلاث ساعات نوم. أما الطبيب المختص فهو يطلب تحليلاً دقيقاً لعينات من الدم وغيره، ثم يقول لك بعد فحص طويل: لديك حمى ناتجة عن الفيروس الفلاني، وعلاجها في المقدار الفلاني من العلاج الفلاني. الطبيب المختص يعرف أن الحمى مجرد عرض، قد تتسبب به أمراض عديدة، وليس هناك علاجاً واحداً لكل الأمراض وإن كانت الأعراض متشابهة، وهذا ما لا يدركه حلاق الصحة.
س: مايتعلقبالشأناليمنيالراهنننتظراليومانطلاقةالحوارالوطنيقريباوالوضعيبدوأنهغيرمطمئنتماما،فثمةعقباتوعراقيلوثمةتدخلاتدوليةواضحةألاترىأنلهانعكاساتسلبيةعلىاليمنمستقبلا؟
ج: الحوار الوطني هو أفضل وآخر فرصة– ربما - للإنسان اليمني الحديث لدخول عصر جديد يتسم بالاستقرار والنهوض والحياة الكريمة. فإذا سمحنا لأصحاب الرايات الحمراء بتفويت هذه الفرصة فلن يكون أمامنا سوى الجحيم. طبعاً هناك من يريدنا أن ندخل الجحيم ليعاقبنا على تطلعاتنا المشروعة، أو لتحصيل منافع أنانية ضيقة، وهناك نسبة عالية من الجهل وانعدام الوعي لدى الجماهير، ونسبة عالية من انعدام الضمير عند بعض المتنفذين وأصحاب المصالح التي كانت مرسلة، لكن المفارقة أن العامل الدولي هذه المرة جاء في صالحنا، فهو لن يسمح بانفجار الوضع خوفاً على المصالح الدولية في هذه المنطقة. وعموماً نحن نستحق ما سيحدث، أياً كان هذا الذي سيحدث، لأن من طبيعة الإنسان أن يخطئ ومن طبيعة الزمان أن ينتقم، كما قال الشاعر القديم بيرون.
س: ألا تخشى من اختطاف الثورة على أيدي متنفذين وأصحاب مصالح ومراكز قوى؟.
ج: كل ثورة لا بد أن تتعرض لمحاولة اختطاف، والثورات الحقيقية فقط هي التي تستعصي على هذه المحاولات، لأن من طبيعة الثورة الحقيقة أن تأتي استجابة لظروف تاريخية قاهرة لا يستطيع أحد تجاهلها، على عكس الانقلابات العسكرية التي قد تحدث نتيجة طموحات فردية عند بعض المغامرين. وأناأعتقدأنثورةفبرايرأصيلةوحقيقية جاءت استجابة لتحولات اجتماعية قوية،ولهذافإنهاستؤتيثمارهاأومعظمثمارهاعلىالأقل.وحتى إذا حدث - لا قدر الله - محاولة اختطاف حقيقية للثورة ومكاسبها، فإن الناس اليوم، وخاصة الشباب، في مرحلة متقدمة من الوعي السياسي، أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الثورة، وهم على استعداد لإعادة الكرة ونيل حقوقهم بصورة كاملة هذه المرة، مهما كانت النتائج.
س: إذن أنت تعتقد أن ثورة فبراير لم تكن صراعاً بين أجنحة النظام القديم كما يروج البعض؟.
ج: بالطبع، إنها ثورة مجتمع جديد على مجتمع قديم، مجتمع تقدمي على مجتمع انتهازي، ثورة الذين يشعرون على الذين لا يشعرون، قبل أن تكون ثورة مجتمع على نظام سياسي فاسد. ووجود شخصيات أو أجنحة من النظام القديم في صفوف الثورة لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً، بل إنه كان سبباً رئيسياً في نجاحها. وهناك من يتجاهل الحقائق إلى حد الزعم بأن الثورة كانت ستنجح بدون الحاجة إلى سند عسكري وقبلي، وهذا جحود لا يليق بالثوار الحقيقيين.
س: هل يعني هذا أنها لم تكن ثورة المجتمع اليمني بالكامل؟.
ج: لا يشترط في الثورات العظيمة أن تكون من فعل المجتمع بكاملة. ولا يوجد ثورة في التاريخ حصلت على تأييد كل أفراد المجتمع. الثورات عادة هي فعل النخبة الممتازة، يتبعها الذين يشعرون، أما أولئك الذين لا يشعرون فهم عادة ما يقفون في صف النظام. إما لأنهم لا يشعرون بكرامتهم التي ينتهكها النظام الفاسد المستبد، ولا يشعرون بفداحة الظلم الواقع عليهم وعلى مستقبل ذرياتهم، وإما لأنهم لا يشعرون بأوجاع المقهورين وأنين الجائعين من حولهم. وفئة الذين لا يشعرون هذه هي الأكثرية العددية في المجتمعات المتخلفة التي حكمتها أنظمة فاسدة كما حدث لمجتمعنا. ومع هذا فقد كان حجم الرفض الشعبي للنظام السابق قياسياً بالنظر إلى حجم الخراب الذي خلفه النظام في بنية العقل اليمني ومنظومة الأخلاق الاجتماعية.
س: أخيراً، كيف تقيم فترة حكم الرئيس هادي؟.
ج: أنا في غاية الإعجاب لأداء هذا الرجل، إنه شخص هادئ وحكيم وذكي في الوقت نفسه، وأهم من ذلك أنه يقنعك بحبه الصادق لليمن. وهذا ما كنا نحتاج إليه بالضبط في هذه اللحظة التاريخية. لاحظ أنها المرة الأولى التي أمدح فيها رئيساً عربياً (يضحك

محاضرة العلمانية الثالثة


محاضرة العلمانية الثالثة .. التي أقيمت في مؤسسة العفيف الثقافية - صنعاء

العلمانية الثالثة - الجزء السابع والأخير

           في نهاية هذه الجولة النقدية التحليلية لمفهومي العلمانية والإسلام، أجد من المناسب استعادة ذلك السؤال الذي بدأنا به سلسلة هذا المقال، وهو: هل بالإمكان حقاً إيجاد صيغة علمانية تتفق مع روح الإسلام ومقاصده، دون أن تأتي على حساب حقيقتي الإسلام والعلمانية؟.
 والجواب بـ”نعم” هو خلاصة هذه السلسلة المقالية، بالنسبة للكاتب ومن يتفق معه في الرأي.
إلا أن الكاتب يفترض وجود قارئ معارض لهذه الأطروحة، لن يعترف ببعض مقدماتها، ولا بالنتائج المترتبة عليها، بدوافع مختلفة ستأخذ عند بعضهم مظهراً علمياً، أو مظهراً تقوياً (من التقوى).
 والكاتب لا يطمع في إقناع كل أصناف المعارضين لهذه الأطروحة، فذلك أمر يعجز عنه حتى الأنبياء، لكنه يطمح في تحقيق عدد من الأهداف البسيطة، ذات الأثر القوي، في حياتنا السياسية والعقلية.
من بين تلك الأهداف، نزع أقوى أسلحة المتخاصمين على العلمانية والإسلام، وذلك بنزع أقوى حججهم في الرفض؛ إذ لم يعد للعلماني حجة قوية في رفض مرجعيةً الإسلام للدولة ذات الأغلبية الإسلامية، ما دمنا قد استبعدنا من هذه المرجعية كل منتج بشري ذي صبغة دينية، مكتفين بالنص السماوي القطعي، وهو بطبيعته نص محدود للغاية، ولا يشكل تهديداً حقيقياً لجوهر العلمانية.
وكذلك فإنه لم يعد للإسلامي الراديكالي حجة صلبة في رفض العلمانية المذهبية، مادمنا لم نستبعد الدين من مرجعية الدولة، إلا إذا شاء أن يقتحم العقبة، ويزعم أن المذهب هو الدين، وأن الدين هو المذهب، وفي هذه الحالة يكون قد حفر قبره بيده، وأعطى خصمه السكين التي ستجهز عليه.
وبقي أمامنا سؤال مركزي، هو: هل الفصل بين الدين والمذهب ممكن فعلاً، أم أنه مجرد طموح؟.
والجواب أن الفصل ليس ممكناً فقط، بل هو قائم بالفعل؛ بدليل أن الناس يقبلون - من حيث المبدأ - بالخلاف في المذهب، لكنهم لا يتسامحون أبداً في المساس بالدين.
 وإذا كان العلماء يستطيعون تفسير ذلك وتبريره بلغة علمية، فإن العوام يشعرون بهذه القسمة في عقلهم الباطن، دون قدرة على التعبير.
وقد قدمنا فيما مضى بعض نصوص رجال المؤسسة الدينية التقليدية المعتبرين، التي تصرح بالتمييز بين الدين والفكر الديني، وأن الدين مجسد في نص القرآن الكريم، وحده لا شريك له.
مما يعني خروج كافة النصوص المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة، والفقهاء، من دائرة الدين إلى دائرة الفكر الديني (المذهب).
فإذا أضفنا إلى هذا التصريح اعترافاً آخر من جميع الفقهاء، بأن معظم النص القرآني ليس قطعي الدلالة، وأن كل فهم لنص ظني الدلالة لا يلزم إلا صاحبه، فقد وصلنا إلى أخطر النتائج على الإطلاق.
 وهي النتيجة التي تقول: إن النص القرآني ملزم للمؤمنين به، على وجه الإجمال فقط، أما عند التفصيل فإن النسبة الأقل من نصوصه هي الملزمة للجميع.
ونعني بها ذلك المستوى القرآني المحكم، الذي لا يقبل التأويل، وفق المرجعية البيانية للقرآن الكريم.
إن هذا المستوى المحكم من القرآن الكريم هو على وجه التحديد القدر المتفق على مرجعيته للدولة والمجتمع، أما الآيات التي تقبل التأويل والفهم على أكثر من وجه، فهي مرجعية ملزمة لأفراد المجتمع دون المجتمع نفسه.
 على اعتبار أن كل فرد مسلم ملزم أمام الله بما فهمه من هذه النصوص، حسب وسعه العقلي، وأن الدولة هي الكيان الذي يعبر عن مصالح الجميع ورغباتهم، دون تمييز بين أفرادها على أي أساس غير موضوعي.
أما إذا علمنا أن النص التشريعي هو جزء من النص المحكم المحدود، وليس كل النص المحكم، وأن الجزء العقائدي من هذا النص المحكم لا يعد مشكلاً سياسياً حقيقياً عند العلمانية نفسها، فقد ضاقت دائرة المرجعية الدينية للدولة إلى أضيق الحدود، بحيث لا يبقى منها إلا النصوص القانونية الصريحة، وإلا المبادئ الأخلاقية العامة، المتوافقة مع المقاصد العامة للدين، وهي مبادئ ومقاصد إنسانية لا تجد العلمانية في رفضها حجة متينة.
وإن معظم النصوص القانونية القرآنية التي تثير النزاع بين العلمانية التقليدية والإسلام، هي من تلك النصوص التي تقبل التأويل وإعادة التفسير، وفق القواعد اللسانية المعتبرة لدى الجميع.
 وهو ما يعني أنها ستعد على الإجمال من قوانين الدولة، أما على التفصيل فإنها ستفضي إلى آراء مذهبية لا تلزم الدولة، إلا في حالة واحدة، إذا قررت الأغلبية المذهبية أن تجعل مذهبها - بحكم الديمقراطية - مرجعاً للدولة.
لكن هذا الاحتمال الأخير إذا حدث سيكون بشرط واحد متفق عليه، هو أن ينظر إلى هذه الآراء المذهبية على أنها قوانين مدنية لا أحكام دينية، بوصفها أثراً من آثار العقل البشري الذي لا ينتج القداسة. مما يعني أنها خاضعة - بحكم الديمقراطية أيضاً - للنقد والمراجعة والرفض، من قبل المعارضين على الأقل.
 وهنا سيكون الفصل بين الجيد والرديء من القوانين والمرجعيات مرهوناً بمستوى وعي الجماهير الناخبة، وعلى هذا سيجري الصراع الفكري بين النخب التنويرية والقوى الظلامية.
ومن بين تلك الخلافات التقليدية التي نقدر أن تختفي بين العلمانيين، والإسلاميين الراديكاليين، تلك الخلافات الناشبة حول بعض التشريعات الدينية التي تمس حقوق الإنسان، مثل: عقوبة المرتد، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق؛ لأن بعض هذه العقوبات (الردة ورجم الزاني المحصن) لم تقم على أساس علمي متين، ولم ترد بنص قطعي الدلالة والحجية والثبوت، ومن ثم فإنها - وفق الاعتبارات التي قدمنا - لا تعد جزءاً من الدين، وإنما هي جزء من التراث المذهبي الذي لا يلزم الدولة في شيء.
أما عقوبة قطع يد السارق، فهي - على الإجمال - عقوبة ملزمة؛ لكونها وردت بدليل قطعي الحجية والثبوت، هو النص القرآني.
 إلا أنها عند التفصيل ستفضي بنا إلى رأي مذهبي، إذا ما تبين لنا أن نص هذه العقوبة يقبل التأويل والتخريج على أكثر من وجه، وهو ما أثبته كاتب هذه السطور - على الأقل - في مناسبات سابقة قبل سنوات.
 مما يعني أن الآراء المختلفة في تأويل هذا النص لن تكون جزءاً من الدين، ومن ثم فلن تكون جزءاً من المرجعية الدينية للدولة الإسلامية، ومن حق المشرع في هذه الحالة أن يختار ما يراه مناسباً من الآراء عند التقنين لعقوبة السرقة، بشرط أن يعترف بكون الرأي الذي سيتحول إلى قانون جماعي، جزءاً من القانون المدني، لا جزءاً من الدين.
نخلص من كل ما مضى إلى تقرير حقيقة واضحة يشعر بها الجميع، وإن كان البعض يعجز عن التعبير عنها في بعض الأحيان.. هذه الحقيقة تقول: إن الدين هو النص السماوي المتفق على حجيته وثبوته فقط، وإن التدين هو الحالة الفردية لتطبيق هذا الدين، أما الدولة فهي كيان اعتباري لا دين له، لكنه كيان قانوني، من حق الأغلبية الثابتة أن تشكله بما لا يتعارض مع الحقوق الطبيعية للإنسان.
وهذا ليس منطق الديمقراطية وحسب، ولكنه منطق الإسلام نفسه؛ لأن الإسلام - بعد استبعاد خرافة حد الردة - لن يختلف عن الديمقراطية في أية مسألة جوهرية؛ إذ إن حرية الاعتقاد والتدين المكفولة بنص قطعي في القرآن الكريم تعطي الفرد والجماعة كامل الحقوق التي تعطيها له الديمقراطية، بل وترتفع بها إلى مستوى الواجبات.. هذا على مستوى الحياة الدنيا، أما على مستوى الحياة الأخرى فإن الحساب سيكون فردياً على قدر وسع الإنسان من الفهم والصدق.
تلك هي الصيغة الإجمالية لمفهوم العلمانية الثالثة كما نقترحها للمجتمعات الإسلامية، نضمها إلى رأينا في حقيقة موقف الإسلام من منصبي الخلافة والإمامة، الذي نشرناه على صفحات (الجمهورية) في وقت سابق، في مقال بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”، وأثبتنا فيه بأدلة واضحة أن منصب الإمامة أو الخلافة ليس منصباً دينياً، وأنه لا القرآن ولا رسول القرآن أعطيا منصب الرياسة ونظام الحكم اهتماماً يذكر.
 مما يعني أننا أمام حالة من العلمانية الإسلامية لا يستطيع المتنطعون إنكارها إلا على سبيل المكابرة والتمحل.
إن سرّ قوة هذه الأطروحة أمام رجل الدين، المعارض الافتراضي، هو في أنها جاءت وفق التقاليد الأصولية المعتبرة لديه، وفي مذهبه، وأي إنكار لها هو إنكار لتك التقاليد، أو إنكار لصحة تطبيقها، وهو في الحالة الأولى مغامر متهور، وفي الحالة الأخرى مجرد مخالف في تطبيق المنهج، وما أكثر الخلاف والمخالفين

العلمانية الثالثة - الجزء السادس

            إذا كنا نقول: إن وظيفة الإفتاء ليست وظيفة دينية، وإنما هي وظيفة مدنية، وإن الدين والمجتمع الإسلاميين ليسا بحاجة إليها، وإن المسلم لا يكلف أمام ربه إلا بما يطيقه وسعه في المعرفة، وإن المسلم العادي لا يمكن أن يطيق فهم الوسائل العلمية التي يتوسل بها الفقهاء في استنباط الأحكام، ومن ثم فإنه غير ملزم بمخرجات هذه الوسائل من الأحكام، فضلاً عن كونها منتجات مدنية لا دينية؛ باعتبارها أثراً من آثار العقل البشري، والعقل لا ينتج القداسة والدين، وإنما ينتج فكراً دينياً.
إذا كنا نقول ذلك، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو: ما موقف المسلم من الأوامر والنواهي المجملة أو المبهمة في القرآن الكريم؟ كيف نفهم - مثلاً - قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ. (المائدة6)، ونحن لا نعرف أين تبدأ حدود الوجه وأين تنتهي؟، هل يدخل الأنف والأذن في معنى الوجه أم لا؟!.
وجوابنا: إن هذه الطريقة من الاستقصاء والتفصيل، هي طريقة المغضوب عليهم من أهل الكتاب، التي حذر القرآن منها، وما قصة البقرة في سورة البقرة إلا نموذج ساقه القرآن؛ لكي نحذر من هذا السلوك النفسي المشين، فقد كان يكفي بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة - أي بقرة - وستفي بالغرض، لولا ادعاء الحرص والتكلف الزائدين.
وكذلك الحال مع غسل الوجه في الوضوء، وغيره من الأحكام، لا تحتاج إلى كل هذا العناء والنصب، فالعربي يعرف - على وجه الإجمال - معنى الوجه، وهذا يكفيه في تحقيق الغرض، فمن ظن أن الأنف والأذن والحنجرة داخلة في معنى الوجه، فذلك شأنه، ومن اعتقد أن ظاهر الوجه هو الوجه، فذلك يكفيه، وكلاهما في الوضوء سواء..!.
ومن المعلوم أن الأحكام التعبدية والاعتقادية الواجبة، قد وردت في القرآن بلغة واضحة ميسرة: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. (القمر17). لغة يفهما أدنى مستوى من العقل.
 وهذا هو سرّ وجوب أحكامها على الناس كافة، وإن جاء بعضها مجملاً فإن ذلك من عادات اللسان العربي، يمارسها بصورة يومية، ويفهم أصحاب اللسان المقاصد والأغراض، دون حاجة إلى مفتٍ.
ولا يحتاج المسلم لأن يتعرف على هذه الأحكام كل يوم وكل شهر وكل سنة، من فم المفتي، كما يفعل العاطلون عن العمل، والعاطلون من العقل، وإنما يكفيه أن يعلمها مرة واحدة في العمر، كما يعلم الطريق إلى بيته، ليمضي فيه بقية عمره.
وإذا ساقته نفسه الأمّارة بالفضول إلى طرح الأسئلة التفصيلية، فإنه في هذه الحالة لن يحتاج إلى المفتي، بل يكفيه ما وصل إليه عقله من قناعات فيها؛ لأن الإنسان مسؤول عن قناعاته أمام الله، لا عن قناعات المفتي..!.
قد يقول أحد المتطيرين: إن هذه الطريقة ستضيع الدين وتجعله عرضة للعبث.. وهذا كلام هلامي لا يعرف رأسه من رجليه؛ لأنه لم يضع لنفسه ولنا، حدود هذا الدين الذي سنضيعه.
ومن الواضح أنه يخلط بين الدين المنزل من السماء، وبين الفكر الديني النابت من الأرض. ونحن بدورنا نحب أن نؤكد له أن هذه الطريقة هي التي ستحفظ تدين الناس من الزيف والرياء، وستعيد إلى الدين حقيقته التي دثرها تراب الفكر الإسلامي التقليدي..!.
ذلك أن للحقيقة مظهران، أحدهما فردي والآخر اجتماعي، والمظهر الفردي هو الركيزة الأساس في التدين، بمعنى أن الله سبحانه يطلب الاستجابة من الفرد أولاً ثم من المجتمع، ولهذا فإنه يخاطب الفرد أولاً، ويشرع للفرد أولاً، وفي نهاية المطاف فإن الفرد وحده هو الذي يحاسب.
كما أن الإسلام قد ركز على المستوى النفسي الباطني، داخل البعد الفردي للخطاب، وجعله الأساس في التدين والاستجابة. وأعطى المستوى الخارجي للفرد أهمية ثانوية بعد المستوى النفسي.
 يلحظ المتابع ذلك في أكثر من مظهر؛ منه - على سبيل المثال - ترتيب مستوى الذنوب من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يكون مستوى الذنب صاعداً من الحسي (الخارجي) إلى المعنوي (الباطني)، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (الأعراف33).
“فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه، وهم الإثم، والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم”. حسب عبارة ابن قيم الجوزية.
والشاهد فيما مضى هو أن النص القرآني قد تعمد ترك مساحات مجهولة في مجال التدين؛ لأن هذه المساحات هي مجال اختبار الإرادة وصدق التوجه؛ لأن المسلم إذا صدق في عبادته فإنه لا يحتاج إلى مفتٍ يبين له طريق الحق من طريق الباطل؛ إذ يكفيه أن يسأل ضميره الحيّ: هل هذا مما يتفق مع روح الإسلام أم لا؟ ولابد أن يهديه ضميره إلى الجواب الأمثل، وبهذا يظل ضميره حياً يقظاً طوال الوقت.
وإن للإسلام خصائص عامة، يدركها أي مسلم، مهما كان مستوى عقله. يدركها لكثرة تعرضه للخطاب القرآني، ومعرفة اتجاهاته العامة، كما يعرف الاتجاهات العامة لسياسة الدولة، دون أن يكون خبيراً في العلوم السياسية. مثل تلك الخصائص التي تحدث عنها سيد قطب في كتابه: “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”.
فالربانية والتوازن والإيجابية والواقعية، معاني يستطيع إدراكها أي مسلم بسيط، حتى لو عجز عن التعبير عنها. وإذا حدث وعجز الفرد المسلم عن إدراكها، فإن المسؤول الأول عن ذلك هو الخطاب الديني الزائف الذي شوّش الفطرة وشوّه الدين.
يكفي أن يسأل المسلم نفسه، أمام أي عمل من الأعمال: هل هذا العمل رباني، إيجابي، متوازن، واقعي؟. فإذا أجاب ضميره بـ”نعم”، فذلك مما يحبه الله ويرضاه، وإن أجابه بـ”لا” فهو مما ينبغي تركه، هكذا بمنطق الفطرة البسيط، دون حاجة إلى فضيلة المفتي وفضلاته..!.
أما إذا كان المسلم سيء الطوية، فإنه - خوفاً من المجتمع لا خوفاً من الله - سيبحث عن الفتوى التي تعفيه من ملامة الناس، في بعض الأحيان، فإذا قال له المفتي: إن زواج التحليل شرط في صحة زواجه بعد الطلقة الثالثة، فإنه قد يكتفي بعقد زواج المحلل، وسند الطلاق، لكي يعود إلى زوجه، سواء صح هذا الفعل عند الله أم لم يصح.
إن وظيفة المفتي تترك آثاراً سلبية على الحياة الإسلامية برمتها؛ لأن هذه الوظيفة تأتي على حساب الرقابة الذاتية للفرد المسلم، المستهدف الأساسي بالخطاب القرآني.
كما أنها تبرر في الحس الإسلامي - بوعي أو بدون وعي - وجود طبقة من الوسطاء الكهنة، بين المكلفين وبين ربهم، وهو الخطأ الذي وقعت فيه المجتمعات الكتابية السابقة.
ومما يجدر ذكره أن وظيفة المفتي هذه لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي الأول، بعد انقطاع الوحي. وكل ما جمعه المسلمون من آراء للصحابة، لم يكن في حقيقته من باب الفتوى، بل من باب الاجتهاد الذاتي التلقائي، الذي لا يلزم أحداً.
وإن الناظر في المواقف المنسوبة إلى شخصية كعمر بن الخطاب مثلاً، يلحظ بجلاء أن الرجل لم يكن يعتمد في استنباطه للأحكام السياسية على الآلة الأصولية الصورية، التي رسم أصولها لاحقاً الإمام الشافعي، متأثراً بالمنطق الأرسطي. بل كان يعتمد نوعاً من النظر العقلي الإجمالي للنص القرآني. قريباً من الطريقة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أي النظر إلى الخصائص العامة للإسلام، لا إلى الأحكام التفصيلية.
فهو حين أوقف توزيع الفيء على فاتحي العراق بما يخالف ظاهر النص القرآني، لم يعتمد طريقة الأصوليين في استخراج النتائج بعد استقصاء المقدمات، وإنما نظر بعين بصيرته، مستنداً إلى خبرته الإجمالية بالإسلام، فوجد أن هذا هو الأنسب، والأكثر اتفاقاً مع ربانية الإسلام وإيجابيته وتوازنه وواقعيته. هذه الخصائص التي تجلت في فلسفة القرآن تجاه المال في قوله تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ. (الحشر7).
إن هذا التصور لطبيعة الدين، سيخلق مجتمعاً راقياً، متسامحاً، بسيطاً. وقبل ذلك سيخلق مجتمعاً مؤمناً، يعرف أن الدين ضميرٌ حيٌ، قبل أن يكون طقساً اجتماعياً محفوفاً بالنفاق. كما أنه يكشف عن مساحات العلمنة الواسعة في الدين الإسلامي. وهي المساحات التي حاولت المؤسسة الدينية “البسط” عليها وضمها إلى أوقاف الفقهاء

العلمانية الثاثة - الجزء الخامس

هل وظيفة المفتي الشرعي وظيفة دينية يقرها الإسلام، أم أنها اختراع بشري، من اختراعات كثيرة قدمها المسلمون للبشرية؟!.
 هل يحتاج المجتمع المسلم إلى وظيفة المفتي حقاً أم أنها زائدة دودية لا حاجة له بها؟.

هذه هي الأسئلة التي أثرناها في سطور سابقة من هذا المقال، ووعدنا بالإجابة عنها بصورة مفصلة قدر ما نستطيع.
من المعلوم في الأوساط العلمية الإسلامية أن الأحكام لا تثبت وجوباً إلا بأدلة قطعية في الحجية والثبوت والدلالة. وهذه الشروط مجتمعة لا تتوفر إلا في بعض نصوص القرآن الكريم فقط. فهل هناك نص بهذا المستوى في القرآن، يحث على وظيفة المفتي الشرعي في الإسلام، ويحدد طبيعتها يا ترى؟.
المتابع لخطاب المؤسسة الدينية الإسلامية يجد أن لديها أدلتها وحججها في التشريع لوظيفة الإفتاء، إلا أنها أدلة واهية لا تثبت أمام النقد العلمي الفاحص. ومن ذلك احتجاجهم بآيات قرآنية من مثل قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة122).
إذ يعتقدون أن الآية تحرض على تأسيس طبقة من رجال الدين، يكون من مهامهم إفتاء الناس في كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين. وأمور الدين عندهم تشمل كل وجوه النشاط الإنساني، بما فيها طريقة الجلوس على مرحاض “التواليت” كما يزعمون، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يجتهد حتى في كيفية قضاء الحاجة..!.
بينما منطوق الآية لا يفيد سوى الحض على التفقه في الدين، وقد عرفنا معنى الدين فيما مضى، والفقه هو المعرفة الدقيقة بالدين، ومن هذه المعرفة الدقيقة أن يميز المسلم بين الدين والفكر الديني، وبين حدود الدين من حدود الدنيا. وليس في الآية ما يتجاوز حدود العلم بالنصوص المنزلة ودلالاتها العامة.
وهناك فرق بين أن يتعلم الناس الدين، على التفصيل السابق، وبين وظيفة الإفتاء المعروفة، ففي الحالة الأولى سيكتفي العامي بمعرفة ما هو في الدين بالضرورة، أي ذلك القدر من الدين الذي يعفيه من العقاب يوم الحساب، ويدخله الجنة، كما فعل عوام الصحابة ومن في عصرهم. بينما سيحاول المسلم المثقف التقدم إلى مناطق أخرى أكثر غموضاً ودقة، فيرتقي عند الله بقدر ما ارتقى في سلم العلم بها.
وفي الحالة الأخرى، سيضطر العامي والمثقف إلى معرفة ما فوق الضرورة الدينية، لا عن طريق التعلم الذي سيربي فيهما ملكة الفقه، وإنما عن طريق التلقين، الذي يحول صاحبه، بمرور الوقت، إلى مجرد كائن بليد ينفذ دون أن يعرف حقيقة ما يفعل.
بينما الحقيقة أنه لا المسلم العامي ولا المسلم المثقف يحتاجان إلى المفتي والفتوى؛ لأن المسلم العامي لا يمكن أن يكلف أمام الله، بما فوق وسعه من الفهم، وفقاً لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة286). وليس في وسع العامي أن يفهم طرق الفقهاء في الاستنباط والقياس، حتى يكون ملزماً بنتائج هذه الطقوس العلمية المعقدة.
أما المسلم المثقف فإنه لا يحتاج إلى المفتي؛ لأنه إما يمتلك القدرة على فهم النصوص بنفسه دون معونة المفتي، وإما أنه لا يمتلكها، ومن ثم فهو ملزم فقط بما وصلت إليه مداركه، لا بما وصلت إليه مدارك غيره.
وهذا المنطق الذي نقول به ليس غريباً تماماً عن الفكر الإسلامي، فمن المعروف أن بعض الفقهاء، مثل ابن حزم، قد حرّم التقليد في الدين جملة وتفصيلاً، مطالباً جميع المسلمين بالاجتهاد، بما فيهم العوام والجهلة؛ لأن اجتهادهم لن يكون إلا بقدر وسعهم، ووسعهم لن يقل عن مستوى المحكم، الذي هو معلوم لكل الناس بالضرورة. ومن حسن حظنا أن جمهور الفقهاء قد حرم التقليد على المجتهد القادر على النظر والاستنباط.
كما أن المؤسسة الدينية تحتج بمثل قوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (النساء83). معتقدين أن الآية تدعو المسلم إلى الرجوع بكل ما يلمه من المسائل إلى حضرة المفتي، الذي كلف باستنباط الأحكام الشرعية من مظانها، على ضوء القواعد والأصول التي وضعوها لأنفسهم.
بينما منطوق الآية يتحدث عن “الأمن” و”الخوف”، وهي شؤون سياسية بحتة لا دخل للدين بها، يدخل فيها اليوم ما يسمى بالأمن القومي للدول. ورد هذه الأمور إلى الرسول، يعني إرجاعها إلى شخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بوصفه ولي أمر المسلمين الأول آنذاك، لا بوصفه النبي الرسول كما يعتقد بعض الفقهاء والمشائخ.
ومن القرائن الدالة على صحة ما نقول: إن الآية لم تطالب بإرجاع الأمر إلى الله والرسول كما تعودنا في آيات أخرى شبيهة، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. (النساء59).
ذلك أن عبارة “تنازعتم في شيء” تشمل النزاع في الدين والدنيا، كما تشمل نزاع القلوب ونزاع العقول، وهذه الأنواع من الاختلاف بحاجة إلى مرجعية إلهية، تلتقي عندها قلوب المتنازعين قبل عقولهم، أما مسائل الأمن والخوف، وغيرها من مسائل الاجتماع السياسي، فلا تحتاج لأكثر من أهل الاختصاص في الدولة والجماعة.
إن آية (النساء83) هي واحدة من الآيات القرآنية التي تفتح باباً للعلمانية بمفهومها الإسلامي، حيث تجعل مرجعية القضايا السياسية مرجعية مدنية لا دينية، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الآية - كما قلنا - كان في مقام ولي الأمر لا في مقام المبلغ، ومقام الولاية السياسية هو مقام مدني لا ديني، كما هي طبيعته، وكما أثبتنا في مقال سابق نشر على صفحات (الجمهورية) بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”.
ومما يلفت الانتباه أن شمس الدين بن قيم الجوزية، في كتابه الموسوعي والمرجعي المسمى “أعلام الموقعين عن رب العالمين” لم يذكر آية واحدة في التشريع لوظيفة الإفتاء بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع حرصه الشديد على تأصيل كل شاردة وواردة في مجال الإفتاء، مما يدل على أن هذه الوظيفة قد تكونت بمحض الخلط وتقليد أهل الكتاب، لا استجابة لمطلب قرآني.
لكن، هل معنى ذلك أن لا يكون للإسلام (القرآن) علماء متخصصون يكشفون غامضه ويجلون أسراره؟!. بالطبع لا، فنحن لا نقصد ذلك؛ فالقرآن الكريم خطاب عام شامل، يقوم على شبكة نصية لغوية واسعة ومتنوعة، فيها الواضح الجلي وفيها الغامض الخفي، وما كان هذه صفاته فهو يحتاج إلى علماء متخصصين ولا شك.
غير أننا نؤكد مع ذلك على أمور، أولها: أن وظيفة هؤلاء العلماء والدارسين، ليست وظيفة دينية، بل وظيفة مدنية، مثلها مثل بقية وظائف العلم والمعرفة الأخرى. ومن ثم فإن الاختلاف معهم كالاختلاف مع علماء الأدب والفيزياء، لا فرق.
وثانيها: أن العلم بهذا الخطاب لا يشترط فيه أن يكون العالم مؤمناً زاهداً عابداً يمشي على الماء من فرط كراماته، بل يشترط فيه أن يكون مدركاً لطبيعة الخطاب ومرجعيته المعرفية وقوانين اللسان الذي نزل به، حتى لو كان من الكافرين بحجيته..!.
وآخرها: أن ما يلزم الفرد المسلم من هذا الخطاب أمام الله، هو فقط ما بلغه وسعه من الفهم، لا ما بلغ وسع العالم منه، ومن ثم فإن الفتوى والمفتي عملان لا معنى لهما في ظل هذه الحقيقة.. وللحديث بقية

العلمانية الثالثة - الجزء الرابع

        الآن، وقد ميزنا بين الإسلام والفكر الإسلامي، وقلنا: إن القرآن هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وما في حكمه من سنن ثابتة دل عليها القرآن دلالة صريحة، وإن الفكر الإسلامي هو كل فهم بشري لنص غير صريح من القرآن الكريم، مثل ذلك الفهم الذي جعل الحديث النبوي، وما يسمى بالإجماع، وغيرهما، من مصادر الشريعة..!.
وبعد أن ميزنا بين ثلاثة أنواع من مجالات النصوص القرآنية، هي العقائد والعبادات والمعاملات، حسب التقسيم التقليدي للفقهاء، فقد أصبح من حقنا أن نسأل: ما هي المساحة التي يشغلها الدين من حياة الإنسان المسلم؟ هل يشغل كامل النشاط الإنساني، أم يشغل نشاطات بعينها دون أخرى؟ كيف؟.
هناك عدد من الفروض المحتملة في هذا الشأن؛ أولها أن يكون الدين مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة قانونية، وثانيها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية فقط، وثالثها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية وعلى بعض جوانبها هيمنة قانونية.
لكي تكون الإجابة وجيهة ومقبولة لابد من استنطاق القرآن الكريم نفسه؛ فهل في القرآن نص يحسم هذه المسألة؟. والجواب: ليس في القرآن الكريم نص قطعي في تفصيل هذه المسألة، لكن فيه نصوص موهمة يفيد ظاهرها الشمول والإحاطة، مثل قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.(النحل89). وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(الأنعام162).
وقد اعتقد كثير من الناس أن عبارة “تبياناً لكل شيء” في آية النحل السابقة، تعني الإحاطة والشمول، وهو فهم قاصر نتج عن ضعف معرفة بلسان العرب، الذي هو المرجع في لغة القرآن الكريم. بينما هي في هذا اللسان كناية عن الكثرة والاتساع، ضمن مجال الاختصاص. هكذا وردت في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى على لسان الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. وعن سليمان: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16]. وعن موسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145].
ولم يقل أحد أن ملكة سبأ أو النبي سليمان قد أوتيا من كل شيء بالمعنى الرياضي أو الفلسفي للعبارة، ولا أن ألواح التوراة قد شملت كل صغيرة وكبيرة في الحياة.
 وأظهر دليل على ذلك أن ظاهر العبارة يدل على أن ملك ملكة سبأ يساوي ملك نبي الله سليمان عليه السلام، وهذا خطأ لا شك فيه، ولا جدال، وكذلك فإن ألواح موسى - بعددها المحدود - لا يمكن أن تتناول كل صغيرة وكبيرة في الحياة، بحيث لا يفوتها علم من العلوم إلا خاضت فيه، وإلا لما احتجنا إلى نيوتن وإنشتاين وأحمد زويل!.
خلاصة الأمر هي أن عبارة كل شيء الواردة في القرآن الكريم لا تفيد الشمول المطلق كما يتبادر إلى أذهان العامة ومن في حكمهم من المفسرين، باستثناء ما جاء في حق الله تعالى مثل قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. (الزمر62)؛ لأن اختصاص الله هنا يشمل كل شيء في الوجود، على سبيل الحقيقة لا على سبيل الكناية والمجاز.
أما آية “الأنعام” السابقة فهي لا تفيد بعبارتها أن حياة المسلم ومماته يخضعان للتشريع والتقنين، وإلا فليقولوا لنا كيف يمكن تقنين الموت؟!. ودلالة العبارة هي الخضوع الباطني لله تعالى، والاعتراف بسلطانه الشامل على الوجود، لكن الله تعالى لم يرد أن يكون سلطانه الشامل تشريعياً على الناس، بل سلطان أخلاقي في المقام الأول، وإن غطى بالتشريع بعض أوجه نشاط الإنسان.
يبدو أننا قد حسمنا خياراتنا مبكراً، وقررنا اختيار الفرض الذي يقول: إن الدين - الإسلام - يغطي مختلف جوانب الحياة بمبادئه الأخلاقية العامة، لكنه لا يغطيها كاملة بتشريعاته القانونية.
وسنعرف لاحقاً ما الذي يترتب على هذا الاختيار، بعد أن نستكمل تأكيد هذه الفرضية وتفنيد الفروض الأخرى المقابلة؟.
إن الفرض الذي يقول بأن الدين هو علاقة بين العبد وربه، يعني في نهاية المطاف أن الدين – الإسلام - هو فقط مجموعة العقائد والعبادات، بالإضافة إلى بعض الأخلاق اللازمة للفرد، غير المتعدية للمجتمع.
 ومن معاني هذه العبارة - بقصد أو بدون قصد - أن شعبة “المعاملات” لا تدخل في نطاق الدين، وهذا أمر ترده النظرة الأولى في القرآن الكريم.
لكن الشيء الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن الأحكام التشريعية التي تطال العلاقات الاجتماعية - ومنها أحكام السياسة - لا تغطي كامل المساحة الاجتماعية، إذا ما اعتبرنا أن الأحكام الشرعية هي تلك التي نص عليها القرآن، بأية صورة من صور الدلالة الأربع، التي نقلنا عن عبدالوهاب خلاف من قبل، ولهذا تحديداً اضطر الفقهاء لصناعة أصول الفقه، حتى يستنبطوا على ضوئها ما يلزم من الأحكام المتجددة.
والشيء الذي لا نقره هنا هو اعتقادهم بأن ما ينتجونه على ضوء هذه الأصول، ووفق هذا المنهج يعد جزءاً من الإسلام (الدين)، بينما كان ينبغي القول: إنها جزء من بنية الفكر الإسلامي، التي هي بطبيعتها بنية مدنية، مادامت أثراً من آثار العقل الإنساني.
 والقول بأنها جزء من الدين، يعني - بالتضمين - أن الإنسان قد ينتج القداسة، مثل الإله تماماً، وهذا هو الشرك بعينه..!.
إن الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية الإسلامية، هو أنها حاولت تقنين كل أوجه النشاط الإنساني، ثم إضافة مخرجات هذا التقنين إلى دائرة الدين المقدس الذي يأثم منكره ومخالفه.
ولأن عملية التقنين هذه بطبيعتها واسعة النطاق، فقد كان لابد من وظيفة المفتي الشرعي؛ لأن المسلم العادي لا يستطيع أن يتعرف على كل الأحكام من تلقاء نفسه؛ إما بسبب كثرتها، وإما بسبب غموضها.
وإذا سلمنا بكون الفكر الديني هو جزء من بنية النشاط المدني للإنسان، فإن وظيفة المفتي تكون حينئذ وظيفة مدنية لا وظيفة دينية، مثلها مثل وظيفة المعلم، في أي مجال من مجالات التعليم الأخرى، مع فارق بسيط بين الوظيفتين هو أن وظيفة المعلم ضرورة اجتماعية، ووظيفة المفتي ضرر اجتماعي كبير، لا حاجة لنا به..!.
أما كيف تكون وظيفة المفتي خطأ إسلامياً وضرراً إنسانياً، وما علاقة ذلك بما نحن فيه من حديث عن العلمانية الثالثة، وغيرها من الأسئلة، فهي موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال

العلمانية الثالثة - الجزء الثالث

        هناك سؤال أولي وبسيط، لكنه على الرغم من أوليته وبساطته لم يطرح للنقاش العلمي، بصورة جدية حتى الآن، فيما أعلم.
 هذا السؤال يقول: ما هي الحدود الفاصلة بين الدين والدنيا؟ متى نستطيع القول: إننا الآن في دائرة الدين أو في دائرة الدنيا؟ ما هي نقاط الاشتباك والتداخل بين هذين المفهومين؟.
 وموضوع هذا السؤال هو الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، التي بدأنا الحديث عنها في الحلقة الماضية.
قد تغري بساطة هذا السؤال القارئ بالإجابة الفورية الواثقة، لكني أنصحه بالتأني؛ لأن بساطة هذا السؤال الظاهرية تخفي وراءها غموضاً شديداً، كما تخفي الأوراق الزاهية، في الزهرة القاتلة، حقيقتها الدموية.
وهو غموض ناشئ عن دقة وتداخل الحدود المشتركة بينهما، إلى حد يصعب على العين المجردة ملاحظة ذلك للوهلات الأولى.
وقبل البدء في مناقشة هذا السؤال، والبحث عن إجابة شافية له، ينبغي أن نجيب على سؤال استباقي يقول: ما الذي يترتب على معرفة الحدود الفاصلة بين هذين المفهومين؟!.
 والحقيقة أن ما يترتب على إجابة هذا السؤال خطير جداً، يكفي في خطورته أن تعلم أن وظيفة المفتي الديني في الحياة الإسلامية مرهونة به، وجوداً وعدماً، كما سنبين في سياق قادم.. فهل تتخيل معي كيف ستكون حياة المسلم من دون الفتوى والمفتي مثلاً؟!.
إننا إذا عرفنا حدود الدين من حدود الدنيا، وأثبتنا لكل منهما صورة مستقلة في الذهن والواقع، وعرفنا طبيعة التداخل والتشبيك الحاصل بينهما، فإنما نضع بذلك الحدود الفاصلة لوظيفة المفتي فلا يتجاوزها.
هذا على فرض أنها وظيفة دينية، وعلى فرض أنها تخدم الإسلام والمسلمين، وهي فروض غير صحيحة من وجهة نظرنا.
وسنكتشف في نهاية المطاف العلمي بأنه لا وجود لوظيفة المفتي في الإسلام أصلاً، وأنها كانت خطأ من الأخطاء الكثيرة التي اقترفناها في سيرنا الحضاري، دون دراسة وتحقيق!.
واستبعاد وظيفة المفتي من حياتنا سيكون ثورة لا مثيل لها في حياتنا العقلية والاجتماعية، إلا ثورة استبعاد الحديث النبوي من دائرة الدين، بوصفه جزءاً من تاريخ النبوة، لا من رسالة النبي.
 وبهاتين الثورتين يمكن القول: إننا قد تجاوزنا أكثر من نصف مشكلاتنا الحضارية المزمنة، المشكلات التي تعود في جذورها الأولى إلى علل في الخطاب الديني الزائف.
كما يترتب على التمييز بين هذين المفهومين - من الناحية السياسية - معرفة حدود الدولة من حدود الدين، وهو شرط الحديث عن العلمانية الأول.
والكاتب يدرك جيداً طبيعة الأسئلة والمشكلات التي قد تثار في وجه هذه الفكرة، وهو حريص على مناقشتها أكثر من غيره، لكنه يؤجلها إلى مكانها المناسب، بعد استكمال الإجابة عن سؤال الدين والدنيا: أين يجتمعان وأين يفترقان؟.
وسوف نستعرض الفروض المحتملة للإجابة على هذا السؤال، ثم نناقشها فرضاً فرضاً، وفقاً لنظرية كارل بوبر في استبعاد الخطأ، بوصفها أفضل طريقة نقدية في البحث العلمي، والفرض الذي يصمد أمام الامتحان هو الذي يستحق البقاء.
لكن قبل استعراض الفروض، دعني أذكرك بالقضية المبدئية في هذا السياق، وهي أن القرآن الكريم هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وفي مقامه ما دل عليه من سنن نبوية ثابتة، لها أصل ديني في القرآن الكريم نفسه؛ كما نقلنا عن الشيخين محمد البهي الخولي ومحمد الغزالي في الحلقة الماضية من هذا المقال.
 وهو الرأي الثابت أيضاً عن الإمام محمد عبده، والإمام الأكبر محمود شلتوت، وغيرهم من علماء المسلمين المعاصرين.
والقرآن الكريم كتاب يحتوي تشكيلة واسعة من القضايا والموضوعات، ما بين قصص وأحكام وتعليمات ومواعظ وحكم، تطال عوالم مختلفة، وأزمنة متعددة، ومخاطبين شتى.
 وقد حاول الفقهاء من قديم توزيع هذه التشكيلة النصية على “أنواع”؛ فنوع أطلقوا عليه اسم “العبادات”، وآخر أطلقوا عليه اسم “المعاملات”، وثالث أطلقوا عليه اسم “العقائد”.
على اعتبار أن “العبادات” في الأصل هي تلك الأعمال ذات الطابع الطقوسي الفردي، مثل الصلاة والصوم والحج وما شابهها، وأن “المعاملات” هي تلك الأعمال ذات الطابع الاجتماعي القانوني، مثل البيع والشراء، والطلاق والزواج، إلخ.. أما العقائد فهي تلك الأخبار التي ساقها الوحي عن عالم الغيب، باختلاف صوره، ومستوياته.
ولا شك أن لدى بعض النقاد ما يقوله على هذا التقسيم، مثل عدم وضوح الفرق - من الناحية اللفظية - بين العبادات والمعاملات، ما دامت المعاملات نفسها في نهاية الأمر تعد جزءاً من الأمور التعبدية، وكذلك تداخل العلاقة بين شعبة الأخلاق والشعب السابقة.
 لكننا مع ذلك لا نجد - في هذه الوقفة النقدية - مانعاً حقيقياً من اعتماد هذا التقسيم التقليدي لمجالات الدين النوعية، مادامت قدرتها الإجرائية كافية في تحقيق المسألة قيد البحث.
وأمر آخر نلفت الانتباه إليه، قبل انتهاء هذه الوقفة التحليلية، هو طرق إنتاج الدلالة في القرآن الكريم، فمن المعلوم أن القرآن الكريم ينتج دلالاته بطرق متعددة، ومختلفة في درجة البيان والإلزام، وهو في ذلك يسير على منهاج اللسان العربي، كما حدد لنفسه من البداية، وإن كانت له خصوصيته في استعمال قوانين اللغة وطاقاتها الكامنة، هذه الخصوصية هي التي منحته سرّ التفوق اللغوي على النصوص الأخرى، ذلك أنه النص الوحيد الذي وظف قوانين اللسان العربي في طاقتها القصوى.
وقد حاول الفقهاء الأصوليون من قديم حصر طرق الدلالة القرآنية، وخلصوا إلى نتائج قيمة في هذا السياق، يلخصها عبدالوهاب خلاف في الجملة الآتية: “النص الشرعي - أو القانوني - يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارتهِ، أو دلالته، أو اقتضائه؛ لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه. وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة”.
إن جملة خلاّف السابقة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لنا في هذا المقال؛ لأننا بعد أن حددنا صورة الوحي في القرآن الكريم، وحده لا شريك له، كان لابد أن نحدد الطرق المعتبرة في فهم هذا الكتاب؛ لأن ذلك هو الأساس في معرفة ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة فيه، ومعرفة القطعي من الظني هو الأساس الأول في معرفة الفرق بين الدين والمذهب؛ إذ إن المذهب الديني هو كل فهم بشري لنص ديني غير قطعي الدلالة أو الثبوت.
ومن المعلوم أن أكثر النص القرآني غير قطعي الدلالة، إما بسبب الخفاء، أو الإشكال، أو الإجمال، أو التشابه، في بعض نصوصه، ومن ثم فإنه لا يلزم المخالف منه إلا القدر المتفق عليه من المعنى، أما القدر المختلف فيه، فهو مما يلزم صاحبه أمام نفسه وأمام الله فقط، وهذا هو مقتضى رأي جمهور الأصوليين لحسن حظنا..!.
وحين يترجم هذا الكلام إلى مبدأ قانوني دستوري، فإننا نكون بإزاء أول خطوة في الطريق إلى العلمانية من منظور ديني.
 وخلاصة هذه الترجمة القانونية تقول: إن كل ما ينتجه العقل المسلم من أحكام مستنبطة من نص ديني غير قطعي الدلالة، فهو داخل في دائرة المذهب والفكر الديني لا في دائرة الدين، وكل ما كانت هذه طبيعته فهو منتج مدني علماني، حتى وإن جاء من أصول دينية..!. وهذا هو الذي سيقودنا في نهاية المطاف إلى إلغاء دور المفتي الديني برمته، كما سنبين في تفصيل لاحق.
إلى هنا نكون قد وضعنا العتبة الأساسية للدخول في مناقشة الفروض المحتملة لعلاقة الدين بالدنيا، وحدود هذه من تلك، ابتداء من الحلقة القادمة

العلمانية الثالثة - الجزء الثاني

          لا يمكن أن يكون الحديث عن علاقة الإسلام بالعلمانية، حديثاً منهجياً، ما لم نبدأ بوضع حدود واضحة لهذين المفهومين. وكان الجزء الأول من هذا المقال قد تكفل ببيان حدود العلمانية التي نعنيها في صف العلمانيات المعروضة. ونتوقع من هذا الجزء أن يتناول الحد الثاني في هذه الجدلية، وهو الإسلام، فما هو الإسلام يا ترى؟!.
إنه لشيء مؤسف حقاً أن يضطر كاتب اليوم إلى إعادة طرح هذا السؤال، بعد أربعة عشر قرناً من مجيء الإسلام. وما كنا لنطرحه لو كان هناك إجابة ناجزة. وكأن المسلمين لم يجدوا فرصة كافية خلال هذه القرون المتطاولة لتحرير أشهر مصطلح في حياتهم. وليس الأمر سهلاً كما قد يظن البعض، فإن غموض المصطلحات له عواقب وخيمة على الحياة العقلية، ومن ثم على مختلف وجوه الحياة. لأن المصطلحات الغامضة والفضفاضة كالعملة النقدية الزائفة، تمحق الاقتصاد/ الفكر بالتضخم.
وإذا قمنا بمحاولة عاجلة لتحقيق هذا المصطلح، فسنكون بإزاء ثلاثة معانٍ رئيسية على الأقل: الأول يشير إلى الإسلام في معناه التاريخي، أي الإسلام كما عرف في التاريخ. وقد عرف الإسلام في التاريخ بوصفه نقيض الديانات الأخرى، اليهودية والمسيحية والبوذية والمجوسية وغيرها. وهذا هو المعنى الشعبي والتقليدي لكلمة الإسلام، عند المسلمين وعند غيرهم.
والثاني يشير إلى المعنى القانوني للإسلام، وهو مستنبط من قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. (الحجرات14). فالإسلام في هذه الآية هو إسلام الظاهر، أي الإسلام الذي يحاسب عليه القانون، أما الإسلام الحق، فهو مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله.
أما المعنى الثالث للإسلام فهو الإسلام من المنظور الإلهي، أي الإسلام الذي عند الله، والذي جاء في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ. (آل عمران19). وهذا يشمل ما جاءت به كل النبوات وكل الرسالات السماوية، ويمثله الآن القرآن الكريم، باعتباره خلاصة الكتب السماوية جميعاً، منذ أن بدأت الرسالات مع إبراهيم (عليه السلام)، إلى أن ختمت بمحمد (صلى الله عليه وسلم): إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. (الأعلى 18-19). وهذا المعنى الأخير هو الذي ننطلق منه في حديثنا عن الإسلام.
هل اتضح الأمر تماماً؟.. بالطبع، لا. فما زال أمامنا صفاً طويلاً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة، منها هذا السؤال العاجل: إذا كان الدين عند الله الإسلام، والإسلام عند الله هو القرآن، فماذا عن الكتب السماوية الموجودة اليوم بين أيدينا، والتي اعترف بها القرآن من حيث المبدأ، كالتوراة والأناجيل، أو ما يسمى بالعهد القديم والعهد الجديد عند المسيحيين؟. وماذا عن الحديث النبوي؟ وماذا عن كتب المذاهب الفقهية والفكرية؟. ما موقع هذه الكتب من الدين؟!.
والسؤال الأول في مصفوفة الأسئلة السابقة، ليس ملحاً لنا نحن المسلمين اليوم، ولا يترتب عليه في موضوع العلمانية أثر يذكر، ما دام القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على الكتب كلها “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. (المائدة48). والهيمنة هنا مفهوم شمولي، يجعل النص القرآني هو “المعتمد” الأول والأخير في مجال الدين، وهو النص الذي لا يقبل النقاش لمن آمن به، أما ما عداه من النصوص فهو خاضع له خضوع القانون للدستور.
أما الجواب على سؤال الحديث النبوي، فقد فصلنا فيه القول في مناسبات أخرى سابقة ومعروفة لدى المتابعين، ومجمل القول فيه أن الحديث النبوي - حتى لو صحت نسبته إلى النبي - لا يعد جزءاً من الرسالة التي كلف النبي (صلى الله عليه وسلم) بإبلاغها للناس، وأنه - في حال ثبوته - يعد جزءاً من السيرة النبوية لا غير. وسيرة أي نبي تتضمن فهمه الشخصي للدين والحياة، لكن هذا الفهم - مهما كان فذاً - يظل محكوماً بشروط الزمان والمكان لا يخرج عنها، وهي شروط متغيرة بتغير العصور، على عكس الدين الذي يختص بسمة الثبات.
ولا مجال هنا لمزيد من تفصيل هذه المسألة ولا إيراد براهينها، فقد أفردنا لذلك دراسة وافية بعنوان “ هذا بيان للناس، حديث النبي من التاريخ لا من الدين”، منشورة قبل سنوات، في بعض المواقع الإلكترونية، وفي صفحة الكاتب على الفيس بوك، لمن شاء المزيد من التفصيل. إلا أننا معنيون هنا بالإشارة إلى حقيقتين لهما شأن بموضوع هذا المقال.
الحقيقة الأولى: أن القول بحجية الحديث، أو بعدم حجيته الدينية، هي _ في أدنى الاعتبارات _ مسألة خلافية بين مسلمين. بدليل أن أحداً من طرفي النزاع فيها لا يجرؤ على إخراج الآخر من الملة الإسلامية. وحتى إذا وجد في هذا الطرف أو في ذاك من يجرؤ على التكفير، فإنه سيظل حالة شاذة، أو محصورة داخل مذهبه، مما يعني أننا أمام حالة مذهبية بامتياز. وهذا ينقلنا إلى الحقيقة الثانية:
وهي أن الخلاف في المذهب ليس خلافاً في الدين، بل هو خلاف في فهم الدين. وعليه فإن من يزعم بأن مذهبه هو الدين، وأنه وحده جماعة المسلمين، فإنما يفتري على الله وعلى الناس الكذب. أما إذا تجاوز حد الزعم إلى حد الفعل، وذهب يرغم المخالفين على تبني مذهبه، بأي صورة من صور الإرغام، فإنه بذلك يعد خارجاً على حدود الدين نفسه، الذي ينهى عن الإكراه في الدين، بأي صورة من صور الإكراه، بنص قطعي الدلالة والثبوت: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة256).
وسيأتي معنا لاحقاً الجواب عن شبهة تقول: ماذا لو أن الأغلبية المذهبية _ بحكم الديمقراطية العلمانية _ أرادت أن تجعل مذهبها مرجعاً للدولة والقانون؟!. أما الآن، فلا بد أن نستكمل الجواب على سؤال المذاهب الفقهية والفكرية الإسلامية، ما موقعها من الدين؟. والإجابة عن هذا السؤال _ لحسن الحظ _ ليست معضلة، لأننا لم نجد قولاً معتبراً عند المذاهب المعتبرة يزعم أن مذهبه هو الدين نفسه، وأنه وحده جماعة المسلمين.
وحتى إذا وجد مثل هذا التهريج، فإنه سيظل رأياً شاذاً يتوارى خلف حجب التأويل من شدة الخجل، ويكفي في بيان زيفه أن نعلم أن الدين قد اكتمل قبل مجيء المذاهب جميعاً، مع قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً. (المائدة3).
نخلص من السطور الماضية إلى إقرار الشرط الأول من شروط تعريف الإسلام، وهو شرط الفصل والتمييز بين الدين / الإسلام، والفكر الديني / الإسلامي، باعتبار أن الدين / الإسلام هو ذلك المنزل السماوي المتفق على حجيته وثبوته، وأن الفكر الديني / الإسلامي هو ناتج دوران العقل حول النص الديني، فيما يسمى بعملية الاجتهاد والتدبر. وهذا الناتج بطبيعته لا يكون إلا بشرياً.
وقد بينا سلفاً أن المذاهب جميعاً تعد جزءاً من بنية الفكر الديني لا من بنية الدين نفسه. سواء أكانت مذاهب فقهية أو كانت مذاهب فكرية، وسواء أكانت مذاهب فردية أم جماعية، وسواء أكانت مذاهب تاريخية أم معاصرة. ويدخل فيها بالطبع المذهب القائل بعدم حجية الحديث النبوي، لقيامه على نفس الأصول والقواعد المعتبرة لدى المذاهب الأخرى، على الأقل.
وهذا الفصل المبدئي بين الإسلام والفكر الإسلامي ليس جديداً، فقد تعارف عليه المفكرون الإسلاميون منذ بدايات القرن العشرين تقريباً، وهاهو شيخ الإسلاميين محمد الغزالي يؤكد هذه الحقيقة في واحد من أقدم كتبه، هو كتاب “ ليس من الإسلام”، وينقلها بدوره عن واحد من كبار علماء الدين آنذاك هو الشيخ محمد البهي، الذي يقول بالنص: “إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه”.
ليس هذا فحسب، بل يذهب الشيخان خطوة أخرى أكثر جرأة وأكثر تحديداً، في بيان الحدود الفاصلة بين الإسلام والفكر الإسلامي، فيقولان: “والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه منه”!.
وهذا التعريف للوحي يتطابق تماماً مع تعريفنا له، وهو التعريف الذي يؤاخذنا عليه المشائخ والدعاة منذ أن طرحنا قضية حجية الحديث النبوي في الصحافة قبل سنوات. والفرق بين موقفنا وموقف الشيخ الغزالي، بعد ذلك، هو أننا ذهبنا وراء هذا التعريف إلى نهايته المنطقية، بينما تذبذب موقف الشيخ الغزالي منه في مواضع عديدة من كتبه.
وتكمن أهمية التعريف السابق للوحي في أنه استبعد تماماً الحديث النبوي من مجال الرسالة، واعترف فقط بالسنن التي ثبتت بالتواتر العملي، بنقل الكافة عن الكافة، وثبت أصلها الديني في نص القرآن الكريم. وهذه السنن كما يعلم المختصون محدودة للغاية، ولا تثير في الفكر الإسلامي أي معضلة حقيقية، فما بالك بالفكر السياسي.
أما ما يسمى بالحديث النبوي _ ومثله الآراء الفقهية _ فإنه لا يدخل ابتداء تحت مسمى السنن عند الأصوليين واللغويين، فضلاً عن اتفاقهم الصريح على كونه لم يثبت بطرق متواترة، كما ثبت القرآن والسنن العملية. وهذا وحده كافٍ في حسم المسألة، وإخراج محل النزاع من دائرة الدين المتفق على حجيته وثبوته، إلى دائرة الفكر الديني المتنازع عليه اجتهاداً.
والحسم هنا لا يعني _ بالضرورة _ اقتناع الطرف المخالف بهذه الحقيقة، لأن المذاهب عادة لا تسلم لخصومها بإصابة الحقيقة، وإنما يعني أن هذه التخريجة الأصولية لموقع الحديث من الدين، قد جاءت وفق القواعد والأصول المعتبرة لدى الطرف المخالف، وما دام الأمر كذلك فليس في استطاعته استبعاد الطرف الآخر من دائرة الإيمان، إلا إذا تناقض مع أصوله وقواعده المذهبية!.
ذلك هو الشرط الأول في فهم الإسلام، شرط الفصل والتمييز بين ما هو إسلام وما هو فكر إسلامي. والخلط بينهما ليس فقط خطأ في المنهج، بل إنه خطأ في العقيدة نفسها، لأنه يوقع صاحبه في مظنة الشرك بالله، ما دام هذا الاعتقاد قائماً على أسس ظنية غير محكمة، و” إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً. (النساء48). أما الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، فهو موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال، وهو شرط معرفة حدود النشاط الديني

العلمانية الثالثة - الجزء الأول

           
             في عدد سابق من “الجمهورية” نشر صاحب هذه السطور مقالاً بعنوان “العلمانية.. خارطة طريق جديدة”؛ اقترح فيه صيغة جديدة لمفهوم العلمانية، تتفق مع الخصوصية الدينية للمجتمع الإسلامي، وتزيل نقاط التوتر والاشتباك المفتعلة بينهما.
قامت هذه الصيغة على أساس إعادة تعريف كل من المفهومين الإشكاليين: العلمانية والإسلام، وبيان عناصر الاتفاق والافتراق بينهما، من خلال استبعاد الزوائد التاريخية الطارئة عليهما.
 وتلك هي الخطوة المنهجية الأساسية في إنتاج الصيغة الجديدة لمفهوم العلمانية.
وخلصنا من عملية التأصيل تلك إلى نتيجة أساسية، تقضي باستبعاد مفهوم العلمانية الشاملة، كما بينه الدكتور عبدالوهاب المسيري، في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، والتحفظ على مفهوم العلمانية الجزئية، التي اقترحها المسيري للمجتمعات الإسلامية.
ذلك أن العلمانية الشاملة تعني فصل القيم الدينية عن الحياة، وأن العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة، وكلاهما غير قابل للتطبيق في المجتمعات الإسلامية، لاعتبارات ديمقراطية، قبل الاعتبارات الدينية والثقافية.
ثم اقترحنا صيغة ثالثة للعلمانية هي الأكثر ملاءمة للحالة الإسلامية - من وجهة نظرنا - هي صيغة فصل الدولة عن المذهب؛ ونقصد بالدولة الكيان السياسي السيادي، أي نظام الحكم، كما نقصد بالمذهب: الأيديولوجيا السياسية، سواء أكانت نابعة من مصادر دينية أو كانت نابعة من مصادر مدنية، فالتشيع مذهب، والتسنن مذهب، والنازية مذهب، والشيوعية مذهب، كما أن كل فهم شخصي لنص ديني غير قطعي يدخل في باب المذهب لا في باب الدين، كما سيأتي تفصيله في مناسبات قادمة.
وكان بعض الإخوة المهتمين قد اطلع على المقال، وأشاد به إشادة مصحوبة بملاحظة نقدية أساسية، هي أن المقال المشار إليه جاء بلغة مكثفة مضغوطة، مع أن طبيعة الموضوع وأهميته كانتا تقتضيان البسط والاسترسال.
 وهي ملاحظة صحيحة، لها عند الكاتب ما يبررها، من تلك المبررات ظن الكاتب أن الفكرة ستخلق جدلاً علمياً لدى القراء المهتمين؛ باعتبار طرافتها وأهمية الموضوع في اللحظة السياسية الراهنة، ليس على مستوى الساحة اليمنية فحسب، وإنما على مستوى الساحة الإسلامية برمتها.
وكان هذا الجدل - لو حصل - كفيلاً بإثراء الموضوع، والكشف عن غوامضه، من قبل الكاتب نفسه، ومن قبل الأطراف الأخرى.
لكن سرعان ما تبين للكاتب أن الناس في حفلة “زار” سياسي طويلة، وأن الظروف غير مواتية للحديث في الفكر السياسي، إلا بعد انتهاء الحفلة!؛ لأن حفلات “الزار” بطبيعتها لا تحتمل التأمل والتفكر العميقين، كما يتطلب الفكر.
ومن هنا فقد قنع الكاتب بتحويل الموضوع إلى مشروع كتاب موسع، يصدره لاحقاً، عندما تسمح الظروف، لعل قارئاً عابراً يجد فيه ضالته يوماً ما.
إلا أن رغبة هؤلاء الإخوة، في إعادة طرح الموضوع على شكل مقال صحفي، بصورة أكثر تبسيطاً، لابد أن تحترم. وهو ما ننوي فعله في هذا المقال المسلسل؛ الذي نتوقع أن يجيب عن الأسئلة الآتية: هل العلمانية ضرورة سياسية أم ترف فكري؟ هل تتناقض مع الإسلام حقاً، أم أن الخصومة بينهما مفتعلة؟، هل المشكلة في العلمانية أم في الإسلام أم في فهمنا لهما؟.
وبما أن طرف العلمانية هو أبسط طرفي هذه الجدلية، فإن البدء بمناقشته هو أسلم الخيارات، حتى يتسنى لنا التفرغ لمناقشة المفهوم الأكثر إشكالاً، وهو مفهوم الدين/ الإسلام.
يرى الدكتور المسيري أن العلمانية ليست مفهوماً استاتيكياً ثابتاً، وإنما هي متتالية زمنية، أخذت في كل عصر صورة مختلفة عن الأخرى، والاختلاف هنا لا يعني بالضرورة التناقض والتعارض، وإنما قد يعني أن حدود هذا المفهوم كانت تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر، فالعلمانية في البداية ظهرت كنقيض للسلطة السياسية الدينية، سلطة الكنيسة تحديداً.
 ومن هنا جاء شعار “فصل الدين عن الدولة”، إلا أن المسيري ينبه - في ملاحظة ذكية - إلى أن الدولة نفسها، وقت صك الشعار، لم تكن قد توسعت إلى الحد الذي نراه الآن، ومن ثم فإن حدود العلمانية في ذلك الشعار كانت أضيق بكثير مما لو طبقناها على الدولة في شكلها الأحدث.
إلا أن كثيراً من المثقفين الغربيين ثم العرب، قد استعملوا لفظ العلمانية بعد ذلك للدلالة على ظواهر أخرى أكثر اتساعاً وشمولاً، حتى صارت تعني في معظم الأحيان نقيض الديني.
 وقد أطلق بعض المفكرين الإسلاميين اسم العلمانية “الدهرية” على الشكل المتطرف من العلمانية؛ استنباطاً من قوله تعالى على لسان بعض الملحدين القدامى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الجاثية24، وهي كما ترى علمانية إلحادية تفصل القيم الدينية عن الحياة برمتها.
وقد أطلق المسيري على العلمانية في صورتها الأولى اسم “العلمانية الجزئية”، وعلى العلمانية في صورتها المتطرفة اسم “العلمانية الشاملة”، واعتبر هاتين العلمانيتين هما الطرفان النموذجيان للمتتالية العلمانية الزمنية، ثم رشح العلمانية في صورتها الجزئية، لتكون هي خيار العالم الإسلامي.
ويمكننا أن نخرج من كلام المسيري بنتيجتين، الأولى: أن الحديث عن العلمانية دون تبيين حدودها الدلالية المقصودة هو عمل تنقصه الدقة والموضوعية، ومن ثم فإنه أشبه باللغو، ومن حق الناس جميعاً أن يلغوا لكن ليس من حق أحد أن يلزم الناس بلغْوه.
والأخرى أن من حقنا نحن المسلمين اختيار القدر الذي يلائمنا من العلمنة، إذا دعت الضرورة أو الحاجة السياسية لذلك، بشرط أن لا يأتي هذا القدر على حساب الحقيقة العلمانية نفسها، بوصفها فضاء إنسانياً ديمقراطياً، ثبت بالتجربة التاريخية أنه الحل الأمثل لكثير من مشكلات السياسة وشرورها.
وبشرط آخر أهم، هو أن لا يأتي هذا المنتج العلماني الجديد على حساب الحقيقة الدينية، التي اختارها المجتمع نفسه، وفق مبدأ الحق الطبيعي للإنسان.
والحقيقة الدينية المقصودة هنا، بالنسبة لنا نحن المسلمين، هي الوحي السماوي، المتفق على ثبوته وحجيته، فقط لا غير، وماعدا ذلك فإنه يدخل في باب المذهب، كما سنبين لاحقاً.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل هذا ممكن؟.. هل هناك صورة تحقق المعادلة الصعبة بين الإسلام والعلمانية، دون أن تفرط في حقيقة أي منهما؟.
 هذا المقال المسلسل هو محاولة للجواب عن هذه الأسئلة وعن غيرها، وقد حققنا نصف الإجابة في السطور السابقة؛ فيما يخص الجانب المتعلق بالعلمانية، أما النصف المتعلق بالإسلام فهو موضوع الحلقات القادمة من هذا المقال

العلمانية.. خارطة طريق جديدة


             أعادت الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة إلى طاولة النقاش عدداً من القضايا الإشكالية المزمنة في الفكر السياسي العربي، وفي مقدمتها مفهوما العلمانية والدولة المدنية، بعد أن ارتفعت أسهم هذين المفهومين في الأوساط الشعبية مؤخراً.
وهو ما ينذر بارتفاع حدة الصراع بين أطراف الخلاف التقليدي حولهما مستقبلاً، ولا شك عندي أنه سيكون خلافاً حميداً ما بقي في دائرة الفكر.
لكن يا ترى هل بقي شيء في مفهوم العلمانية يستحق النقاش، بعد كل المداد الذي أريق حولها في الفترات الماضية؟. ألا يصح عليها ما قيل في علم النحو العربي قديماً، من أنه قد نضج حتى احترق؟!. أياً ما تكن الإجابة فإن بقاء المشكلة العلمانية على المستوى السياسي يعني أن باب الكلام فيها مازال مفتوحاً ومبرراً.
 وانطلاقاً من هذا المعنى الأخير يتساءل الكاتب: هل العلمانية مشكلة عربية لا تقبل الحل؟. هل تشبه مشكلة الرجل القصير الذي لا يمكن أن يطول مهما حاول؟!.
يتطوع الكاتب بالإجابة عن هذا السؤال بالنفي. مستنداً في ذلك إلى عدد من الحقائق:
أولاً: إن العلمانية مفهوم مضطرب غير مستقر. ومن ثم فإنه مفهوم مطاوع، يمكن تحديده بما يتناسب مع خصوصيات مجتمعاتنا العربية والإسلامية**.
ثانياً: إن الخطاب الديني السياسي المناهض للعلمانية، يعاني من عيب خطير، لا يمكن تبريره، ولا مجال للشك فيه، هو عيب الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني؛ باعتبار أن الدين هو ذلك المنزل السماوي المقدس، وأن الفكر الديني هو ذلك المنتج البشري الناتج عن دوران العقل حول النص الديني.
 ثالثاً: وعليه فإن الزعم بوجود تناقض بين العلمانية والإسلام، قبل تحديد المفهومين، بصورة دقيقة وحاسمة، وقبل تخليصهما من الزوائد الطارئة عليهما، هو نوع من العبث الكلامي الذي لا يليق بأهل الفكر.
وإذا ما حسبتُ أن الحقائق الماضية محل اتفاق بيني وبين القارئ فإن المقام يقتضي طرح هذا السؤال: هل في الإمكان إعادة تعريف الإسلام والعلمانية دون المساس بحقيقتيهما الذاتيتين؟.
وبصيغة أخرى: هل في الإمكان اكتشاف العلمانية في الإسلام، أو اكتشاف الإسلام في العلمانية دون اعتساف أو تكلف يذهب بحقيقتيهما معاً؟!.
 وقبل أن يتطوع الكاتب بالجواب فإنه يود التأكيد على الحقائق الآتية:
1 - إن أية مقاربة لهذه المشكلة لا تتسم بالموضوعية هي مقاربة محكوم عليها بالفشل ابتداء، من أية جهة صدرت.
2 - إن الموقف التحليلي للمشكلة هو الأقرب نسباً إلى الموضوعية العلمية، على عكس الموقف الأيديولوجي الذي يتسم بطبيعته بالتحيز والتلوين.
3 - ستظل الأيديولوجيا هي مثار النقع في حياة العرب السياسية، ولا قرار للنظم السياسية، ولا للحياة الاجتماعية، مادامت الأيديولوجيا هي محور الصراع السياسي عندهم. 4 - لن تنتهي مشكلة العلمانية بمجرد تجاهل خصومها لها، ولا بمجرد تصلب دعاتها على أشكالها التقليدية.
وبناءً على المقدمات الماضية يمكننا طرح صيغة ائتلافية جديدة بين الإسلام والعلمانية، تحقق غايتهما الجوهرية (العدالة والسلام)، ولا تمس حقائقهما الذاتية، تقوم هذه الصيغة على مبدأ إعادة تعريف المفهومين المشكلين؛ فأما مفهوم العلمانية فقد حققه الدكتور عبدالوهاب المسيري، بصورة شبه وافية، في كتابه: “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، وهو الجهد الذي يستند إليه هذا المقال، وقد خلص المسيري إلى وجود طرفين نموذجيين في المتتالية الزمنية العلمانية: طرف العلمانية الجزئية، وهي تلك الحالة التي تفصل فيها الدولة عن الدين. (مع ملاحظة التطور التاريخي لمفهوم الدولة). وطرف العلمانية الشاملة، وهي تلك الحالة التي تفصل فيها الحياة عن الدين. ثم يرشح المسيري للمجتمعات العربية العلمانية في صورتها الجزئية.
وإذا كنا نتفق مع د.المسيري في تحليله للعلمانيتين وتفريقه بين نموذجيهما الرئيسين، كما نتفق معه في رفض العلمانية الشاملة، إلا أننا - لمبررات موضوعية - نتحفظ على قبول اقتراحه بجعل “العلمانية الجزئية” مشروعاً سياسياً عربياً. وذلك للاعتبارات الآتية:
1- ليس من منطق الديمقراطية أن يكون الدين مرجعاً لمجتمع ما، ثم لا يكون مرجعاً لدولة ذلك المجتمع.
2- في الإسلام نصوص قطعية لا يمكن فصلها عن الدولة؛ لأنها تستهدف نشاطات مشتركة، مثل نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ومنه تتأصل المعارضة السياسية)، ستظل مثار خلاف وقلق سياسيين.
3- الاستقراء الدقيق يدل على أن المشكلة ليست في الدين نفسه، بل في الفكر الديني النابت حوله. وتنحدر – تحديداً - من أربع مشكلات أصولية نوعية:
 الأولى، نصوص غير قطعية الدلالة.
 والثانية، نصوص غير قطعية الثبوت.
 والثالثة، نصوص غير قطعية الحجية.
والرابعة، قصور في الجهازين المفاهيمي والفني للمؤسسة الدينية التقليدية المنتجة للخطاب الديني.
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تطوير مقولة “العلمانية الجزئية” بحيث لا تتصادم مع الدين نفسه، ولا تبقي على مصادر القلق.
ويمكننا فعل ذلك باقتراح صيغة جديدة للعلمانية الجزئية هي صيغة “فصل الدولة عن المذهب”. سواء أكان مذهباً فكرياً أو كان مذهباً فقهياً. وسواء أكان مذهباً للفرد أم كان مذهباً للجماعة. وسواء أكان مذهباً تاريخياً قديماً أم كان مذهباً معاصراً. إلا أن من المهم أيضاً إعادة تعريف المذهب هنا، ليشمل كل نص يحتمل التأويل على أكثر من وجه. بحسب قواعد التأويل وشروطه المقررة في الأوساط والمؤسسات المختصة. ذلك أن المذهب لا يكون إلا فهماً ظنياً لنص غير قطعي. ولهذا فإن المذاهب لا يكفر بعضها بعضاً. ويكون النص ظنياً في ثبوته إذا لم يرد بطرق متواترة، وظنياً في دلالته إذا احتمل أكثر من تأويل.
نقترح ذلك استناداً إلى:
1- أن المذهب جزء من الفكر الديني لا من الدين. وما كان من منتجات البشر فهو محل أخذ ورد. وينطبق هذا الحكم على أصول المذهب قبل فروعه. وعلى أصول المذاهب وفروعها مجتمعة أو متفرقة.
2- أن معظم المذاهب الإسلامية المعتبرة لا يكفر بعضها بعضاً على الأصول أو الفروع المختلف حولها. مما يدل على أن الآراء ذات الطابع الخاص في المذاهب لا تعد من الضرورات الدينية التي يكفر منكرها عندهم. وعليه فلا فرق بين أن ينكر مذهب مذهباً آخر، وبين أن تنكر الدولة المدنية المذاهب المختلفة جميعها مادامت تعترف بالنص الأول (الدين) الذي نشأ حوله الخلاف.
3- دل الاستقراء على أن جميع المذاهب الإسلامية التقليدية – تقريباً - قد وقعت في الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني. وأظهر مثال على ذلك أن الأصوليين لم يتفقوا حتى الآن على معايير حاسمة في التفريق بين ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في مقام الدين (الرسالة) وما صدر عنه في مقام الاجتهاد. مع غموض شديد في مكانة الاجتهاد النبوي من طبيعة “البلاغ المبين” الذي كلف به النبي (صلى الله عليه وسلم). هذا فضلاً عن وجود كثير من المشكلات الأصولية ذات الخطورة النوعية، كحجية الإجماع، ونسخ القرآن للقرآن. وغيرها من القضايا التي يترتب على إعادة النظر فيها تعديلاً بنيوياً في فلسفة الدين نفسه.
وهنا قد يثور تساؤل من نحو: ماذا يتبقى في الدين بعد استبعاد المذاهب؟. وجوابنا واضح: يتبقى الدين الذي اكتمل قبل مجيء المذاهب!. أي مجموع النص الثابت بصورة قطعية. مقروءاً بمناهج أكثر تطوراً وارتقاءً. ونعلم أن كلمة “مناهج” هنا تثير عند البعض حساسية غير مبررة، ناتجة عن ضعف قدرتهم على التصنيف؛ إذ يعتقدون أن المناهج تدخل في باب المضامين. وأن المضامين غربية كافرة. بينما الحقيقة التي لا تخفى على المثقفين أن المنهج هو الطريقة، والطرائق من عالم الوسائل لا المضامين. ولا أظن أحداً من المعترضين يختلف معنا على الانتفاع بوسائل الغير ومواعينهم، إن كان لنا بها حاجة. وحتى لو جاءت بعض هذه الوسائل (المناهج) محملة بمنظورات غربية شاذة أو منحرفة، فإن الواجب أن نتعامل معها بحسب القاعدة المستنبطة من تعامل القرآن الكريم مع الخمرة. فننظر إن كان إثمها أكثر من نفعها رددناها، وإن كان نفعها أكثر من إثمها، قبلناها لصالح المؤمنين. وكثيراً ما فعل هذا رجال الفكر العربي في العصر الحديث. وبعضهم من المحسوبين على العلمانية والغرب!.
ومن بداهة القول: إن الذي يتصدى لعملية الحكم في صلاحية هذا المنهج أو ذاك من عدمها، هم المفكرون والفلاسفة، لا الدعاة والخطباء، لاعتبارات كثيرة منها:
 1- أنهم أصحاب هذا الاختصاص. أعني اختصاص تحليل المفاهيم والمركبات النظرية.
2- وأنهم هم الذين برعوا في نقد الحضارة عموماً، وفي نقد الظاهرة الغربية على وجه الخصوص. بينما برع الخطباء والدعاة في النقل عنهم بصورة قاصرة في أغلب الأحيان.
3 - أن مجموع من يسمّون بالعلماء والدعاة والخطباء الدينيين، هم - في أحسن أحوالهم - خبراء في ما قاله السلف الصالح. أي أنهم علماء بالتراث المذهبي لا بالدين ولا بالحضارة. وبما أن عالم المذهب يعد جزءاً من المذهب، فلا يصح أن يكون المذهب هو الخصم والحكم في الوقت نفسه.
إن استبدال شعار “فصل الدين عن الدولة” بشعار “فصل الدولة عن المذهب” هو حل يتسم بميزات كثيرة منها:
1- أن هذه الصيغة المعدلة لمفهوم العلمنة تحل العلمانيين من الحرج الذي يقعون فيه عند مطالبتهم باستبعاد الدين من الممارسة السياسية. ويوقع المذهبيين في حرج مماثل حين يصرون على جعل المذهب - وليس الدين - مرجعاً للدولة. وهو ما يعني تحييد أقوى حججهم في الصراع مع العلمانية.
2- هذه الصيغة كفيلة بطي معظم نقاط الخلاف بين التيارين الديني التقليدي وخصومه بمختلف مشاربهم، وخاصة تلك الخلافات الفقهية والفكرية حول قانوني العقوبات والأحوال الشخصية نحو: قوانين عقوبة الردة وعقوبة الرجم للزاني المحصن، وقوانين الزواج المدني وأنصبة المواريث، وغيرها من المفاهيم المشكلة أمام الحياة المدنية الحديثة!.
___________________________________________________
**(انظر: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - عبدالوهاب المسيري

الأربعاء، 6 فبراير 2013

عودة العقل

يضم الكتاب مجموعة منتقاة من مقالاتي التي نشرت خلال الأعوام الماضية، يجمع بينها هم واحد هو هم تحرير العقل العربي عامة والعقل اليمني على وجه الخصوص من مسلماته الزائفة، وأدواته العقيمة، اللاتي أثقلت كاهله وأحبطت مسيرته باتجاه البناء والتنمية. وقد جاء الكتاب تلبية لرغبة بعض القراء والأصدقاء الذين أشاروا علي بضرورة جمع ما تفرق من أفكار ومقالات بين دفتي كتاب يسهل الوصول إليه.

العنوان يحمل دعوة لإعادة تمكين العقل - الذي هو قرين النقد والإبداع ونقيض النقل والاتباع - في حياتنا. وهو يحاكي عنوانين للأستاذ توفيق الحكيم، الأول "عودة الروح" الذي يعد باكورة أعماله، والآخر عودة الوعي، الذي يعد أشهر أعماله السياسية.

يمكنكم تحميل الكتاب من هنا أو بالنقر على هذا الرابط:  goo.gl/MlTjRr