الاثنين، 23 ديسمبر 2013

قراءة جديدة ليوم السقيفة

الخلافة قرشية لأسباب سرية!
عرّف العلماء الفساد فقالوا: هو وضع الشيء في غير موضعه. فوضع الملح في الشاي إفساد للشاي، ووضع السكر في الطبيخ إفساد للطبيخ، ومثله وضع اللين في موضع الشدة، والعكس. وأخطر منها وضع شخص جاهل في منبر التعليم والتوجيه والخطابة لمجرد أنه يجيد زئير الأسود، وترديد الببغاوات، وإثارة غرائز الحقد والغضب الكامنة في صدور الذين طحنهم الفقر، والجهل، والمرض. إلا أن من أدق مظاهر الفساد عند المسلمين وضع (الذاكرة) في موضع (العقل)، وهو أخطر ما تفعله أمة تنوي القضاء على نفسها، إذا ما عرفنا أن الجنون في حقيقته ليس سوى غياب (العقل) وحضور (الذاكرة). وقد كان هذا النوع من الفساد هو أبرز ما حمله القرآن على الكفار في عصورهم الماضية. وسجل لهم هذا المبدأ المنحرف في أكثر من آية نحو قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. البقرة:170. والآية هنا تجعل اتباع الذاكرة (الآباء) نقيضاً لاتباع العقل. وتجعل الأول مذهباً للكفر، والآخر مذهباً للإيمان. فأصحاب الضلال يجعلون الآباء وعلومهم وتقاليدهم معيارا للحق والباطل، وأصحاب الإيمان يجعلون العقل معيارا لمعرفتهما. وهل هناك من الفساد واختلال الموازين ما هو أسوأ من أن تتحرك إلى الأمام وأنت تنظر إلى الخلف؟!. وحين تقرر أمة أن تجعل ماضيها حاضراً، ومستقبلها ماضياً، فقد قررت أن تقصي قوى التفكر والإبداع فيها، لصالح قوى التذكر والاتباع. ولا تسأل حينئذ عن مصير أمة هذا شأنها، إلا إذا كنت تجهل معنى فقدان العقل!.

ومن بين الآثار المدمرة لإقصاء العقل وتمكين الذاكرة في حياة المسلمين، أن واقعهم السياسي والاجتماعي والمعرفي، مرهون بتوجيهات التاريخ البعيد ومقرراته. فهم بدلا من البحث عن نظريات علمية مناسبة لواقعهم في هذه المجالات، يستدعون التاريخ لإعادة اجتراره وإنتاجه. فتاريخ السقيفة وصفين والجمل، ومخلفاتها السياسية والمذهبية، والعصبية، ليس ماضياً بقدر ما هو حاضرٌ متجسدٌ في كل ما نقول ونفعل ونأمل. وقد نشأ خطاب إسلامي ينتمي لإسلام ما بعد صفين أكثر مما ينتمي لإسلام ما قبل صفين. إلا إذ قيل إن الرسول وأصحابه كانوا ينتمون إلى أحد المذاهب الإسلامية السنية أو الشيعية مثلا. وإلا إذ قيل إن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ متون الحديث النبوي وتدوينه، مثلا آخر!. وليس لدى الباحثين اليوم من أنصار الحقيقة والعقل تجاه ماضيهم (وماضيهم هنا هو تراثهم وذاكرتهم الجمعية) إلا أحد خيارين: الأول: إعادة تصحيح هذا التراث، والآخر: إعادة قراءة وتأويل ما صح منه، على ضوء الحقائق والمناهج الموضوعية المستجدة. وليس بين خياراتنا خيار يقول بشطب التراث وإلغائه جملة واحدة، كما يتصور بعض الجهلة. فالأمة التي بلا تراث أمة لقيطة. وفي المقابل فإن الأمة التي تعتاش على تراثها وحده، هي عالة على الآباء، وعالة على الأمم من حولها، ويصدق عليها قوله تعالى: وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. النحل:76.

ونزولاً عند الخيار الأول فقد حاول صاحب هذه السطور في مرحلة سابقة، وبكل ما أوتى من معرفة متواضعة أن يعيد النظر العلمي في بعض قضايا التراث الإسلامي، وعلى رأسها حقيقة (حجية) الحديث النبوي، لما لها من آثار خطرة، على العقل والواقع الإسلاميين، بل وعلى صحة العقيدة نفسها. وإنها على رغم خطورتها، لم تأخذ حقها من الدرس والبحث العلميين. وخلص إلى قناعة راسخة بكون الحديث النبوي ليس جزءاً من الوحي الذي كلف الرسول (ص) بتبليغه، وإنما هو جزءٌ طبيعيٌ من السيرة النبوية. إذا ما عرفنا أن سيرة أي شخص هي مجموع أقواله وأفعاله وتقريراته. مدللاً على ذلك بكافة أنواع الحجج والبراهين العقلية والنقلية، التي لا ينكرها عقل عرف معنى الدليل ووظيفته. وهاهو _نزولاً عند الخيار الثاني_ يحاول إعادة قراءة وتأويل واحدة من أخطر لحظات التاريخ الإسلامي، التي ساهمت في تضبيب المشهد السياسي والفكري الإسلاميين، هي لحظة (السقيفة). ولحظة السقيفة هذه هي لحظة اجتماع بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة، بالمدينة المنورة، عقب وفاة النبي بساعات قليلة، لاختيار خليفة سياسي للرسول عليه الصلاة والسلام، وأدت إلى ظهور أول نزاع علني بين كبار الصحابة. ولعل من المناسب أن أضع القارئ أمام الرواية التاريخية لأحداث السقيفة، قبل التعقيب عليها بما يكشف عن أسرارها التي خفيت على الخائضين فيها من قديم، حسب ما يعلم.

الرواية التاريخية:
يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحاق ما يأتي: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْحَازَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَاعْتَزَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ وَانْحَازَ بَقِيّةُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَانْحَازَ مَعَهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ فَأَتَى آتٍ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَدْ انْحَازُوا إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ النّاسِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوا قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يُفْرَغْ مِنْ أَمْرِهِ قَدْ أَغْلَقَ دُونَهُ الْبَابَ أَهْلُهُ . قَالَ عُمَرُ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، حَتّى نَنْظُرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. أهـ. ثم ينقل لنا ابن هشام رواية أخرى عن خطبة لعمر بن الخطاب في وقت توليه لأمر المسلمين بعد أبي بكر، تفسر ما حدث يوم السقيفة، يقول فيها عمر: . فَلَا يَغُرّنّ امْرَأً أَنْ يَقُولُ إنّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْر ٍ كَانَتْ فَلْتَةً فَتَمّتْ وَإِنّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إلّا أَنّ اللّهَ قَدْ وَقَى شَرّهَا ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ الْأَعْنَاقُ إلَيْهِ مِثْلَ أَبِي بَكْر ٍ فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهُ لَا بَيْعَةَ لَهُ هُوَ وَلَا الّذِي بَايَعَهُ تَغِرّةً أَنْ يَقْتُلَا ، إنّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفّى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا ، فَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَتَخَلّفَ عَنّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبِيرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمَنْ مَعَهُمَا ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمّهُمْ حَتّى لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وَقَالَ أَيْنَ. قُلْنَا : نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَا : فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَنَأْتِيَهُمْ . فَانْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، فَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمّلٌ فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقُلْت : مَا لَهُ ؟ فَقَالُوا : وَجِعَ . فَلَمّا جَلَسْنَا تَشَهّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللّهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنّا ، وَقَدْ دَفّتْ دَافّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ قَالَ وَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَازُونَا مِنْ أَصْلِنَا ، وَيَغْصِبُونَا الْأَمْرَ فَلَمّا سَكَتَ أَرَدْت أَنْ أَتَكَلّمَ وَقَدْ زَوّرَتْ فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ قَدْ أَعْجَبَتْنِي ، أُرِيدُ أَنْ أُقَدّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْت أَدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرَ فَكَرِهْت أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلّمَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنّي وَأَوْقَرَ فَوَاَللّهِ مَا تَرَك مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي مِنْ تَزْوِيرِي إلّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتّى سَكَتَ قَالَ أَمّا مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إلّا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا ، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيّهمَا شِئْتُمْ وَأَخَذَ بِيَدَيْ وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا ، وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمّا قَالَهُ غَيْرُهَا ، كَانَ وَاَللّهِ أَنْ أُقَدّمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي ، لَا يُقَرّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ . قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا قُرَيْشٍ . قَالَ فَكَثُرَ اللّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى تَخَوّفْت الِاخْتِلَافَ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته ، ثُمّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ، ثُمّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ . قَالَ فَقُلْت : قَتَلَ اللّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ!.

المقولة التفسيرية:
تلك رواية ابن هشام عن ابن إسحاق. وقبل البدء في قراءة ما حدث وتأويله، لا بد من بيان المقولة التفسيرية التي استند إليها كاتب هذه السطور في مقاربة الحدث؛ وهي مقولة تستند إلى حقيقة قرآنية في غاية الخطورة والأهمية هي قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم. التوبة:101. والآية من أواخر ما نزل من القرآن الكريم. وهي تصرح بوجود طائفة من المنافقين "من أهل المدينة"، المنورة، لا يعلمها النبي نفسه، فما بالنا بصحابته. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كان النبي (ص) نفسه لا يعلم شخوص هذه الطائفة، فما نفع الآية إذاً؟. والجواب واضح تماماً: الآية تحذر من دور هذه الطائفة في وسط المجتمع الإسلامي آنذاك، وضع خطاً تحت (آنذاك) لأن الآية تتحدث عن فئتين محددتين في جيل بعينه، هما فئتا المنافقين المستورين من الأعراب، ومن أهل المدينة، في الجيل الإسلامي الأول؛ أي أن الآية لا تخاطب المجتمعات الإسلامية بعد عصر النبوة، ومن ثم فإن الآية جاءت تحقق غرضاً محدداً في ذلك الجيل، لن يتحقق في أي وقت آخر. وإذا كان غرض الآية قد أصبح في حكم التاريخ، إلا أن دلالتها مازالت باقية، بدليل أنها قد تحولت هنا إلى مقولة تفسيرية ناجحة كما سنرى في السطور التالية.
ولا عبرة بتلك الرواية التي حاولت تعطيل وظيفة هذه الآية بالقول: إن النبي (ص) قد علم شخوص المنافقين، وأفضى بأسمائهم إلى كاتم أسراره حذيفة بن اليمان قبل موته، لعدد من الاعتبارات. أولها: أن الآية لا تخبر بذلك، ولا معنى لأن يسكت القرآن عن إخبار النبي بأسمائهم بعد أن أخبر بوجودهم. وثانيها: أن إسرار النبي بأسمائهم لحذيفة لا معنى له، إذا كان حذيفة لم يخبر أحداً بأسمائهم بعد ذلك كما تدل الرواية؛ إذ ما فائدة الإسرار إذا لم يحقق غرضاً للمسلمين؟ ثم لماذا يكون حذيفة كاتماً لأسرار النبي وليس أبو بكر، صديقه المقرب والمزكى في القرآن، وصهره مثلاً ؟ هل تريد الرواية أن توحي إلينا بأن النبي لم يكن يثق في كبار صحابته ومقربيه؟ أم أن في الأمر سراً لا نعلمه نحن ولا عشاق الرواية؟!. وأخيراً فإن جل المفسرين يخالفون هذا الرأي العاري من أي حجة. يقول ابن كثير في تعليقه على هذه الآية:" وقوله: { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[محمد:30]؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء".أهـ. ويعلق الزمخشري في تفسيره بقوله:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى".أهـ. وكذلك الشوكاني في فتح القدير يقول:" { لاَ تَعْلَمُهُمْ } مبينة للجملة الأولى ، وهي مردوا على النفاق : أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف سائر المؤمنين؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة".أهـ. ويقول الطبري في تفسيره:" (لا تعلمهم)، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة".أهـ. ومثل ذلك ورد في التفسير الكبير للرازي، وفي عشرات التفاسير الأخرى. مما يعني بوضوح أن النبي (ص) وصحابته الصادقين تعاملوا طوال الوقت مع منافقين خطرين ماهرين في النفاق، وهم يحسبونهم من الصحابة الأجلاء. والسؤال الكبير الآن هو: ماذا كان يفعل هؤلاء المنافقين طوال الوقت؟ وكم من الروايات الخبيثة نسبوا إلى النبي وصحابته، وتلقاها المسلمون من بعدهم على أنها وحي يوحى؟!. الجواب واضح لمن صفت سريرته وصحت عقيدته!. وسنعرض بعض تلك المرويات التي نرجح أنها من مدسوساتهم في نهاية هذا المقال.

وبالعودة إلى الآية نجد أن عبارة "ومن أهل المدينة" هي أخطر ما ورد فيها، إذ ليس للمركب اللغوي (أهل المدينة) سوى معنيين محتملين: الأول: أن يكون المقصود به كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين، والآخر: أن يكون المقصود به السكان الأصليين للمدينة، وهم الأوس والخزرج فقط. ونحن نرجح هذا المعنى الأخير، للاعتبارات الآتية: أولاً: لا يتصور أحد أن يكون بين المهاجرين من ينطوي على نفاق، فليس من يعرض نفسه للهلاك والتعب والهجرة من داره ومصالحه إلى دار غريبة، هو من يفعل ذلك نفاقاً. ثانيا: التاريخ يؤكد أن ظهور حركة النفاق كانت في سكان المدينة الأصليين، من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، وهو أحد منافقي الطائفة المكشوفة التي عرف أمرها، قبل نزول الآية كما تدل السيرة. والآية السابقة لا تقول إن كل المنافقين هم من الطائفة المستورة. وثالثاً: لأن عبارة "أهل المدينة" قرينة لفظية وعرفية واضحة على أن المقصود هم الأوس والخزرج. ولو أن الآية قصدت عموم المسلمين من مهاجرين وأنصار، لجاءت بعبارة "منكم" كما جاء في آية (الإفك) مثلاً، حين عممت بالقول: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. النور:11. وإذاً فقد ترجح أن يكون المقصود ب"أهل المدينة" السكان الأصليون من الأوس والخزرج، بعد استبعاد اليهود الذين لا يدخلون تحت مسمى المنافقين.

وبقراءة ما حدث في يوم السقيفة على ضوء هذه الحقيقة يمكننا القول إن المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر، كانوا يتصرفون وهم يستحضرون هذه الآية. فقد خافوا _وهذا واجبهم_ أن يقع أمر المسلمين، ومنجزاتهم مع الرسول (ص) بين يدي هذه الطائفة المستورة من المنافقين، فبادروا بأنفسهم مسرعين لأخذ زمام الأمور، قبل أن يفلت من أيديهم، واستبعاد صف الأنصار بكامله من شئون الخلافة بعد أن أصبح محلاًً للظن والريب. وهو ما فسره بعض المتعجلين بأنه طمع في السلطة، وحب استئثار بها. وفي روايات السيرة من القرائن ما يؤيد هذا الاستنتاج، ومن قرائن رواية ابن هشام السابقة ما يأتي:

أولاً: مبادرة بعض أهل المدينة إلى الاجتماع في السقيفة دون إخبار المهاجرين، تدل على وجود من يدبر شيئاً في الخفاء، وأن الأمر لم يكن وليد اللحظة، سواء علم الصالحون من الأنصار أم لم يعلموا؛ ولعل ما ورد في خطبة المدني المجهول في السقيفة يدل على شيء من هذا القبيل، حين قال: "وقد دقت داقة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر". وهي عبارة تدل على ما كان يجيش في صدور بعض "أهل المدينة" تجاه المهاجرين.


ثانياً: من الواضح أن جميع المهاجرين قد انحازوا إلى أبي بكر وعمر، باستثناء أولئك الذين انشغلوا بالتحضير لدفن النبي، أمثال الإمام عليً. وموقف المهاجرين له دلالته إذا ما عرفنا أن هذه المظلة تشمل السابقين الأولين، الذين حصلوا على تزكية سماوية في قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم. التوبة:100. وهو ما يعني أن الصف الخالي من النفاق قد انحاز ابتداءً إلى أبي بكر وعمر، ثم لحقه بقية الصف المؤمن من الأنصار فيما بعد. 


ثالثاً: يقرر عمر في خطبته أن الأصل في إمارة المسلمين هو الشورى، وأن بيعة أبي بكر بتلك الطريقة لم تكن سوى "فلتة" وقى الله المسلمين شرها. وهذا أيضاً يدل على أن شيئاً خفياً هو الذي دفع أبا بكر وعمر للإسراع إلى تلك الفلتة، وتولية أحد المهاجرين، دون مشاورة المسلمين. ذلك الشيء الخفي لم يكن سوى خوفهم من أن يقع أمر المسلمين، ومصيرهم، ومنجزاتهم، بين يدي المنافقين غير المعلومين من "أهل المدينة" كما أسلفت، وفيه من خوف الفتنة ما فيه. وهذا ما يفسر ترشيح أبي بكر لعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، ورفض الرجلين لها، وترشيحهما لأبي بكر.
 

رابعاً: إن مقولتنا هذه تفسر أيضاً كيف أن الخلافة من بدايتها إلى نهايتها، لم تخرج عن المهاجرين. والأعجب من ذلك أن هيئة شورى الخلافة أيضا لم تخرج عنهم، إذ ليس في ما يسمى بالعشرة المبشرين بالجنة (وهم هيئة شورى الخلافة) أنصاري واحد. كما أنها تفسر أيضاً ظهور مقولة "الأئمة من قريش" وأخواتها.
 

خامساً: تخبرنا السيرة أن بعض القبائل العربية التي دعاها النبي للإسلام كانت تشترط عليه أن يكون لها الأمر من بعده، وكان الرسول يرد عليها ب"أن الأمر لله"، وأما الأنصار فقد استجابوا لدعوته من غير شرط غير "الجنة" وهذا يعني أن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم.
 

سادساً: لا نتصور أن هذه الآية لم تؤد وضيفتها آنذاك، وأن الصحابة لم يدركوا مقاصدها البعيدة والقريبة، خاصة وأنها تعنيهم أكثر مما تعنينا، لأن الخطاب فيها لهم لا لنا: (وممن حولكم)، أنتم أيها المسلمون في الجيل الأول. فإذا كان لهذه الآية مغزى ووظيفة، فما مغزاها بعد ذلك، وما وظيفتها، إذا كان الصحابة سيتجاهلونها؟!. أما بقية أجيال المسلمين فلم يتبق لهم من هذه الآية، ومن مثيلاتها في سورة التوبة إلا وظيفتين هما: إعادة تفسير أحداث تلك المرحلة على ضوئها، وأخذ الحيطة والحذر مما يروى لنا من روايات حديثية نقلت عن الصحابة، وفيهم بعض المنافقين الذين لا يعلمهم أحد غير الله. وهو ما يعني أن احتمال وصول أحاديث منسوبة إلى النبي زوراً وارد بقوة. وما دخله الاحتمال بطل به الاستدلال، كما تقول القاعدة الأصولية.

ومن الجدير بالذكر أن سورة التوبة، وهي آخر سور القرآن الكريم نزولا، كانت بمثابة مشهد ختامي في قصة الرسالة المحمدية، مشهد يعاد فيه ترتيب مقامات المجاهدين مع النبي (ص)، و ترتيب شرائح المجتمع الإسلامي بحسب ما قدموا من عمل صالح. فهناك شريحة "السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" (100)، وهناك شريحة "الذين اتبعوهم بإحسان" (100)، وهناك شريحة الذين " خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً" (102). وهناك "آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم" (106). وهناك طائفة المنافقين، وهم على شريحتين، الأولى مكشوفة دلت عليها أفعالها " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون" (42)؛ والأخرى مستورة دلت عليها آية "وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم" (101). ولو أن الأصوليين والمحدثين استوعبوا هذه السورة ومقاصدها جيدا ما قالوا بعدالة كل أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي، استنادا إلى آيات أخرى مجملة. والقول بأن جميع أفراد المجتمع الإسلامي في زمن النبي عدولٌ، هو قول يتجاهل هذه الآيات، إن لم نقل إنه يتحداها. ولا أدري أي ورع وتقوى في هذا التعطيل الصريح للقرآن الكريم!.

روايات في مواجهة الآيات:
ليس من باب الذكاء القول إن هذه الطائفة المستورة من المنافقين كانت تعمل في الخفاء وبمكر كامل ودهاء، في تقويض المنجز الإسلامي الذي أرساه الرسول وصحابته الصادقين، ممثلاً في وحي الرسالة (القرآن) وفي المجتمع الإسلامي الوليد. ولا نتصور أبداً أن لا نجد لهم محاولات وآثار في هذا السياق، إلا إذا كانوا مجموعة من السذج الحمقى، وهو ما ينفيه مضمون الآية نفياً حاسماً. وإذا كانت محاولاتهم العملية قد أحبطت في زمن الوحي، فإن انقطاع الوحي بوفاة النبي (ص) قد سهل لهم تحقيق بعض طموحاتهم، إلا أن يقظة كبار الصحابة وصادقيهم قد وأدت حلمهم الأول في تعطيل مشروع المجتمع الإسلامي الوليد، فهل يأس المنافقون من تحقيق بعض المنجزات؟. ودعني أقدم الإجابة في ثوب سؤال يقول: وهل يعقل أن يتسرب اليأس إلى أنفسٍ يصفها الله _ضمنياً _ بالحنكة والدهاء في ممارسة النفاق؟!. إذن ماذا نتوقع من هذه الطائفة بعد أن أجهض الصحابة الصادقون مشروعها في السقيفة؟. الجواب: نتوقع أن تشتغل هذه الطائفة في ميدان الدس والوضع والكذب على النبي (ص). نتوقع أن ينسبوا إليه من الروايات ما يعطل نصوص القرآن، وما يضادها، وما يزرع الريبة والشك فيها. وأول ما سيخترعونه من الروايات المعطلة، روايات تعطل مهام الآيات التي تهدد مشروعهم التخريبي الخبيث. وإذا كنا نتوقع حصول ذلك منهم فلا بد أن نتوقع بالتبعية وجود مثل تلك المرويات المفبركة في تراثنا الروائي، فهل هي موجودة حقاً؟.
لقد سبق وتعرضنا في ثنايا هذا المقال لواحدة من تلك الروايات التي قصد بها تعطيل آية المنافقين السابقة، حين زعم الرواة أن النبي قد أسر بأسماء المنافقين لحذيفة ابن اليمان، في محاولة للقول _على نقيض الآية _ إنهم كانوا معروفين. وقد فندنا ذلك منذ قليل. وسنعرض على القارئ روايات أخرى تؤدي الغرض ذاته، ولكن قبل ذلك لا بد من العودة إلى نص الآية لتأويل محتواها التاريخي، وتحديداً إلى قوله تعالى "وممن حولكم من الأعراب". والخطاب كما أسلفنا موجه للنبي وصحابته في المدينة. فمن المقصود ب"الأعراب" حول المدينة يا ترى؟. يقول المفسرون إن الأعراب المقصودين هم قبائل: جهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار؛ وكانت منازلهم حول المدينة ، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي، والألوسي، والواحدي، وابن الجوزي، وغيرهم. والسؤال: هل سيترك منافقو هذه القبائل الآية تهدد حاضرهم ومستقبلهم ووظيفتهم التخريبية؟ الجواب: كلا..لن يتركوها. وإذا كانوا عاجزين عن إسقاطها من المصحف، أو تحريف دلالتها الصريحة بالتأويل، فلن يعجزوا عن اختراع روايات منسوبة للنبي (ص) تتناقض معها. والسؤال: هل هناك روايات من هذا القبيل؟. الجواب في صحيحي البخاري ومسلم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: « قريش. والأنصار. وجهينة . ومزينة . وأشجع . وأسلم . وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره »، وجاء عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: « اسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى ». ولا تعليق!.
والآن هل كان النبي (ص) وصحابته الأخيار على حذر من خطر هذه الطائفة؟ وماذا فعلوا في سبيل الحد من خطرها؟. الجواب واضح، فقد قطع النبي (ص) الطريق أمام هذه الطائفة وأمثالها في الدس والتزوير والكذب على النبي وصحابته، فنهى نهياً قاطعاً عن كتابة وتدوين حديثه اليومي تدويناً رسمياً، كما تقول رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم " لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كان كتب فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج". وكما تقول عشرات الروايات المساندة في الصحاح والمسانيد، وكما يؤكد جمهور علماء المسلمين.
وعلى النهج ذاته سار الخلفاء الراشدون والصحابة الكبار حيث منعوا تدوين الأحاديث، وأمروا بحرق ما كتب منها، بل ونهوا حتى عن الإكثار من الرواية الشفهية عن النبي (ص) وهي مباحة. وقد ناقشنا هذا الأمر بتوسع في مناسبات سابقة. ومن عجيب بعض المشائخ أن يعترفوا بهذه الحقيقة ثم يتناقضون في تبريرها، كما فعل الدكتور الأزهري محمد أبو زهو في كتابه الشهير (الحديث والمحدثون) حيث قال في موضع من كتابه إن هذه القبائل قد ارتدت بعد وفاة النبي (ص) مع المرتدين، وانكشف أمرها للمسلمين. ثم يقول في موضع آخر من كتابه إن النبي (ص) قد نهى عن كتابة الحديث في زمنه خوفاً من استغلال المنافقين للرواية عن النبي!. وهو بهذا أيضاً يتناقض مع رواية الشيخين الماضية، ومع اجتهادات أخرى راسخة في بنية العقل التقليدي ليس هذا مجال ذكرها.

تقويم أولي:
والآن، كيف يمكن لأي عاقل أن يقوّم السطور الماضية، أو يحكم عليها؟. دعنا نقول _من باب الجدل العلمي فقط_ إن فهمنا للنصوص السابقة لم يكن دقيقاً، وإن مقولتنا التفسيرية لم تكن يقينية. لكن هل يستطيع عاقل أن ينكر أن هذه المقولة هي الأكثر رجحاناً في تفسير ما حدث؟ وهل يستطيع معارض أن يأتينا بمقولة تفسيرية أصلح منها في السياق نفسه؟. وليست الإجابة عن السؤالين الماضيين عملاً تخمينياً، يصعب التحقق منه. فقد حكم المختصون بنجاح أي مقولة تفسيرية إذا استطاعت أن تفسر كل، أو معظم، جوانب الظاهرة / المشكلة. وهو ما حققته هذه المقولة (أزعم) باقتدار. وفي سبيل التحقق من ذلك أضع القارئ أمام الحقائق الآتية:

1. استطاعت المقولة أن تضع تفسيراً واحداً ووحيداً لكل الأحداث والتفاصيل التي وردت في السيرة وكتب الحديث، سواء تلك المتصلة بالحدث السياسي مباشرة أو تلك التي تبدو منفصلة عنه. فعلمنا لماذا سارع بعض الأنصار إلى اجتماع السقيفة، عقب وفاة النبي (ص) مباشرة، ودون مشورة المهاجرين وبقية الأنصار. وعلمنا لماذا أسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجراح إلى السقيفة فور معرفتهم اجتماع تلك الطائفة من أهل المدينة في السقيفة، تاركين شأن التجهيز لدفن النبي لآخرين من آل بيته. وعلمنا لماذا أسرع المهاجرون الثلاثة إلى سحب البساط من تحت أقدام الأنصار، فوراً دون مشاورة بقية المهاجرين والأنصار، واعتبار ذلك "فلتة" وقى الله المسلمين شرها كما قال عمر بن الخطاب بعد ذلك. وعلمنا لماذا كانت الخلافة بعد ذلك دولة بين المهاجرين دون الأنصار. ولماذا خرج الأنصار من كل شئونها بما في ذلك مجلس شوراها. وأدركنا سرّ سكوت الأنصار على احتكار المهاجرين لشئون الخلافة. وعلمنا أيضاً سرّ نهي النبي (ص) وصحابته الكبار عن تدوين الحديث النبوي أو الإكثار من روايته. وغير ذلك من التفاصيل التي نجحت المقولة في تفسيرها.


2. تعرض هذه المقولة التفسيرية صحابة الرسول الكبار من السابقين الأولين في صورة لائقة تنفي عنهم تبعات المقولات التفسيرية السابقة، التي تضعهم في خانة الباحثين عن السلطة، من أجل السلطة، والطامعين في المجد والشهرة والهيلمان الدنيوي، أو في خانة المتعصبين لعرقهم وأرومتهم. بكل ما يعنيه ذلك من تلميح بفشل النبي في اصطفاء نخبة ممتازة من الصحابة الزاهدين في متاع الدنيا، ومن تلميح خطير بكون تلك النخبة المقربة من النبي لم تكن محلاً للثقة في نقل هذا الدين والحفاظ عليه. وكلها معان تؤدي في نهاية المطاف إلى التشكيك في سلامة الدين نفسه.
 

3. تضع هذه المقولة التفسيرية القرآن في مقام النص المهيمن في تفسير ما عداه من النصوص، بعكس المقولات التفسيرية السابقة التي تضع النص القرآني تحت سلطان النص التاريخي يفسره كيف يشاء، أو تغيبه عن الشهود بالمرة. وبتعبير آخر فإن هذه المقولة تفسر التاريخ على ضوء القرآن، ولا تفسر القرآن على ضوء التاريخ، أو تتجاهله في عملية التفسير، كما فعلت المقولات السابقة.
 

4. تجمع هذه المقولة بين الاعتراف ببشرية مجتمع الصحابة بإمكانية وقوعه في الخطأ والضلال، وبين تنزيه الصحابة الكبار تحديداً من اقتراف الأخطاء الجسيمة، وهو ما يحقق معنى الواقعية الإسلامية دون تفريط ولا إفراط. أي دون الوقوع في فخ الاتهام العلماني لنوايا الصحابة وأخلاقهم، ودون الوقوع في فخ التقديس السلفي للصحابة وزمنهم، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة القراءة المتحيزة غير الموضوعية.
 

5. حققت مغزى آيات سورة التوبة الماضية، إذ ليس من اللائق القول إن الصحابة (كبارهم على وجه التحديد) كانوا في غفلة عن مقاصدها ومعانيها، بدليل أنها لم تحرك ساكناً فيهم ولم تترك أثراً بينهم. وكأن القرآن كان يحدثنا عن طبقات المجتمع النبوي لمجرد الترف المعرفي ليس غير.

 

نقض المقولات السابقة:
لقد حظيت حادثة السقيفة وما تلاها من تحولات سياسية بعدد من المقولات التفسيرية قديماً وحديثاً، يمكننا إرجاعها إلى ثلاث مقولات أساسية، هي: مقولة (الأئمة من قريش) التي قال بها جمهور السنة، ومقولة (العصبية) التي طرحها العلامة ابن خلدون، ومقولة (الغلبة) التي قال بها كثير من الدارسين والمستشرقين المعاصرين. أما المقولة الأولى فهي بنصها رواية منسوبة إلى النبي (ص) يزعم أصحابها أنه قد وجه بجعل الخلافة في قريش، وعضدوا هذه الرواية بروايات أخرى مفسرة وشارطة. أما ابن خلدون فعلل جعل الأمر في قريش بقوة عصبيتهم "لأن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم، ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم" (مقدمة ابن خلدون). وواضح أن ابن خلدون يرى أن الإمامة جعلت في قريش لقوتها وغلبتها، وكان يعتقد أن حقها في الإمامة زال بزوال قوتها وغلبتها، ومعنى ذلك أنه يفسر القرشية بالعصبية الغالبة. أما أصحاب مقولة (الغلبة) فيعتقدون أن الأمر برمته داخل في باب الأطماع البشرية، وأن الصحابة المهاجرين قد استبدوا بالأمر من دون المسلمين، استناداً إلى مكانتهم الأدبية بوصفهم جماعة النبي وقرابته، وإلى قوة شكيمتهم ومراسهم الحربي. غير أن هذه المقولات الثلاث لا تتمتع بقوة تفسيرية عالية، ويمكننا مناقشتها في السطور التالية.

نقض المقولة الأولى:
يزعم جمهور السنة أن النبي (ص) قد وجه بجعل الأمر في قريش، وبناء على هذا جعلوا "القرشية" شرطاً من شروط الإمامة الكبرى (الرياسة العامة)، ومن الواضح أن هذا الزعم غير دقيق للاعتبارات الآتية:
1. هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن، وقد ادعى بعضهم تواتره معنوياً، إلا أن بعض نقاد الحديث قد نقض هذا الزعم بكفاءة، منهم محمد العزاني في كتاب (الأئمة من قريش). ولم يكن الأمر يحتاج إلى كل ذلك العناء الذي بذله الأستاذ العزاني، إذا ما علمنا أن التواتر المزعوم عندهم ليس نقل الكافة عن الكافة، الذي كان يشترطه الأصوليون الكبار أمثال الشافعي، وإنما هو شكل من أشكال التحايل العلمي يعتمد أصحابه على تكثير سواد طرق الروايات الأحادية بغض النظر عن صحتها، وبغض النظر عن تناقضها واختلافها، كما أثبت المحدث العزاني في كتابه المذكور.
2. إذا كان النبي (ص) قد وجه بجعل الخلافة في قريش _ وهو بالمناسبة قول قد يؤيد ما ذهبنا إليه من محاولة قطع الطريق أمام المنافقين_ فكيف خفي ذلك على سعد بن عباده وهو من كبار الأنصار، وقد تورط في مكيدة من تدبير المنافقين، أرادوا منها شرعنة موقفهم، بجعله على رأسهم في السقيفة. وقد ذهب مغاضباً رافضاً مبايعة أبي بكر أو غيره، وغادر المدينة إلى الشام حتى مات، وقيل اغتيل، واتهمت الجن بقتله!.
3. ثم كيف يكتفي النبي بتعيين القبيلة التي ستتولى أمر المسلمين من بعده، دون أن يضيف أي تفصيلات تمنع الشقاق بينهم بعد ذلك؟. وكيف يوجه النبي توجيهاً كهذا ثم يجهله الأنصار؟!. وهل كان هؤلاء سيقدمون على اجتماع السقيفة لو أن هذا التوجيه كان معلوماً لديهم؟!

نقض المقولة الثانية:
أما مقولة العصبية التي طرحها ابن خلدون، فيمكن مؤاخذتها في النقاط الآتية:
1. قد تستطيع هذه المقولة تفسير احتكار الخلافة في قريش آنذاك، ولكنها لا تستطيع أن تفسر خلو مجلس شورى الخلافة من أنصاري واحد.
2. أما قول ابن خلدون " فلو جعل الأمراء من سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم". فلا يحظى برصيد واقعي لأن هذا التكتيك إما يستهدف الأنصار، وهؤلاء عصبية الدين عندهم مقدمة على عصبية القبيلة، فضلاً عن كونه يعد استعداءً لهم لا معنى له، وإما أنه يستهدف القبائل التي أسلمت في عام الفتح وقبله وهؤلاء قد ارتد كثير منهم بعد وفاة النبي (ص) غير آبهين بعصبية قريش وهيبتها.

نقض المقولة الثالثة:
وكذلك لا يمكننا القبول بمقولة الغلبة للاعتبارات الآتية:
1. لأنها تقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من فئات المجتمع النبوي، في صورة لا تتفق مع مكانتهم في القرآن الكريم، ولا تتفق مع المنطقي من صورتهم التاريخية. ومقولة "إنهم بشر" التي تطرح في هذا السياق قد تبرر بعض أخطائهم، إلا أنها لا تعني تحولهم من ملحمة الإسلام والتضحية بالنفس والنفيس مع النبي (ص) إلى ملحمة الاحتيال والطمع السياسيين بعد وفاته بساعات.
2. لا تستطيع هذه المقولة أن تفسر سكوت الأنصار على استلاب الخلافة منهم بالغلبة، وهم أصحاب الأرض (المدينة المنورة)، وأصحاب الأغلبية العددية فيها. وكل الدلائل قد دلت على أنهم سلموا الأمر للمهاجرين راضين غير كارهين.
3. قلنا من قبل إن فكرة الخلافة لم تكن واردة في رؤوس الأنصار منذ البداية، مما يدفعنا إلى الشك في دوافع الذين استعجلوا اجتماع السقيفة منهم. وليس صحيحاً ما قاله خليل عبد الكريم في كتابه (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) من أن الأوس والخزرج كانت تنقصهم "الحنكة" السياسية، فزهدوا في أمر الخلافة والملك. بدليل أنهم الأمة الوحيدة في وسط الجزيرة العربية التي فكرت في تنصيب "ملك" عليها قبيل دخول النبي (ص) المدينة المنورة، ولولا قدوم الإسلام والرسول إليهم لكان عبد الله بن سلول قد نصب ملكاً متوجاً على الأوس والخزرج.

الخميس، 19 ديسمبر 2013

أطروحة: العلمانية الثالثة

العلمانية الثالثة

عصام القيسي

نشرت الأطروحة لأول مرة على صفحات صحيفة الجمهورية بتاريخ:19 إبريل-نيسان 2012

الجزء الأول
في عدد سابق من “الجمهورية” نشر صاحب هذه السطور مقالاً بعنوان “العلمانية.. خارطة طريق جديدة”؛ اقترح فيه صيغة جديدة لمفهوم العلمانية، تتفق مع الخصوصية الدينية للمجتمع الإسلامي، وتزيل نقاط التوتر والاشتباك المفتعلة بينهما.
قامت هذه الصيغة على أساس إعادة تعريف كل من المفهومين الإشكاليين: العلمانية والإسلام، وبيان عناصر الاتفاق والافتراق بينهما، من خلال استبعاد الزوائد التاريخية الطارئة عليهما.
 وتلك هي الخطوة المنهجية الأساسية في إنتاج الصيغة الجديدة لمفهوم العلمانية.
وخلصنا من عملية التأصيل تلك إلى نتيجة أساسية، تقضي باستبعاد مفهوم العلمانية الشاملة، كما بينه الدكتور عبدالوهاب المسيري، في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، والتحفظ على مفهوم العلمانية الجزئية، التي اقترحها المسيري للمجتمعات الإسلامية.
ذلك أن العلمانية الشاملة تعني فصل القيم الدينية عن الحياة، وأن العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة، وكلاهما غير قابل للتطبيق في المجتمعات الإسلامية، لاعتبارات ديمقراطية، قبل الاعتبارات الدينية والثقافية.
ثم اقترحنا صيغة ثالثة للعلمانية هي الأكثر ملاءمة للحالة الإسلامية - من وجهة نظرنا - هي صيغة فصل الدولة عن المذهب؛ ونقصد بالدولة الكيان السياسي السيادي، أي نظام الحكم، كما نقصد بالمذهب: الأيديولوجيا السياسية، سواء أكانت نابعة من مصادر دينية أو كانت نابعة من مصادر مدنية، فالتشيع مذهب، والتسنن مذهب، والنازية مذهب، والشيوعية مذهب، كما أن كل فهم شخصي لنص ديني غير قطعي يدخل في باب المذهب لا في باب الدين، كما سيأتي تفصيله في مناسبات قادمة.
وكان بعض الإخوة المهتمين قد اطلع على المقال، وأشاد به إشادة مصحوبة بملاحظة نقدية أساسية، هي أن المقال المشار إليه جاء بلغة مكثفة مضغوطة، مع أن طبيعة الموضوع وأهميته كانتا تقتضيان البسط والاسترسال.
 وهي ملاحظة صحيحة، لها عند الكاتب ما يبررها، من تلك المبررات ظن الكاتب أن الفكرة ستخلق جدلاً علمياً لدى القراء المهتمين؛ باعتبار طرافتها وأهمية الموضوع في اللحظة السياسية الراهنة، ليس على مستوى الساحة اليمنية فحسب، وإنما على مستوى الساحة الإسلامية برمتها.
وكان هذا الجدل - لو حصل - كفيلاً بإثراء الموضوع، والكشف عن غوامضه، من قبل الكاتب نفسه، ومن قبل الأطراف الأخرى.
لكن سرعان ما تبين للكاتب أن الناس في حفلة “زار” سياسي طويلة، وأن الظروف غير مواتية للحديث في الفكر السياسي، إلا بعد انتهاء الحفلة!؛ لأن حفلات “الزار” بطبيعتها لا تحتمل التأمل والتفكر العميقين، كما يتطلب الفكر.
ومن هنا فقد قنع الكاتب بتحويل الموضوع إلى مشروع كتاب موسع، يصدره لاحقاً، عندما تسمح الظروف، لعل قارئاً عابراً يجد فيه ضالته يوماً ما.
إلا أن رغبة هؤلاء الإخوة، في إعادة طرح الموضوع على شكل مقال صحفي، بصورة أكثر تبسيطاً، لابد أن تحترم. وهو ما ننوي فعله في هذا المقال المسلسل؛ الذي نتوقع أن يجيب عن الأسئلة الآتية: هل العلمانية ضرورة سياسية أم ترف فكري؟ هل تتناقض مع الإسلام حقاً، أم أن الخصومة بينهما مفتعلة؟، هل المشكلة في العلمانية أم في الإسلام أم في فهمنا لهما؟.
وبما أن طرف العلمانية هو أبسط طرفي هذه الجدلية، فإن البدء بمناقشته هو أسلم الخيارات، حتى يتسنى لنا التفرغ لمناقشة المفهوم الأكثر إشكالاً، وهو مفهوم الدين/ الإسلام.
يرى الدكتور المسيري أن العلمانية ليست مفهوماً استاتيكياً ثابتاً، وإنما هي متتالية زمنية، أخذت في كل عصر صورة مختلفة عن الأخرى، والاختلاف هنا لا يعني بالضرورة التناقض والتعارض، وإنما قد يعني أن حدود هذا المفهوم كانت تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر، فالعلمانية في البداية ظهرت كنقيض للسلطة السياسية الدينية، سلطة الكنيسة تحديداً.
 ومن هنا جاء شعار “فصل الدين عن الدولة”، إلا أن المسيري ينبه - في ملاحظة ذكية - إلى أن الدولة نفسها، وقت صك الشعار، لم تكن قد توسعت إلى الحد الذي نراه الآن، ومن ثم فإن حدود العلمانية في ذلك الشعار كانت أضيق بكثير مما لو طبقناها على الدولة في شكلها الأحدث.
إلا أن كثيراً من المثقفين الغربيين ثم العرب، قد استعملوا لفظ العلمانية بعد ذلك للدلالة على ظواهر أخرى أكثر اتساعاً وشمولاً، حتى صارت تعني في معظم الأحيان نقيض الديني.
 وقد أطلق بعض المفكرين الإسلاميين اسم العلمانية “الدهرية” على الشكل المتطرف من العلمانية؛ استنباطاً من قوله تعالى على لسان بعض الملحدين القدامى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الجاثية24، وهي كما ترى علمانية إلحادية تفصل القيم الدينية عن الحياة برمتها.
وقد أطلق المسيري على العلمانية في صورتها الأولى اسم “العلمانية الجزئية”، وعلى العلمانية في صورتها المتطرفة اسم “العلمانية الشاملة”، واعتبر هاتين العلمانيتين هما الطرفان النموذجيان للمتتالية العلمانية الزمنية، ثم رشح العلمانية في صورتها الجزئية، لتكون هي خيار العالم الإسلامي.
ويمكننا أن نخرج من كلام المسيري بنتيجتين، الأولى: أن الحديث عن العلمانية دون تبيين حدودها الدلالية المقصودة هو عمل تنقصه الدقة والموضوعية، ومن ثم فإنه أشبه باللغو، ومن حق الناس جميعاً أن يلغوا لكن ليس من حق أحد أن يلزم الناس بلغْوه.
والأخرى أن من حقنا نحن المسلمين اختيار القدر الذي يلائمنا من العلمنة، إذا دعت الضرورة أو الحاجة السياسية لذلك، بشرط أن لا يأتي هذا القدر على حساب الحقيقة العلمانية نفسها، بوصفها فضاء إنسانياً ديمقراطياً، ثبت بالتجربة التاريخية أنه الحل الأمثل لكثير من مشكلات السياسة وشرورها.
وبشرط آخر أهم، هو أن لا يأتي هذا المنتج العلماني الجديد على حساب الحقيقة الدينية، التي اختارها المجتمع نفسه، وفق مبدأ الحق الطبيعي للإنسان.
والحقيقة الدينية المقصودة هنا، بالنسبة لنا نحن المسلمين، هي الوحي السماوي، المتفق على ثبوته وحجيته، فقط لا غير، وماعدا ذلك فإنه يدخل في باب المذهب، كما سنبين لاحقاً.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل هذا ممكن؟.. هل هناك صورة تحقق المعادلة الصعبة بين الإسلام والعلمانية، دون أن تفرط في حقيقة أي منهما؟.
 هذا المقال المسلسل هو محاولة للجواب عن هذه الأسئلة وعن غيرها، وقد حققنا نصف الإجابة في السطور السابقة؛ فيما يخص الجانب المتعلق بالعلمانية، أما النصف المتعلق بالإسلام فهو موضوع الحلقات القادمة من هذا المقال.


العلمانية الثالثة (الجزء الثاني)

لا يمكن أن يكون الحديث عن علاقة الإسلام بالعلمانية، حديثاً منهجياً، ما لم نبدأ بوضع حدود واضحة لهذين المفهومين. وكان الجزء الأول من هذا المقال قد تكفل ببيان حدود العلمانية التي نعنيها في صف العلمانيات المعروضة. ونتوقع من هذا الجزء أن يتناول الحد الثاني في هذه الجدلية، وهو الإسلام، فما هو الإسلام يا ترى؟!.
إنه لشيء مؤسف حقاً أن يضطر كاتب اليوم إلى إعادة طرح هذا السؤال، بعد أربعة عشر قرناً من مجيء الإسلام. وما كنا لنطرحه لو كان هناك إجابة ناجزة. وكأن المسلمين لم يجدوا فرصة كافية خلال هذه القرون المتطاولة لتحرير أشهر مصطلح في حياتهم. وليس الأمر سهلاً كما قد يظن البعض، فإن غموض المصطلحات له عواقب وخيمة على الحياة العقلية، ومن ثم على مختلف وجوه الحياة. لأن المصطلحات الغامضة والفضفاضة كالعملة النقدية الزائفة، تمحق الاقتصاد/ الفكر بالتضخم.
وإذا قمنا بمحاولة عاجلة لتحقيق هذا المصطلح، فسنكون بإزاء ثلاثة معانٍ رئيسية على الأقل: الأول يشير إلى الإسلام في معناه التاريخي، أي الإسلام كما عرف في التاريخ. وقد عرف الإسلام في التاريخ بوصفه نقيض الديانات الأخرى، اليهودية والمسيحية والبوذية والمجوسية وغيرها. وهذا هو المعنى الشعبي والتقليدي لكلمة الإسلام، عند المسلمين وعند غيرهم.
والثاني يشير إلى المعنى القانوني للإسلام، وهو مستنبط من قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. (الحجرات14). فالإسلام في هذه الآية هو إسلام الظاهر، أي الإسلام الذي يحاسب عليه القانون، أما الإسلام الحق، فهو مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله.
أما المعنى الثالث للإسلام فهو الإسلام من المنظور الإلهي، أي الإسلام الذي عند الله، والذي جاء في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ. (آل عمران19). وهذا يشمل ما جاءت به كل النبوات وكل الرسالات السماوية، ويمثله الآن القرآن الكريم، باعتباره خلاصة الكتب السماوية جميعاً، منذ أن بدأت الرسالات مع إبراهيم (عليه السلام)، إلى أن ختمت بمحمد (صلى الله عليه وسلم): إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. (الأعلى 18-19). وهذا المعنى الأخير هو الذي ننطلق منه في حديثنا عن الإسلام.
هل اتضح الأمر تماماً؟.. بالطبع، لا. فما زال أمامنا صفاً طويلاً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة، منها هذا السؤال العاجل: إذا كان الدين عند الله الإسلام، والإسلام عند الله هو القرآن، فماذا عن الكتب السماوية الموجودة اليوم بين أيدينا، والتي اعترف بها القرآن من حيث المبدأ، كالتوراة والأناجيل، أو ما يسمى بالعهد القديم والعهد الجديد عند المسيحيين؟. وماذا عن الحديث النبوي؟ وماذا عن كتب المذاهب الفقهية والفكرية؟. ما موقع هذه الكتب من الدين؟!.
والسؤال الأول في مصفوفة الأسئلة السابقة، ليس ملحاً لنا نحن المسلمين اليوم، ولا يترتب عليه في موضوع العلمانية أثر يذكر، ما دام القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على الكتب كلها “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. (المائدة48). والهيمنة هنا مفهوم شمولي، يجعل النص القرآني هو “المعتمد” الأول والأخير في مجال الدين، وهو النص الذي لا يقبل النقاش لمن آمن به، أما ما عداه من النصوص فهو خاضع له خضوع القانون للدستور.
أما الجواب على سؤال الحديث النبوي، فقد فصلنا فيه القول في مناسبات أخرى سابقة ومعروفة لدى المتابعين، ومجمل القول فيه أن الحديث النبوي - حتى لو صحت نسبته إلى النبي - لا يعد جزءاً من الرسالة التي كلف النبي (صلى الله عليه وسلم) بإبلاغها للناس، وأنه - في حال ثبوته - يعد جزءاً من السيرة النبوية لا غير. وسيرة أي نبي تتضمن فهمه الشخصي للدين والحياة، لكن هذا الفهم - مهما كان فذاً - يظل محكوماً بشروط الزمان والمكان لا يخرج عنها، وهي شروط متغيرة بتغير العصور، على عكس الدين الذي يختص بسمة الثبات.
ولا مجال هنا لمزيد من تفصيل هذه المسألة ولا إيراد براهينها، فقد أفردنا لذلك دراسة وافية بعنوان “ هذا بيان للناس، حديث النبي من التاريخ لا من الدين”، منشورة قبل سنوات، في بعض المواقع الإلكترونية، وفي صفحة الكاتب على الفيس بوك، لمن شاء المزيد من التفصيل. إلا أننا معنيون هنا بالإشارة إلى حقيقتين لهما شأن بموضوع هذا المقال.
الحقيقة الأولى: أن القول بحجية الحديث، أو بعدم حجيته الدينية، هي _ في أدنى الاعتبارات _ مسألة خلافية بين مسلمين. بدليل أن أحداً من طرفي النزاع فيها لا يجرؤ على إخراج الآخر من الملة الإسلامية. وحتى إذا وجد في هذا الطرف أو في ذاك من يجرؤ على التكفير، فإنه سيظل حالة شاذة، أو محصورة داخل مذهبه، مما يعني أننا أمام حالة مذهبية بامتياز. وهذا ينقلنا إلى الحقيقة الثانية:
وهي أن الخلاف في المذهب ليس خلافاً في الدين، بل هو خلاف في فهم الدين. وعليه فإن من يزعم بأن مذهبه هو الدين، وأنه وحده جماعة المسلمين، فإنما يفتري على الله وعلى الناس الكذب. أما إذا تجاوز حد الزعم إلى حد الفعل، وذهب يرغم المخالفين على تبني مذهبه، بأي صورة من صور الإرغام، فإنه بذلك يعد خارجاً على حدود الدين نفسه، الذي ينهى عن الإكراه في الدين، بأي صورة من صور الإكراه، بنص قطعي الدلالة والثبوت: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة256).
وسيأتي معنا لاحقاً الجواب عن شبهة تقول: ماذا لو أن الأغلبية المذهبية _ بحكم الديمقراطية العلمانية _ أرادت أن تجعل مذهبها مرجعاً للدولة والقانون؟!. أما الآن، فلا بد أن نستكمل الجواب على سؤال المذاهب الفقهية والفكرية الإسلامية، ما موقعها من الدين؟. والإجابة عن هذا السؤال _ لحسن الحظ _ ليست معضلة، لأننا لم نجد قولاً معتبراً عند المذاهب المعتبرة يزعم أن مذهبه هو الدين نفسه، وأنه وحده جماعة المسلمين.
وحتى إذا وجد مثل هذا التهريج، فإنه سيظل رأياً شاذاً يتوارى خلف حجب التأويل من شدة الخجل، ويكفي في بيان زيفه أن نعلم أن الدين قد اكتمل قبل مجيء المذاهب جميعاً، مع قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً. (المائدة3).
نخلص من السطور الماضية إلى إقرار الشرط الأول من شروط تعريف الإسلام، وهو شرط الفصل والتمييز بين الدين / الإسلام، والفكر الديني / الإسلامي، باعتبار أن الدين / الإسلام هو ذلك المنزل السماوي المتفق على حجيته وثبوته، وأن الفكر الديني / الإسلامي هو ناتج دوران العقل حول النص الديني، فيما يسمى بعملية الاجتهاد والتدبر. وهذا الناتج بطبيعته لا يكون إلا بشرياً.
وقد بينا سلفاً أن المذاهب جميعاً تعد جزءاً من بنية الفكر الديني لا من بنية الدين نفسه. سواء أكانت مذاهب فقهية أو كانت مذاهب فكرية، وسواء أكانت مذاهب فردية أم جماعية، وسواء أكانت مذاهب تاريخية أم معاصرة. ويدخل فيها بالطبع المذهب القائل بعدم حجية الحديث النبوي، لقيامه على نفس الأصول والقواعد المعتبرة لدى المذاهب الأخرى، على الأقل.
وهذا الفصل المبدئي بين الإسلام والفكر الإسلامي ليس جديداً، فقد تعارف عليه المفكرون الإسلاميون منذ بدايات القرن العشرين تقريباً، وهاهو شيخ الإسلاميين محمد الغزالي يؤكد هذه الحقيقة في واحد من أقدم كتبه، هو كتاب “ ليس من الإسلام”، وينقلها بدوره عن واحد من كبار علماء الدين آنذاك هو الشيخ محمد البهي، الذي يقول بالنص: “إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه”.
ليس هذا فحسب، بل يذهب الشيخان خطوة أخرى أكثر جرأة وأكثر تحديداً، في بيان الحدود الفاصلة بين الإسلام والفكر الإسلامي، فيقولان: “والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه منه”!.
وهذا التعريف للوحي يتطابق تماماً مع تعريفنا له، وهو التعريف الذي يؤاخذنا عليه المشائخ والدعاة منذ أن طرحنا قضية حجية الحديث النبوي في الصحافة قبل سنوات. والفرق بين موقفنا وموقف الشيخ الغزالي، بعد ذلك، هو أننا ذهبنا وراء هذا التعريف إلى نهايته المنطقية، بينما تذبذب موقف الشيخ الغزالي منه في مواضع عديدة من كتبه.
وتكمن أهمية التعريف السابق للوحي في أنه استبعد تماماً الحديث النبوي من مجال الرسالة، واعترف فقط بالسنن التي ثبتت بالتواتر العملي، بنقل الكافة عن الكافة، وثبت أصلها الديني في نص القرآن الكريم. وهذه السنن كما يعلم المختصون محدودة للغاية، ولا تثير في الفكر الإسلامي أي معضلة حقيقية، فما بالك بالفكر السياسي.
أما ما يسمى بالحديث النبوي _ ومثله الآراء الفقهية _ فإنه لا يدخل ابتداء تحت مسمى السنن عند الأصوليين واللغويين، فضلاً عن اتفاقهم الصريح على كونه لم يثبت بطرق متواترة، كما ثبت القرآن والسنن العملية. وهذا وحده كافٍ في حسم المسألة، وإخراج محل النزاع من دائرة الدين المتفق على حجيته وثبوته، إلى دائرة الفكر الديني المتنازع عليه اجتهاداً.
والحسم هنا لا يعني _ بالضرورة _ اقتناع الطرف المخالف بهذه الحقيقة، لأن المذاهب عادة لا تسلم لخصومها بإصابة الحقيقة، وإنما يعني أن هذه التخريجة الأصولية لموقع الحديث من الدين، قد جاءت وفق القواعد والأصول المعتبرة لدى الطرف المخالف، وما دام الأمر كذلك فليس في استطاعته استبعاد الطرف الآخر من دائرة الإيمان، إلا إذا تناقض مع أصوله وقواعده المذهبية!.
ذلك هو الشرط الأول في فهم الإسلام، شرط الفصل والتمييز بين ما هو إسلام وما هو فكر إسلامي. والخلط بينهما ليس فقط خطأ في المنهج، بل إنه خطأ في العقيدة نفسها، لأنه يوقع صاحبه في مظنة الشرك بالله، ما دام هذا الاعتقاد قائماً على أسس ظنية غير محكمة، و” إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً. (النساء48). أما الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، فهو موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال، وهو شرط معرفة حدود النشاط الديني..!.



العلمانية الثالثة.. (الجزء الثالث)

هناك سؤال أولي وبسيط، لكنه على الرغم من أوليته وبساطته لم يطرح للنقاش العلمي، بصورة جدية حتى الآن، فيما أعلم.
 هذا السؤال يقول: ما هي الحدود الفاصلة بين الدين والدنيا؟ متى نستطيع القول: إننا الآن في دائرة الدين أو في دائرة الدنيا؟ ما هي نقاط الاشتباك والتداخل بين هذين المفهومين؟.
 وموضوع هذا السؤال هو الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، التي بدأنا الحديث عنها في الحلقة الماضية.
قد تغري بساطة هذا السؤال القارئ بالإجابة الفورية الواثقة، لكني أنصحه بالتأني؛ لأن بساطة هذا السؤال الظاهرية تخفي وراءها غموضاً شديداً، كما تخفي الأوراق الزاهية، في الزهرة القاتلة، حقيقتها الدموية.
وهو غموض ناشئ عن دقة وتداخل الحدود المشتركة بينهما، إلى حد يصعب على العين المجردة ملاحظة ذلك للوهلات الأولى.
وقبل البدء في مناقشة هذا السؤال، والبحث عن إجابة شافية له، ينبغي أن نجيب على سؤال استباقي يقول: ما الذي يترتب على معرفة الحدود الفاصلة بين هذين المفهومين؟!.
 والحقيقة أن ما يترتب على إجابة هذا السؤال خطير جداً، يكفي في خطورته أن تعلم أن وظيفة المفتي الديني في الحياة الإسلامية مرهونة به، وجوداً وعدماً، كما سنبين في سياق قادم.. فهل تتخيل معي كيف ستكون حياة المسلم من دون الفتوى والمفتي مثلاً؟!.
إننا إذا عرفنا حدود الدين من حدود الدنيا، وأثبتنا لكل منهما صورة مستقلة في الذهن والواقع، وعرفنا طبيعة التداخل والتشبيك الحاصل بينهما، فإنما نضع بذلك الحدود الفاصلة لوظيفة المفتي فلا يتجاوزها.
هذا على فرض أنها وظيفة دينية، وعلى فرض أنها تخدم الإسلام والمسلمين، وهي فروض غير صحيحة من وجهة نظرنا.
وسنكتشف في نهاية المطاف العلمي بأنه لا وجود لوظيفة المفتي في الإسلام أصلاً، وأنها كانت خطأ من الأخطاء الكثيرة التي اقترفناها في سيرنا الحضاري، دون دراسة وتحقيق!.
واستبعاد وظيفة المفتي من حياتنا سيكون ثورة لا مثيل لها في حياتنا العقلية والاجتماعية، إلا ثورة استبعاد الحديث النبوي من دائرة الدين، بوصفه جزءاً من تاريخ النبوة، لا من رسالة النبي.
 وبهاتين الثورتين يمكن القول: إننا قد تجاوزنا أكثر من نصف مشكلاتنا الحضارية المزمنة، المشكلات التي تعود في جذورها الأولى إلى علل في الخطاب الديني الزائف.
كما يترتب على التمييز بين هذين المفهومين - من الناحية السياسية - معرفة حدود الدولة من حدود الدين، وهو شرط الحديث عن العلمانية الأول.
والكاتب يدرك جيداً طبيعة الأسئلة والمشكلات التي قد تثار في وجه هذه الفكرة، وهو حريص على مناقشتها أكثر من غيره، لكنه يؤجلها إلى مكانها المناسب، بعد استكمال الإجابة عن سؤال الدين والدنيا: أين يجتمعان وأين يفترقان؟.
وسوف نستعرض الفروض المحتملة للإجابة على هذا السؤال، ثم نناقشها فرضاً فرضاً، وفقاً لنظرية كارل بوبر في استبعاد الخطأ، بوصفها أفضل طريقة نقدية في البحث العلمي، والفرض الذي يصمد أمام الامتحان هو الذي يستحق البقاء.
لكن قبل استعراض الفروض، دعني أذكرك بالقضية المبدئية في هذا السياق، وهي أن القرآن الكريم هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وفي مقامه ما دل عليه من سنن نبوية ثابتة، لها أصل ديني في القرآن الكريم نفسه؛ كما نقلنا عن الشيخين محمد البهي الخولي ومحمد الغزالي في الحلقة الماضية من هذا المقال.
 وهو الرأي الثابت أيضاً عن الإمام محمد عبده، والإمام الأكبر محمود شلتوت، وغيرهم من علماء المسلمين المعاصرين.
والقرآن الكريم كتاب يحتوي تشكيلة واسعة من القضايا والموضوعات، ما بين قصص وأحكام وتعليمات ومواعظ وحكم، تطال عوالم مختلفة، وأزمنة متعددة، ومخاطبين شتى.
 وقد حاول الفقهاء من قديم توزيع هذه التشكيلة النصية على “أنواع”؛ فنوع أطلقوا عليه اسم “العبادات”، وآخر أطلقوا عليه اسم “المعاملات”، وثالث أطلقوا عليه اسم “العقائد”.
على اعتبار أن “العبادات” في الأصل هي تلك الأعمال ذات الطابع الطقوسي الفردي، مثل الصلاة والصوم والحج وما شابهها، وأن “المعاملات” هي تلك الأعمال ذات الطابع الاجتماعي القانوني، مثل البيع والشراء، والطلاق والزواج، إلخ.. أما العقائد فهي تلك الأخبار التي ساقها الوحي عن عالم الغيب، باختلاف صوره، ومستوياته.
ولا شك أن لدى بعض النقاد ما يقوله على هذا التقسيم، مثل عدم وضوح الفرق - من الناحية اللفظية - بين العبادات والمعاملات، ما دامت المعاملات نفسها في نهاية الأمر تعد جزءاً من الأمور التعبدية، وكذلك تداخل العلاقة بين شعبة الأخلاق والشعب السابقة.
 لكننا مع ذلك لا نجد - في هذه الوقفة النقدية - مانعاً حقيقياً من اعتماد هذا التقسيم التقليدي لمجالات الدين النوعية، مادامت قدرتها الإجرائية كافية في تحقيق المسألة قيد البحث.
وأمر آخر نلفت الانتباه إليه، قبل انتهاء هذه الوقفة التحليلية، هو طرق إنتاج الدلالة في القرآن الكريم، فمن المعلوم أن القرآن الكريم ينتج دلالاته بطرق متعددة، ومختلفة في درجة البيان والإلزام، وهو في ذلك يسير على منهاج اللسان العربي، كما حدد لنفسه من البداية، وإن كانت له خصوصيته في استعمال قوانين اللغة وطاقاتها الكامنة، هذه الخصوصية هي التي منحته سرّ التفوق اللغوي على النصوص الأخرى، ذلك أنه النص الوحيد الذي وظف قوانين اللسان العربي في طاقتها القصوى.
وقد حاول الفقهاء الأصوليون من قديم حصر طرق الدلالة القرآنية، وخلصوا إلى نتائج قيمة في هذا السياق، يلخصها عبدالوهاب خلاف في الجملة الآتية: “النص الشرعي - أو القانوني - يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارتهِ، أو دلالته، أو اقتضائه؛ لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه. وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة”.
إن جملة خلاّف السابقة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لنا في هذا المقال؛ لأننا بعد أن حددنا صورة الوحي في القرآن الكريم، وحده لا شريك له، كان لابد أن نحدد الطرق المعتبرة في فهم هذا الكتاب؛ لأن ذلك هو الأساس في معرفة ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة فيه، ومعرفة القطعي من الظني هو الأساس الأول في معرفة الفرق بين الدين والمذهب؛ إذ إن المذهب الديني هو كل فهم بشري لنص ديني غير قطعي الدلالة أو الثبوت.
ومن المعلوم أن أكثر النص القرآني غير قطعي الدلالة، إما بسبب الخفاء، أو الإشكال، أو الإجمال، أو التشابه، في بعض نصوصه، ومن ثم فإنه لا يلزم المخالف منه إلا القدر المتفق عليه من المعنى، أما القدر المختلف فيه، فهو مما يلزم صاحبه أمام نفسه وأمام الله فقط، وهذا هو مقتضى رأي جمهور الأصوليين لحسن حظنا..!.
وحين يترجم هذا الكلام إلى مبدأ قانوني دستوري، فإننا نكون بإزاء أول خطوة في الطريق إلى العلمانية من منظور ديني.
 وخلاصة هذه الترجمة القانونية تقول: إن كل ما ينتجه العقل المسلم من أحكام مستنبطة من نص ديني غير قطعي الدلالة، فهو داخل في دائرة المذهب والفكر الديني لا في دائرة الدين، وكل ما كانت هذه طبيعته فهو منتج مدني علماني، حتى وإن جاء من أصول دينية..!. وهذا هو الذي سيقودنا في نهاية المطاف إلى إلغاء دور المفتي الديني برمته، كما سنبين في تفصيل لاحق.
إلى هنا نكون قد وضعنا العتبة الأساسية للدخول في مناقشة الفروض المحتملة لعلاقة الدين بالدنيا، وحدود هذه من تلك، ابتداء من الحلقة القادمة.




العلمانية الثالثة (الجزء الرابع)


الآن، وقد ميزنا بين الإسلام والفكر الإسلامي، وقلنا: إن القرآن هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وما في حكمه من سنن ثابتة دل عليها القرآن دلالة صريحة، وإن الفكر الإسلامي هو كل فهم بشري لنص غير صريح من القرآن الكريم، مثل ذلك الفهم الذي جعل الحديث النبوي، وما يسمى بالإجماع، وغيرهما، من مصادر الشريعة..!.
وبعد أن ميزنا بين ثلاثة أنواع من مجالات النصوص القرآنية، هي العقائد والعبادات والمعاملات، حسب التقسيم التقليدي للفقهاء، فقد أصبح من حقنا أن نسأل: ما هي المساحة التي يشغلها الدين من حياة الإنسان المسلم؟ هل يشغل كامل النشاط الإنساني، أم يشغل نشاطات بعينها دون أخرى؟ كيف؟.
هناك عدد من الفروض المحتملة في هذا الشأن؛ أولها أن يكون الدين مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة قانونية، وثانيها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية فقط، وثالثها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية وعلى بعض جوانبها هيمنة قانونية.
لكي تكون الإجابة وجيهة ومقبولة لابد من استنطاق القرآن الكريم نفسه؛ فهل في القرآن نص يحسم هذه المسألة؟. والجواب: ليس في القرآن الكريم نص قطعي في تفصيل هذه المسألة، لكن فيه نصوص موهمة يفيد ظاهرها الشمول والإحاطة، مثل قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.(النحل89). وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(الأنعام162).
وقد اعتقد كثير من الناس أن عبارة “تبياناً لكل شيء” في آية النحل السابقة، تعني الإحاطة والشمول، وهو فهم قاصر نتج عن ضعف معرفة بلسان العرب، الذي هو المرجع في لغة القرآن الكريم. بينما هي في هذا اللسان كناية عن الكثرة والاتساع، ضمن مجال الاختصاص. هكذا وردت في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى على لسان الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. وعن سليمان: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16]. وعن موسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145].
ولم يقل أحد أن ملكة سبأ أو النبي سليمان قد أوتيا من كل شيء بالمعنى الرياضي أو الفلسفي للعبارة، ولا أن ألواح التوراة قد شملت كل صغيرة وكبيرة في الحياة.
 وأظهر دليل على ذلك أن ظاهر العبارة يدل على أن ملك ملكة سبأ يساوي ملك نبي الله سليمان عليه السلام، وهذا خطأ لا شك فيه، ولا جدال، وكذلك فإن ألواح موسى - بعددها المحدود - لا يمكن أن تتناول كل صغيرة وكبيرة في الحياة، بحيث لا يفوتها علم من العلوم إلا خاضت فيه، وإلا لما احتجنا إلى نيوتن وإنشتاين وأحمد زويل!.
خلاصة الأمر هي أن عبارة كل شيء الواردة في القرآن الكريم لا تفيد الشمول المطلق كما يتبادر إلى أذهان العامة ومن في حكمهم من المفسرين، باستثناء ما جاء في حق الله تعالى مثل قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. (الزمر62)؛ لأن اختصاص الله هنا يشمل كل شيء في الوجود، على سبيل الحقيقة لا على سبيل الكناية والمجاز.
أما آية “الأنعام” السابقة فهي لا تفيد بعبارتها أن حياة المسلم ومماته يخضعان للتشريع والتقنين، وإلا فليقولوا لنا كيف يمكن تقنين الموت؟!. ودلالة العبارة هي الخضوع الباطني لله تعالى، والاعتراف بسلطانه الشامل على الوجود، لكن الله تعالى لم يرد أن يكون سلطانه الشامل تشريعياً على الناس، بل سلطان أخلاقي في المقام الأول، وإن غطى بالتشريع بعض أوجه نشاط الإنسان.
يبدو أننا قد حسمنا خياراتنا مبكراً، وقررنا اختيار الفرض الذي يقول: إن الدين - الإسلام - يغطي مختلف جوانب الحياة بمبادئه الأخلاقية العامة، لكنه لا يغطيها كاملة بتشريعاته القانونية.
وسنعرف لاحقاً ما الذي يترتب على هذا الاختيار، بعد أن نستكمل تأكيد هذه الفرضية وتفنيد الفروض الأخرى المقابلة؟.
إن الفرض الذي يقول بأن الدين هو علاقة بين العبد وربه، يعني في نهاية المطاف أن الدين – الإسلام - هو فقط مجموعة العقائد والعبادات، بالإضافة إلى بعض الأخلاق اللازمة للفرد، غير المتعدية للمجتمع.
 ومن معاني هذه العبارة - بقصد أو بدون قصد - أن شعبة “المعاملات” لا تدخل في نطاق الدين، وهذا أمر ترده النظرة الأولى في القرآن الكريم.
لكن الشيء الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن الأحكام التشريعية التي تطال العلاقات الاجتماعية - ومنها أحكام السياسة - لا تغطي كامل المساحة الاجتماعية، إذا ما اعتبرنا أن الأحكام الشرعية هي تلك التي نص عليها القرآن، بأية صورة من صور الدلالة الأربع، التي نقلنا عن عبدالوهاب خلاف من قبل، ولهذا تحديداً اضطر الفقهاء لصناعة أصول الفقه، حتى يستنبطوا على ضوئها ما يلزم من الأحكام المتجددة.
والشيء الذي لا نقره هنا هو اعتقادهم بأن ما ينتجونه على ضوء هذه الأصول، ووفق هذا المنهج يعد جزءاً من الإسلام (الدين)، بينما كان ينبغي القول: إنها جزء من بنية الفكر الإسلامي، التي هي بطبيعتها بنية مدنية، مادامت أثراً من آثار العقل الإنساني.
 والقول بأنها جزء من الدين، يعني - بالتضمين - أن الإنسان قد ينتج القداسة، مثل الإله تماماً، وهذا هو الشرك بعينه..!.
إن الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية الإسلامية، هو أنها حاولت تقنين كل أوجه النشاط الإنساني، ثم إضافة مخرجات هذا التقنين إلى دائرة الدين المقدس الذي يأثم منكره ومخالفه.
ولأن عملية التقنين هذه بطبيعتها واسعة النطاق، فقد كان لابد من وظيفة المفتي الشرعي؛ لأن المسلم العادي لا يستطيع أن يتعرف على كل الأحكام من تلقاء نفسه؛ إما بسبب كثرتها، وإما بسبب غموضها.
وإذا سلمنا بكون الفكر الديني هو جزء من بنية النشاط المدني للإنسان، فإن وظيفة المفتي تكون حينئذ وظيفة مدنية لا وظيفة دينية، مثلها مثل وظيفة المعلم، في أي مجال من مجالات التعليم الأخرى، مع فارق بسيط بين الوظيفتين هو أن وظيفة المعلم ضرورة اجتماعية، ووظيفة المفتي ضرر اجتماعي كبير، لا حاجة لنا به..!.
أما كيف تكون وظيفة المفتي خطأ إسلامياً وضرراً إنسانياً، وما علاقة ذلك بما نحن فيه من حديث عن العلمانية الثالثة، وغيرها من الأسئلة، فهي موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال.


العلمانية الثالثة (الجزء الخامس)


هل وظيفة المفتي الشرعي وظيفة دينية يقرها الإسلام، أم أنها اختراع بشري، من اختراعات كثيرة قدمها المسلمون للبشرية؟!.
 هل يحتاج المجتمع المسلم إلى وظيفة المفتي حقاً أم أنها زائدة دودية لا حاجة له بها؟.
هذه هي الأسئلة التي أثرناها في سطور سابقة من هذا المقال، ووعدنا بالإجابة عنها بصورة مفصلة قدر ما نستطيع.
من المعلوم في الأوساط العلمية الإسلامية أن الأحكام لا تثبت وجوباً إلا بأدلة قطعية في الحجية والثبوت والدلالة. وهذه الشروط مجتمعة لا تتوفر إلا في بعض نصوص القرآن الكريم فقط. فهل هناك نص بهذا المستوى في القرآن، يحث على وظيفة المفتي الشرعي في الإسلام، ويحدد طبيعتها يا ترى؟.
المتابع لخطاب المؤسسة الدينية الإسلامية يجد أن لديها أدلتها وحججها في التشريع لوظيفة الإفتاء، إلا أنها أدلة واهية لا تثبت أمام النقد العلمي الفاحص. ومن ذلك احتجاجهم بآيات قرآنية من مثل قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة122).
إذ يعتقدون أن الآية تحرض على تأسيس طبقة من رجال الدين، يكون من مهامهم إفتاء الناس في كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين. وأمور الدين عندهم تشمل كل وجوه النشاط الإنساني، بما فيها طريقة الجلوس على مرحاض “التواليت” كما يزعمون، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يجتهد حتى في كيفية قضاء الحاجة..!.
بينما منطوق الآية لا يفيد سوى الحض على التفقه في الدين، وقد عرفنا معنى الدين فيما مضى، والفقه هو المعرفة الدقيقة بالدين، ومن هذه المعرفة الدقيقة أن يميز المسلم بين الدين والفكر الديني، وبين حدود الدين من حدود الدنيا. وليس في الآية ما يتجاوز حدود العلم بالنصوص المنزلة ودلالاتها العامة.
وهناك فرق بين أن يتعلم الناس الدين، على التفصيل السابق، وبين وظيفة الإفتاء المعروفة، ففي الحالة الأولى سيكتفي العامي بمعرفة ما هو في الدين بالضرورة، أي ذلك القدر من الدين الذي يعفيه من العقاب يوم الحساب، ويدخله الجنة، كما فعل عوام الصحابة ومن في عصرهم. بينما سيحاول المسلم المثقف التقدم إلى مناطق أخرى أكثر غموضاً ودقة، فيرتقي عند الله بقدر ما ارتقى في سلم العلم بها.
وفي الحالة الأخرى، سيضطر العامي والمثقف إلى معرفة ما فوق الضرورة الدينية، لا عن طريق التعلم الذي سيربي فيهما ملكة الفقه، وإنما عن طريق التلقين، الذي يحول صاحبه، بمرور الوقت، إلى مجرد كائن بليد ينفذ دون أن يعرف حقيقة ما يفعل.
بينما الحقيقة أنه لا المسلم العامي ولا المسلم المثقف يحتاجان إلى المفتي والفتوى؛ لأن المسلم العامي لا يمكن أن يكلف أمام الله، بما فوق وسعه من الفهم، وفقاً لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة286). وليس في وسع العامي أن يفهم طرق الفقهاء في الاستنباط والقياس، حتى يكون ملزماً بنتائج هذه الطقوس العلمية المعقدة.
أما المسلم المثقف فإنه لا يحتاج إلى المفتي؛ لأنه إما يمتلك القدرة على فهم النصوص بنفسه دون معونة المفتي، وإما أنه لا يمتلكها، ومن ثم فهو ملزم فقط بما وصلت إليه مداركه، لا بما وصلت إليه مدارك غيره.
وهذا المنطق الذي نقول به ليس غريباً تماماً عن الفكر الإسلامي، فمن المعروف أن بعض الفقهاء، مثل ابن حزم، قد حرّم التقليد في الدين جملة وتفصيلاً، مطالباً جميع المسلمين بالاجتهاد، بما فيهم العوام والجهلة؛ لأن اجتهادهم لن يكون إلا بقدر وسعهم، ووسعهم لن يقل عن مستوى المحكم، الذي هو معلوم لكل الناس بالضرورة. ومن حسن حظنا أن جمهور الفقهاء قد حرم التقليد على المجتهد القادر على النظر والاستنباط.
كما أن المؤسسة الدينية تحتج بمثل قوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (النساء83). معتقدين أن الآية تدعو المسلم إلى الرجوع بكل ما يلمه من المسائل إلى حضرة المفتي، الذي كلف باستنباط الأحكام الشرعية من مظانها، على ضوء القواعد والأصول التي وضعوها لأنفسهم.
بينما منطوق الآية يتحدث عن “الأمن” و”الخوف”، وهي شؤون سياسية بحتة لا دخل للدين بها، يدخل فيها اليوم ما يسمى بالأمن القومي للدول. ورد هذه الأمور إلى الرسول، يعني إرجاعها إلى شخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بوصفه ولي أمر المسلمين الأول آنذاك، لا بوصفه النبي الرسول كما يعتقد بعض الفقهاء والمشائخ.
ومن القرائن الدالة على صحة ما نقول: إن الآية لم تطالب بإرجاع الأمر إلى الله والرسول كما تعودنا في آيات أخرى شبيهة، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. (النساء59).
ذلك أن عبارة “تنازعتم في شيء” تشمل النزاع في الدين والدنيا، كما تشمل نزاع القلوب ونزاع العقول، وهذه الأنواع من الاختلاف بحاجة إلى مرجعية إلهية، تلتقي عندها قلوب المتنازعين قبل عقولهم، أما مسائل الأمن والخوف، وغيرها من مسائل الاجتماع السياسي، فلا تحتاج لأكثر من أهل الاختصاص في الدولة والجماعة.
إن آية (النساء83) هي واحدة من الآيات القرآنية التي تفتح باباً للعلمانية بمفهومها الإسلامي، حيث تجعل مرجعية القضايا السياسية مرجعية مدنية لا دينية، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الآية - كما قلنا - كان في مقام ولي الأمر لا في مقام المبلغ، ومقام الولاية السياسية هو مقام مدني لا ديني، كما هي طبيعته، وكما أثبتنا في مقال سابق نشر على صفحات (الجمهورية) بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”.
ومما يلفت الانتباه أن شمس الدين بن قيم الجوزية، في كتابه الموسوعي والمرجعي المسمى “أعلام الموقعين عن رب العالمين” لم يذكر آية واحدة في التشريع لوظيفة الإفتاء بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع حرصه الشديد على تأصيل كل شاردة وواردة في مجال الإفتاء، مما يدل على أن هذه الوظيفة قد تكونت بمحض الخلط وتقليد أهل الكتاب، لا استجابة لمطلب قرآني.
لكن، هل معنى ذلك أن لا يكون للإسلام (القرآن) علماء متخصصون يكشفون غامضه ويجلون أسراره؟!. بالطبع لا، فنحن لا نقصد ذلك؛ فالقرآن الكريم خطاب عام شامل، يقوم على شبكة نصية لغوية واسعة ومتنوعة، فيها الواضح الجلي وفيها الغامض الخفي، وما كان هذه صفاته فهو يحتاج إلى علماء متخصصين ولا شك.
غير أننا نؤكد مع ذلك على أمور، أولها: أن وظيفة هؤلاء العلماء والدارسين، ليست وظيفة دينية، بل وظيفة مدنية، مثلها مثل بقية وظائف العلم والمعرفة الأخرى. ومن ثم فإن الاختلاف معهم كالاختلاف مع علماء الأدب والفيزياء، لا فرق.
وثانيها: أن العلم بهذا الخطاب لا يشترط فيه أن يكون العالم مؤمناً زاهداً عابداً يمشي على الماء من فرط كراماته، بل يشترط فيه أن يكون مدركاً لطبيعة الخطاب ومرجعيته المعرفية وقوانين اللسان الذي نزل به، حتى لو كان من الكافرين بحجيته..!.
وآخرها: أن ما يلزم الفرد المسلم من هذا الخطاب أمام الله، هو فقط ما بلغه وسعه من الفهم، لا ما بلغ وسع العالم منه، ومن ثم فإن الفتوى والمفتي عملان لا معنى لهما في ظل هذه الحقيقة.. وللحديث بقية.



العلمانية الثالثة (الجزء السادس)

إذا كنا نقول: إن وظيفة الإفتاء ليست وظيفة دينية، وإنما هي وظيفة مدنية، وإن الدين والمجتمع الإسلاميين ليسا بحاجة إليها، وإن المسلم لا يكلف أمام ربه إلا بما يطيقه وسعه في المعرفة، وإن المسلم العادي لا يمكن أن يطيق فهم الوسائل العلمية التي يتوسل بها الفقهاء في استنباط الأحكام، ومن ثم فإنه غير ملزم بمخرجات هذه الوسائل من الأحكام، فضلاً عن كونها منتجات مدنية لا دينية؛ باعتبارها أثراً من آثار العقل البشري، والعقل لا ينتج القداسة والدين، وإنما ينتج فكراً دينياً.
إذا كنا نقول ذلك، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو: ما موقف المسلم من الأوامر والنواهي المجملة أو المبهمة في القرآن الكريم؟ كيف نفهم - مثلاً - قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ. (المائدة6)، ونحن لا نعرف أين تبدأ حدود الوجه وأين تنتهي؟، هل يدخل الأنف والأذن في معنى الوجه أم لا؟!.
وجوابنا: إن هذه الطريقة من الاستقصاء والتفصيل، هي طريقة المغضوب عليهم من أهل الكتاب، التي حذر القرآن منها، وما قصة البقرة في سورة البقرة إلا نموذج ساقه القرآن؛ لكي نحذر من هذا السلوك النفسي المشين، فقد كان يكفي بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة - أي بقرة - وستفي بالغرض، لولا ادعاء الحرص والتكلف الزائدين.
وكذلك الحال مع غسل الوجه في الوضوء، وغيره من الأحكام، لا تحتاج إلى كل هذا العناء والنصب، فالعربي يعرف - على وجه الإجمال - معنى الوجه، وهذا يكفيه في تحقيق الغرض، فمن ظن أن الأنف والأذن والحنجرة داخلة في معنى الوجه، فذلك شأنه، ومن اعتقد أن ظاهر الوجه هو الوجه، فذلك يكفيه، وكلاهما في الوضوء سواء..!.
ومن المعلوم أن الأحكام التعبدية والاعتقادية الواجبة، قد وردت في القرآن بلغة واضحة ميسرة: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. (القمر17). لغة يفهما أدنى مستوى من العقل.
 وهذا هو سرّ وجوب أحكامها على الناس كافة، وإن جاء بعضها مجملاً فإن ذلك من عادات اللسان العربي، يمارسها بصورة يومية، ويفهم أصحاب اللسان المقاصد والأغراض، دون حاجة إلى مفتٍ.
ولا يحتاج المسلم لأن يتعرف على هذه الأحكام كل يوم وكل شهر وكل سنة، من فم المفتي، كما يفعل العاطلون عن العمل، والعاطلون من العقل، وإنما يكفيه أن يعلمها مرة واحدة في العمر، كما يعلم الطريق إلى بيته، ليمضي فيه بقية عمره.
وإذا ساقته نفسه الأمّارة بالفضول إلى طرح الأسئلة التفصيلية، فإنه في هذه الحالة لن يحتاج إلى المفتي، بل يكفيه ما وصل إليه عقله من قناعات فيها؛ لأن الإنسان مسؤول عن قناعاته أمام الله، لا عن قناعات المفتي..!.
قد يقول أحد المتطيرين: إن هذه الطريقة ستضيع الدين وتجعله عرضة للعبث.. وهذا كلام هلامي لا يعرف رأسه من رجليه؛ لأنه لم يضع لنفسه ولنا، حدود هذا الدين الذي سنضيعه.
ومن الواضح أنه يخلط بين الدين المنزل من السماء، وبين الفكر الديني النابت من الأرض. ونحن بدورنا نحب أن نؤكد له أن هذه الطريقة هي التي ستحفظ تدين الناس من الزيف والرياء، وستعيد إلى الدين حقيقته التي دثرها تراب الفكر الإسلامي التقليدي..!.
ذلك أن للحقيقة مظهران، أحدهما فردي والآخر اجتماعي، والمظهر الفردي هو الركيزة الأساس في التدين، بمعنى أن الله سبحانه يطلب الاستجابة من الفرد أولاً ثم من المجتمع، ولهذا فإنه يخاطب الفرد أولاً، ويشرع للفرد أولاً، وفي نهاية المطاف فإن الفرد وحده هو الذي يحاسب.
كما أن الإسلام قد ركز على المستوى النفسي الباطني، داخل البعد الفردي للخطاب، وجعله الأساس في التدين والاستجابة. وأعطى المستوى الخارجي للفرد أهمية ثانوية بعد المستوى النفسي.
 يلحظ المتابع ذلك في أكثر من مظهر؛ منه - على سبيل المثال - ترتيب مستوى الذنوب من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يكون مستوى الذنب صاعداً من الحسي (الخارجي) إلى المعنوي (الباطني)، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (الأعراف33).
“فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه، وهم الإثم، والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم”. حسب عبارة ابن قيم الجوزية.
والشاهد فيما مضى هو أن النص القرآني قد تعمد ترك مساحات مجهولة في مجال التدين؛ لأن هذه المساحات هي مجال اختبار الإرادة وصدق التوجه؛ لأن المسلم إذا صدق في عبادته فإنه لا يحتاج إلى مفتٍ يبين له طريق الحق من طريق الباطل؛ إذ يكفيه أن يسأل ضميره الحيّ: هل هذا مما يتفق مع روح الإسلام أم لا؟ ولابد أن يهديه ضميره إلى الجواب الأمثل، وبهذا يظل ضميره حياً يقظاً طوال الوقت.
وإن للإسلام خصائص عامة، يدركها أي مسلم، مهما كان مستوى عقله. يدركها لكثرة تعرضه للخطاب القرآني، ومعرفة اتجاهاته العامة، كما يعرف الاتجاهات العامة لسياسة الدولة، دون أن يكون خبيراً في العلوم السياسية. مثل تلك الخصائص التي تحدث عنها سيد قطب في كتابه: “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”.
فالربانية والتوازن والإيجابية والواقعية، معاني يستطيع إدراكها أي مسلم بسيط، حتى لو عجز عن التعبير عنها. وإذا حدث وعجز الفرد المسلم عن إدراكها، فإن المسؤول الأول عن ذلك هو الخطاب الديني الزائف الذي شوّش الفطرة وشوّه الدين.
يكفي أن يسأل المسلم نفسه، أمام أي عمل من الأعمال: هل هذا العمل رباني، إيجابي، متوازن، واقعي؟. فإذا أجاب ضميره بـ”نعم”، فذلك مما يحبه الله ويرضاه، وإن أجابه بـ”لا” فهو مما ينبغي تركه، هكذا بمنطق الفطرة البسيط، دون حاجة إلى فضيلة المفتي وفضلاته..!.
أما إذا كان المسلم سيء الطوية، فإنه - خوفاً من المجتمع لا خوفاً من الله - سيبحث عن الفتوى التي تعفيه من ملامة الناس، في بعض الأحيان، فإذا قال له المفتي: إن زواج التحليل شرط في صحة زواجه بعد الطلقة الثالثة، فإنه قد يكتفي بعقد زواج المحلل، وسند الطلاق، لكي يعود إلى زوجه، سواء صح هذا الفعل عند الله أم لم يصح.
إن وظيفة المفتي تترك آثاراً سلبية على الحياة الإسلامية برمتها؛ لأن هذه الوظيفة تأتي على حساب الرقابة الذاتية للفرد المسلم، المستهدف الأساسي بالخطاب القرآني.
كما أنها تبرر في الحس الإسلامي - بوعي أو بدون وعي - وجود طبقة من الوسطاء الكهنة، بين المكلفين وبين ربهم، وهو الخطأ الذي وقعت فيه المجتمعات الكتابية السابقة.
ومما يجدر ذكره أن وظيفة المفتي هذه لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي الأول، بعد انقطاع الوحي. وكل ما جمعه المسلمون من آراء للصحابة، لم يكن في حقيقته من باب الفتوى، بل من باب الاجتهاد الذاتي التلقائي، الذي لا يلزم أحداً.
وإن الناظر في المواقف المنسوبة إلى شخصية كعمر بن الخطاب مثلاً، يلحظ بجلاء أن الرجل لم يكن يعتمد في استنباطه للأحكام السياسية على الآلة الأصولية الصورية، التي رسم أصولها لاحقاً الإمام الشافعي، متأثراً بالمنطق الأرسطي. بل كان يعتمد نوعاً من النظر العقلي الإجمالي للنص القرآني. قريباً من الطريقة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أي النظر إلى الخصائص العامة للإسلام، لا إلى الأحكام التفصيلية.
فهو حين أوقف توزيع الفيء على فاتحي العراق بما يخالف ظاهر النص القرآني، لم يعتمد طريقة الأصوليين في استخراج النتائج بعد استقصاء المقدمات، وإنما نظر بعين بصيرته، مستنداً إلى خبرته الإجمالية بالإسلام، فوجد أن هذا هو الأنسب، والأكثر اتفاقاً مع ربانية الإسلام وإيجابيته وتوازنه وواقعيته. هذه الخصائص التي تجلت في فلسفة القرآن تجاه المال في قوله تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ. (الحشر7).
إن هذا التصور لطبيعة الدين، سيخلق مجتمعاً راقياً، متسامحاً، بسيطاً. وقبل ذلك سيخلق مجتمعاً مؤمناً، يعرف أن الدين ضميرٌ حيٌ، قبل أن يكون طقساً اجتماعياً محفوفاً بالنفاق. كما أنه يكشف عن مساحات العلمنة الواسعة في الدين الإسلامي. وهي المساحات التي حاولت المؤسسة الدينية “البسط” عليها وضمها إلى أوقاف الفقهاء..!.


العلمانية الثالثة (الجزء السابع)

 في نهاية هذه الجولة النقدية التحليلية لمفهومي العلمانية والإسلام، أجد من المناسب استعادة ذلك السؤال الذي بدأنا به سلسلة هذا المقال، وهو: هل بالإمكان حقاً إيجاد صيغة علمانية تتفق مع روح الإسلام ومقاصده، دون أن تأتي على حساب حقيقتي الإسلام والعلمانية؟.
 والجواب بـ”نعم” هو خلاصة هذه السلسلة المقالية، بالنسبة للكاتب ومن يتفق معه في الرأي.
إلا أن الكاتب يفترض وجود قارئ معارض لهذه الأطروحة، لن يعترف ببعض مقدماتها، ولا بالنتائج المترتبة عليها، بدوافع مختلفة ستأخذ عند بعضهم مظهراً علمياً، أو مظهراً تقوياً (من التقوى).
 والكاتب لا يطمع في إقناع كل أصناف المعارضين لهذه الأطروحة، فذلك أمر يعجز عنه حتى الأنبياء، لكنه يطمح في تحقيق عدد من الأهداف البسيطة، ذات الأثر القوي، في حياتنا السياسية والعقلية.
من بين تلك الأهداف، نزع أقوى أسلحة المتخاصمين على العلمانية والإسلام، وذلك بنزع أقوى حججهم في الرفض؛ إذ لم يعد للعلماني حجة قوية في رفض مرجعيةً الإسلام للدولة ذات الأغلبية الإسلامية، ما دمنا قد استبعدنا من هذه المرجعية كل منتج بشري ذي صبغة دينية، مكتفين بالنص السماوي القطعي، وهو بطبيعته نص محدود للغاية، ولا يشكل تهديداً حقيقياً لجوهر العلمانية.
وكذلك فإنه لم يعد للإسلامي الراديكالي حجة صلبة في رفض العلمانية المذهبية، مادمنا لم نستبعد الدين من مرجعية الدولة، إلا إذا شاء أن يقتحم العقبة، ويزعم أن المذهب هو الدين، وأن الدين هو المذهب، وفي هذه الحالة يكون قد حفر قبره بيده، وأعطى خصمه السكين التي ستجهز عليه.
وبقي أمامنا سؤال مركزي، هو: هل الفصل بين الدين والمذهب ممكن فعلاً، أم أنه مجرد طموح؟.
والجواب أن الفصل ليس ممكناً فقط، بل هو قائم بالفعل؛ بدليل أن الناس يقبلون - من حيث المبدأ - بالخلاف في المذهب، لكنهم لا يتسامحون أبداً في المساس بالدين.
 وإذا كان العلماء يستطيعون تفسير ذلك وتبريره بلغة علمية، فإن العوام يشعرون بهذه القسمة في عقلهم الباطن، دون قدرة على التعبير.
وقد قدمنا فيما مضى بعض نصوص رجال المؤسسة الدينية التقليدية المعتبرين، التي تصرح بالتمييز بين الدين والفكر الديني، وأن الدين مجسد في نص القرآن الكريم، وحده لا شريك له.
مما يعني خروج كافة النصوص المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة، والفقهاء، من دائرة الدين إلى دائرة الفكر الديني (المذهب).
فإذا أضفنا إلى هذا التصريح اعترافاً آخر من جميع الفقهاء، بأن معظم النص القرآني ليس قطعي الدلالة، وأن كل فهم لنص ظني الدلالة لا يلزم إلا صاحبه، فقد وصلنا إلى أخطر النتائج على الإطلاق.
 وهي النتيجة التي تقول: إن النص القرآني ملزم للمؤمنين به، على وجه الإجمال فقط، أما عند التفصيل فإن النسبة الأقل من نصوصه هي الملزمة للجميع.
ونعني بها ذلك المستوى القرآني المحكم، الذي لا يقبل التأويل، وفق المرجعية البيانية للقرآن الكريم.
إن هذا المستوى المحكم من القرآن الكريم هو على وجه التحديد القدر المتفق على مرجعيته للدولة والمجتمع، أما الآيات التي تقبل التأويل والفهم على أكثر من وجه، فهي مرجعية ملزمة لأفراد المجتمع دون المجتمع نفسه.
 على اعتبار أن كل فرد مسلم ملزم أمام الله بما فهمه من هذه النصوص، حسب وسعه العقلي، وأن الدولة هي الكيان الذي يعبر عن مصالح الجميع ورغباتهم، دون تمييز بين أفرادها على أي أساس غير موضوعي.
أما إذا علمنا أن النص التشريعي هو جزء من النص المحكم المحدود، وليس كل النص المحكم، وأن الجزء العقائدي من هذا النص المحكم لا يعد مشكلاً سياسياً حقيقياً عند العلمانية نفسها، فقد ضاقت دائرة المرجعية الدينية للدولة إلى أضيق الحدود، بحيث لا يبقى منها إلا النصوص القانونية الصريحة، وإلا المبادئ الأخلاقية العامة، المتوافقة مع المقاصد العامة للدين، وهي مبادئ ومقاصد إنسانية لا تجد العلمانية في رفضها حجة متينة.
وإن معظم النصوص القانونية القرآنية التي تثير النزاع بين العلمانية التقليدية والإسلام، هي من تلك النصوص التي تقبل التأويل وإعادة التفسير، وفق القواعد اللسانية المعتبرة لدى الجميع.
 وهو ما يعني أنها ستعد على الإجمال من قوانين الدولة، أما على التفصيل فإنها ستفضي إلى آراء مذهبية لا تلزم الدولة، إلا في حالة واحدة، إذا قررت الأغلبية المذهبية أن تجعل مذهبها - بحكم الديمقراطية - مرجعاً للدولة.
لكن هذا الاحتمال الأخير إذا حدث سيكون بشرط واحد متفق عليه، هو أن ينظر إلى هذه الآراء المذهبية على أنها قوانين مدنية لا أحكام دينية، بوصفها أثراً من آثار العقل البشري الذي لا ينتج القداسة. مما يعني أنها خاضعة - بحكم الديمقراطية أيضاً - للنقد والمراجعة والرفض، من قبل المعارضين على الأقل.
 وهنا سيكون الفصل بين الجيد والرديء من القوانين والمرجعيات مرهوناً بمستوى وعي الجماهير الناخبة، وعلى هذا سيجري الصراع الفكري بين النخب التنويرية والقوى الظلامية.
ومن بين تلك الخلافات التقليدية التي نقدر أن تختفي بين العلمانيين، والإسلاميين الراديكاليين، تلك الخلافات الناشبة حول بعض التشريعات الدينية التي تمس حقوق الإنسان، مثل: عقوبة المرتد، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق؛ لأن بعض هذه العقوبات (الردة ورجم الزاني المحصن) لم تقم على أساس علمي متين، ولم ترد بنص قطعي الدلالة والحجية والثبوت، ومن ثم فإنها - وفق الاعتبارات التي قدمنا - لا تعد جزءاً من الدين، وإنما هي جزء من التراث المذهبي الذي لا يلزم الدولة في شيء.
أما عقوبة قطع يد السارق، فهي - على الإجمال - عقوبة ملزمة؛ لكونها وردت بدليل قطعي الحجية والثبوت، هو النص القرآني.
 إلا أنها عند التفصيل ستفضي بنا إلى رأي مذهبي، إذا ما تبين لنا أن نص هذه العقوبة يقبل التأويل والتخريج على أكثر من وجه، وهو ما أثبته كاتب هذه السطور - على الأقل - في مناسبات سابقة قبل سنوات.
 مما يعني أن الآراء المختلفة في تأويل هذا النص لن تكون جزءاً من الدين، ومن ثم فلن تكون جزءاً من المرجعية الدينية للدولة الإسلامية، ومن حق المشرع في هذه الحالة أن يختار ما يراه مناسباً من الآراء عند التقنين لعقوبة السرقة، بشرط أن يعترف بكون الرأي الذي سيتحول إلى قانون جماعي، جزءاً من القانون المدني، لا جزءاً من الدين.
نخلص من كل ما مضى إلى تقرير حقيقة واضحة يشعر بها الجميع، وإن كان البعض يعجز عن التعبير عنها في بعض الأحيان.. هذه الحقيقة تقول: إن الدين هو النص السماوي المتفق على حجيته وثبوته فقط، وإن التدين هو الحالة الفردية لتطبيق هذا الدين، أما الدولة فهي كيان اعتباري لا دين له، لكنه كيان قانوني، من حق الأغلبية الثابتة أن تشكله بما لا يتعارض مع الحقوق الطبيعية للإنسان.
وهذا ليس منطق الديمقراطية وحسب، ولكنه منطق الإسلام نفسه؛ لأن الإسلام - بعد استبعاد خرافة حد الردة - لن يختلف عن الديمقراطية في أية مسألة جوهرية؛ إذ إن حرية الاعتقاد والتدين المكفولة بنص قطعي في القرآن الكريم تعطي الفرد والجماعة كامل الحقوق التي تعطيها له الديمقراطية، بل وترتفع بها إلى مستوى الواجبات.. هذا على مستوى الحياة الدنيا، أما على مستوى الحياة الأخرى فإن الحساب سيكون فردياً على قدر وسع الإنسان من الفهم والصدق.
تلك هي الصيغة الإجمالية لمفهوم العلمانية الثالثة كما نقترحها للمجتمعات الإسلامية، نضمها إلى رأينا في حقيقة موقف الإسلام من منصبي الخلافة والإمامة، الذي نشرناه على صفحات (الجمهورية) في وقت سابق، في مقال بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”، وأثبتنا فيه بأدلة واضحة أن منصب الإمامة أو الخلافة ليس منصباً دينياً، وأنه لا القرآن ولا رسول القرآن أعطيا منصب الرياسة ونظام الحكم اهتماماً يذكر.
 مما يعني أننا أمام حالة من العلمانية الإسلامية لا يستطيع المتنطعون إنكارها إلا على سبيل المكابرة والتمحل.
إن سرّ قوة هذه الأطروحة أمام رجل الدين، المعارض الافتراضي، هو في أنها جاءت وفق التقاليد الأصولية المعتبرة لديه، وفي مذهبه، وأي إنكار لها هو إنكار لتك التقاليد، أو إنكار لصحة تطبيقها، وهو في الحالة الأولى مغامر متهور، وفي الحالة الأخرى مجرد مخالف في تطبيق المنهج، وما أكثر الخلاف والمخالفين

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

هذا بيان للناس.. حديث النبي من التأريخ لا من الدين




هذا بيان للناس..
حديث النبي من التأريخ لا من الدين

عصام القيسي

"
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, فويل لهم مما كتبت أيديهم, و ويل لهم مما يكسبون البقرة :79

هذا حديث قديم عند صاحبه, أجّله مراراً, لأسباب شتى, زال بعضها, و مازال الآخر باقياً. و ما أود أن يعرفه القارئ هو أن هذا الحديث لم يكن وليد نزوة فكرية أو طيش صبياني, و إنما هو ثمرة منِ ثمرات رحلة طويلة من القراءة و البحث و التفكر, صرف فيها كاتب هذه السطور أنفس أيامه, و شُغل بها عن تحقيق كثير من أحلامه, حباً في المعرفة, كل المعرفة, و رغبة في تحمل المسؤولية المقدرة له تجاه عقيدته و كيانه الجمعي, مهما كانت تلك المسؤولية محدودة الأثر. و إن كان لم يعط هذا المبحث على وجه التحديد إلا فضول أوقاته لانشغاله بما هو دونه!.

أقول هذا لأن كثيراً من أصحاب العطالة الذهنية و الفقر المعرفي _ و هم في حياتنا أكثر من الهم على القلب _ يتصورون أننا نقول ما نقول, ونكتب ما نكتب, لأننا لم نجد ما نفعل, أو لتحقيق شهوة الظهور والتميز, التي يجدونها في أنفسهم ثم لا يجدون إلى تحقيقها سبيلا!. و قد يقف أحدهم أمامك وعقله فراغ تصفر فيه الريح ليصفك بالجهل وقلة المعرفة!, ثم لا ينسى أن يتفضل عليك ببعض النصح, تقوّم به اعوجاجك, و تسدد به خطاك, و كان الله في عونك إذا قررت أن تحاوره بمنطق العلم و العقل, و هو الذي تنشأ على مبدأ " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" المائدة:104.  وتلقى معارفه على طريقة "سلّم الأجر ". فالمعارف لدينا تنتقل من جيل إلى جيل بنفس الطريقة التي تنتقل بها جنائز الموتى من كتف إلى كتف, دون أن يكلف أحد نفسه عناء التأكد مما إذا كان هذا المحمول على كتفه ميتاً حقاً, أم حمولة مخدرات!.

لكن من أين نبدأ هذا الحديث, وكل أبوابه ملغومة, إن نجونا من أحدها لن ننجو من الأخرى؟!. هل نبدأ من المشكلات التي تسببت بها مقولة (حجية الحديث) في مختلف وجوه حياتنا؟! .. هل نبدأ من الأدلة الواضحة في عدم حجية أي حديث غير حديث القرآن الكريم " ومن أصدق من الله حديثا " النساء 87, و أنه وحده كلمة الله الأخيرة, و الخالدة؟! " فبأي حديث بعده يؤمنون " المرسلات 50 .. أم نبدأ من الدوافع و العلل الأولى التي كانت وراء تأسيس مبدأ الحجيّة هذا, الذي جعل من كلام البشر ديناً يزاحم كلام الله, و يصد عن سبيل الله؟!. لعل من المناسب أن نبدأ من ذلك السؤال الذي يطرحه البعض على كاتب هذه السطور في سياق الاستنكار, و يقول: لماذا تجعل من مسألة (حجية الحديث) قضية ذات أولوية في نشاطك الفكري؟ لماذا لا تنشغل بحال أمتك اليوم و ما هي فيه من الضياع و الهزيمة, بدلاً من إضافة مشكلة جديدة إلى مشكلاتها المزمنة؟!.

وعلى ما في هذا السؤال من وجاهة ظاهرية إلا أنه في باطنه ينطوي على سذاجة تثير في نفسي مزيداً من القلق على مستقبلنا !., فالسائل عادة لا يعلم أن مشكلات الواقع _ واقع الفرد أو الجماعة _ في نصيبها الأكبر _ ما هي إلا ترجمة لمشكلات العقل والثقافة, إذ لا يجوز _ في حكم العقل والنقل _ أن يكون الجسم سقيماً عندما يكون العقل سليما. إلا إذا كان الجهل نوراً والعلم ظلاماً !. وعقل الجماعة_أو الفرد_ هو ثقافتها الفاعلة التي تحدد رؤيتها, ومبادئها, ونظام تفكيرها. فإذا صلحت الثقافة صلح العقل, وإذا صلح العقل صلح الواقع, في جدلية من التأثير والتأثر معروفة. وعليه فإن خلل الواقع المنظور والمحسوس هو تهمة صريحة لحالة العقل والثقافة. وهذا لا يعني أن الثقافة بمعانيها الواسعة التي تشمل العقل هي العامل الوحيد في تشكيل حياتنا, وإنما هي العامل الأكثر حسماً, والأكثر تفسيراً لمشكلات الواقع الفردي والجمعي. فماذا في ثقافتنا يحتاج إلى إصلاح؟!

الحقيقة أن مفهوم الثقافة أشبه ما يكون بمجرة واسعة من العناصر الذهنية والنفسيّة الموروثة والمكتسبة, التي يصعب الإحاطة بها.. إنها في أوسع تعريف لها: ما يتبقى في الذاكرة بعد نسيان كل شيء!. إلا أن مركز هذه المجرة الذي يستقطب أجرامها ويحدد مسارها هو (الدين), ممثلاً عندنا في (الإسلام) على وجه التحديد. و أي خلل يصيب هذا المركز لا بد أن تتبعه مظاهر كثيرة من الخلل في مختلف الأطراف. وعليه فإن أية محاولة للإصلاح والتحول لا تبدأ من المركز تكتب على نفسها الفشل من اللحظة الأولى!. فماذا في ديننا يحتاج إلى إصلاح؟. وأعني بالدين هنا تلك المنظومة العقدية, والروحية, والتشريعية, المكونة من النص الديني المنزل على الرسول (ص) وما ألحق به من نصوص إضافية على أيدي المسلمين بعد ذلك كما هي عادة أهل الكتاب!, و ما نشأ بين العقل الإسلامي و بين هذه النصوص من تفاعل تحت راية (الاجتهاد) في مئات السنين الماضية. كما سيتبين لنا في نهاية المطاف من هذا البيان.

إن هذا البيان يحاول الكشف عن حقيقة ناصعة البياض, ظلت تحت الردم مئات السنين, تتنفس نعم, و لكن لا ترى الشمس!, حقيقة كانت من البدهيات في أزمنتها الأولى, و هي الآن غريبة غربة الحق في غير زمنه, فطوبى للغرباء!. حقيقة لا تحتاج إلى كثير علم بقدر ما تحتاج إلى كثير صدق مع الله و النفس, و إلى كثير شجاعة للصدع بها في وجه مجتمعات كالحة الظلمة, جهلاً, و نفاقاً, و استبداداً. حقيقة تقول إن الله تعالى لم يخاطب المسلمين بغير القرآن الكريم, و أن ما يسمى بالحديث النبوي الشريف ليس جزءاً من دين الله الذي كلف الرسول (ص) بإبلاغه و الإنذار به, و إنما هو جزء من تاريخ النبوّة ( السيرة النبوية ) صدر عن النبي (ص) بحكم العادة والاجتهاد البشريين لا بحكم  الرسالة والتبليغ!. حقيقة تقول إن المسلمين _ بوعي أو بدون وعي _ قد انقلبوا على الإسلام!, و أن قطارهم المظفر ما توقف عن المضي قدماً إلا لأنه خرج عن مساره الذي حدده الصانع الحكيم, فتحطم من عرباته ما تحطم, و تاه منها ما تاه في وديان الوهم و الجهالة!.حقيقة صادمة نعم, لكنها لازمة لأهل الكهف, كهف التخلف, الذين يعبون من ( نهر الجنون ), و هم يحسبون أنهم عقلاء, و أن المجنون هو ذلك الذي تجنب الشرب من نهرهم, و وقف بعيداً ينذرهم, و هيهات أن يعقلوا, أو يغادروا كهفهم, و قد تعودوا على الظلمة, و تعودت عليهم, حتى لا تقوى عيونهم على احتمال ضوء النهار خارجه!.

و هي _ بالمناسبة _ ليست الحقيقة الوحيدة التي دثرها تراب الاجتهاد الأعشى, فإلى جانبها_ تحت الردم _ حقائق أخرى كثيرة, لا نرى بعضها, و إن كنا نسمع أنينها, و ذكرنا بعضاً منها في مقالات سابقات لم تجد فرصة للنشر على صفحات الجرائد, و نشرت على مواقع الكترونية, مثل ذلك المقال الذي عنونته ( في الطريق إلى الخلاص .. هل انقلب المسلمون على الإسلام ؟!) و عددت فيه مظاهر انقلاب المسلمين على الإسلام, بعد ذهاب جيل (الصحابة), و من تلك المظاهر: اغتيال سنة صلاة الجماعة للنساء في المسجد الجامع مع الرجال, كما كان الحال في زمن النبي (ص) و زمن الراشدين , و اغتيال مبدأ (الشورى) في ولاية الأمر, على يد معاوية بن أبي سفيان, الذي أسس لنظام الملك و الوراثة و الاستبداد, و منها فضيحة (الاغتصاب) الكبير الذي مارسه المسلمون باسم (الفتح) الإسلامي لنساء البلاد المفتوحة, بعد تحويلهن و رجالهن من أسرى حرب إلى رقيق, يباع و يشترى في أسواق النخاسة, كما تباع الأحذية و الأنعام, و كل ذلك باسم الإسلام, و " ما ملكت أيمانكم " ! و دون أي سند شرعي يبرر هذه الفضيحة, ضاربين عرض الحائط بكل النصوص القرآنية الداعية إلى إكرام الإنسان, و إكرام الأسير على وجه الخصوص, و التي تحدد مصير أسرى الحرب في طريقين اثنين لا ثالث لهما: المن عليهم بالحرية, أو بالفداء: " فإما منًا بعد و إما فداء " محمد:4

ومنها اختراع (عقوبة الرجم) للزاني المحصن, دون دليل قطعي, و هو من العقوبات الشديدة التي كتبت على بني إسرائيل في سياق تربيتهم و تأديبهم ,للعلل النفسية والخلقية التي تلبست بهم. مثل تلك العقوبة الشديدة التي ذكرها القرآن الكريم في التكفير عن ذنب من ذنوبهم, قال تعالى " وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل  فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم" البقرة 54. و يعتقد أنها تسربت إلى تراثنا الديني مع ما تسرب من إسرائيليات عن طريق بعض اليهود الذين أسلموا قبل وبعد انقطاع الوحي. مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه وغيرهما (أنظر سفر التثنية. الإصحاحين 22-23)!. و كذلك اختراع (حد الردة) لمن شاء تبديل عقيدته!, بالرغم من الآيات الواضحات في حرية الفكر, والاعتقاد, والجدل مع المخالف بالتي هي أحسن, وبالرغم من إغفال القرآن الكريم لأية عقوبة دنيوية لخطيئة الردة!, وبالرغم من كل الأدلة المعارضة لهذه العقوبة القاسية. وغير ذلك كثير من المقولات الاجتهادية والأدخولات اليهودية التي صارت عند الناس مسلمات لا يمكن تجاوزها, أو مناقشتها, مهما كان منطق الضعف فيها بادياً, ومهما كان بنيانها متهاوياً!. وليس هذا مجال بحثها و تفصيلها.

إنني أضع هذا البيان بين أيدي الباحثين المخلصين لعقيدتهم و أمتهم, وأعلقه بجوار آذانهم ناقوس خطر, و أخشى عليه من طيش الصبيان, وحمق المقلدين, و ما أكثرهم في زماننا و أشد نكايتهم, و لكن الله غالب على أمره, إذا شاء جعل النار برداً و سلاماً!. و السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: إلى أي شيء نستند في هذا الاعتقاد,  الاعتقاد بوحدانية كلام الله, و عدم حجية أي حديث غير حديثه في القرآن الكريم, و قبل المضي في الإجابة عن السؤال أود ابتداءً تحديد مفهوم ( الحديث ) كما أعنيه في هذا البيان, لإزالة أي لبس قد يقع فيه القارئ غير المتخصص. و الحديث الذي أعنيه هو هذه الروايات المدونة في كتب الحديث, والمنسوبة إلى النبي (ص) حيناً, وإلى صحابته حيناً آخر, وهذا لا يعني _ بالضرورة _ أن قائلها هو النبي (ص) يقيناً, أو صحابي من صحابته, إذ قد تكون من الأكاذيب المنسوبة إليهم, وإن صح سندها. فصحة السند وحدها لا تكفي لتأكيد نسبتها إلى الشخص المعين. لأن صحة السند تعني عند المحدثين أن عدداً من الشروط التي وضعوها قد توفرت في الرواية. إلا أن هذه الشروط نفسها وإن تحققت لا تضمن نسبة القول إلى صاحبه يقيناً, فكم من حديث صح سنده وبطل متنه, وما أحاديث القراءات الشاذة إلا مثلاً شروداً على ذلك!, و هذا ما يؤكده علماء الحديث أيضاً. و قد نقلنا ما قاله في هذا الباب ابن الصلاح في مقدمته الشهيرة, في محله من هذا البيان. و أما الآن فإلى مستنداتنا في القول ببشرية الحديث النبوي, واعتباره جزءاً من تاريخ النبوة لا جزءاً من الوحي المقدس المتصف بالإلزام والديمومة.

1

أولاً: لما ثبت يقينا في القرآن الكريم من أن النبي عليه الصلاة و السلام لم يكن في كل حالاته ينطق, أو يتصرف عن وحي من الله, و إنما عن عادة و اجتهاد بشريين, و بهذا قال أئمة العلم و محققوه, و شواهده في القرآن و السيرة لا تحصى, من نحو قوله تعالى في عتاب النبي (ص) و التصويب له:"عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " التوبة  43, و قوله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم" التحريم 1 , و قوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض, تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة, و الله عزيز حكيم, لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" الأنفال 68, و قوله تعالى:" عبس و تولى أن جاءه الأعمى, و ما يدريك لعله يزكى...وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى " عبس 1-10 .

 فقد دلت هذه الشواهد و غيرها في الكتاب و السيرة على أن النبي (ص) كان يمارس الاجتهاد في الدعوة إلى الله, و في تطبيق الشريعة, و في إدارة شئون جماعته, باعتباره أول المكلفين بتدبر القرآن و استنباط أحكامه. و كان في اجتهاده يصيب أحيانا و يخطئ أخرى, فيصحح له الوحي أحياناً  كما يصحح للمسلمين في زمن الوحي إذا أخطأوا و قصّروا !. يقول الدكتور عبد المنعم النمر: و قد شرّف الاجتهاد, و رفع من منزلته, و أعطاه دفعة قوية, أن الرسول عليه الصلاة و السلام, باشره في تنفيذ بعض النصوص, و في بعض أمور الحياة لإعطائها حكما شرعيا لم ينزل فيه وحي... و أراني في حاجة إلى وقفة مع اجتهاد الرسول صلى الله عليه و سلم فوق ما سبق أن ذكرته تحت عنوان: " هل هي عن وحي " لأني أحسست من موقف بعض العلماء هنا, و في الملتقى الفكري السابع عشر بالجزائر سنة 1983م الذي خصص لبحث الاجتهاد, أحسست أنهم يجفلون من وصف الرسول بأنه يجتهد, و يعتبرون ذلك تطاولا على الرسول الذي تصفه آية النجم بأنه " ما ينطق عن الهوى " و سيطرت هذه الآية على نفوسهم, فجعلوها عامة في  كل نطق ينطق به الرسول و هو خطأ...لقد اضطررت في تعليق لي على بعض ما سمعته في هذا الملتقى, إلى أن أذكر إخواني الوجلين من كلمة " اجتهاد الرسول " بأن هذه حقيقة علمية و واقعية تعرض لإثباتها و القول بها أغلب أئمتنا و علمائنا على مر القرون حتى الآن, و إن هذه الحقيقة تدرس لطلابنا و تتحدث عنها الكتب المقررة عليهم, و كل الكتب التي تتحدث في أصول الفقه و تاريخه, فلا يليق بعلمائتا أن يقفوا منها هذا الموقف الذي ينبئ إما عن عدم علم بالحقائق التشريعية, أو عن خوف من التحدث بها و إقرارها... و تأسفت أن يكون هذا حال علماء حضروا لبحث موضوع " الاجتهاد". (الاجتهاد: 78/81).

وهذا يضعنا لزاما أمام سؤال مهم هو: كيف يمكننا التمييز بين ما يصدر عن النبي (ص) من وحي إلهي وما يصدر عنه من اجتهاد بشري,  تمييزاً حاسماً يمنع دخول البشريّ  في دائرة المقدس الديني و العكس؟! الحقيقة أنه لا يوجد أي نص في الكتاب أو في تراثنا الفقهي _ حسب علمي _ يضع لنا معايير حاسمة و حدوداً فاصلة بين ما يصدر عن محمد (ص) بحكم العادة و الاجتهاد و ما يصدر عنه بحكم الوحي. مع أن الأمر في غاية الخطورة و الأهمية!, إذ قد يكون ذلك مورداً من موارد الشرك, و القول على الله ما لم يقل, وهو من أعظم المحرمات التي حذر منها القرآن الكريم قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن, والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. الأعراف 33.  و إغفال الوحي للمعايير الفاصلة بين ما يصدر عن النبي في هاتين الحالتين يشير بوضوح إلى كون هذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر!.وأن جهداً بسيطاً من التدبر في القرآن الكريم وفي أحوال النبي العظيم كاف للفصل بين الموردين, وهذا ما سنقوم به في هذا البيان على وجه الإجمال والاستعجال غير المخلين, إن شاء الله.

فلقد دل الاستقراء و الاستنباط في القرآن الكريم على أن لمحمد (ص) مقامات عدة يتصرف فيها, عدها بعضهم أكثر من (11) مقاماً, إلا أن الغزالي و القرافي وابن عاشور و غيرهم ممن فطنوا إلى مقامات النبي (ص) قديماً لم يحسنوا تمييزها على أسس واضحة. وقد تأملت الأمر فوجدت للنبي (ص) مقامات خاصة لا تعلق لها بجماعة المسلمين كمقام الزوجية و ما شابهه, و مقامات أخرى عامة هي التي تخص المسلمين و تعنينا في هذا السياق, و قد حصرتها في ثلاثة مقامات, على ضوء شواهد القرآن الكريم و مؤيداته من السيرة النبوية, و هذه المقامات العامة هي: مقام الرسالة, و مقام النبوة, و مقام ولاية الأمر ( وهو فرع عن مقام النبوة ), على نحو من التفصيل الآتي:

أولا:مقام الرسالة: وهو مقام تبليغ الرسالة ( الكتاب ) قال تعالى: " و ما على الرسول إلا البلاغ المبين " النور 54. وقال تعالى:" فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" النحل 35, و لا يجوز للرسول الاجتهاد في هذا المقام: " و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " الحاقة 45-46. و البلاغ لغةً هو: الإيصال بكفاية. والمبين: الواضح الكاشف. وفي سياق الآية هو: الإعلان العام للناس كافة, البين في حجيته, المبين لمقاصده. قال تعالى: قل إنما أنذركم بالوحي. وحدد هذا الوحي في آية أخرى بالقرآن دون شيء سواه, قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" الأنعام 19.الأنبياء:45. و هذا النوع من البلاغ لم يتحقق إلا للقرآن الكريم وحده باتفاق,, مما يدل على أنه وحده الرسالة المكلف بتبليغها  و أما حديث النبي (ص)  فقد كان معظمه يدور بين النبي (ص) و فرد أو أكثر من الصحابة  وغيرهم, في ظروف شتى, أو وصف لهيئة من هيئاته أو لعادة من عاداته. و لم يكن النبي (ص) ولا الصحابي حريصين على إعلانه للناس كافة, كما سيتضح لاحقاً. فضلا عن أنه نقل إلينا بعد ذلك عن طريق آحاد الرواة, بعكس القرآن الكريم الذي وردنا بنقل الكافة عن الكافة, دون حاجة إلى علوم الرواية والإسناد والرجال!. والحديث بهذا لا يتصف بصفة البلاغ المبين التي اتصف بها واشترطها القرآن الكريم في مهمة الرسل, ومن ثم لا يعد من الرسالة التي كلف الرسول بتبليغها.

واللافت أن التأويل الرقمي للقرآن الكريم يشير إلى حقيقة كون رسالة الله هي القرآن وحده!. والتأويل الرقمي قرينة لطيفة لا يجوز الاستهانة بها, و سيكون لها قدرها بعد نضج مبحث الإعجاز الرقمي في القرآن الكريم, وصيرورته إلى علم له حقائقه و فلسفته!. يقول عبد الرزاق نوفل في كتابه (الإعجاز العددي للقرآن الكريم): " لقد ورد ذكر رسالة الله بمختلف ألفاظها (10) مرات في القرآن الكريم... و بنفس العدد أي (10) تكرر ذكر سور القرآن الكريم ... أي أن رسالة الله و سور القرآن قد تساوى عدد مرات ذكرها في القرآن الكريم " أهـ. و هذا التساوي له دلالته عندنا, و عند من آمن بوجود بنية رقمية و عددية معجزة في القرآن الكريم, لا تحتاج إلى عناء في إثبات وجودها, (أنظر مثلاً: عجيبة الرقم 19. و زوال إسرائيل. للدكتور بسام جرار).

وعندما نقول بأن "الإسلام" هو "القرآن" وحده لا شريك له, و أن القرآن هو "الوحي" الواجب الاتباع و لا وحي سواه, فإن التأويل الرقمي أيضاً يؤيدنا في ذلك حيث تبين أن " عدد مرات ذكر ( الوحي ) ومشتقاته_ فيما يخص وحي الله لعباده و رسله _ (70) مرة هي عدد ذكر ( القرآن ) و مشتقاته, و بنفس العدد أي (70) تكرر لفظ ( الإسلام ) و مشتقاته, و" لم يتضمن هذا العدد لفظ ( أأسلمتم ) الذي ورد مرة واحدة بصيغة سؤال لا يفيد تحقق الإسلام " كما يقول نوفل.

إذنً فلا يسمى الرسول رسولاً (بالمعنى الخاص) إلا من زاوية كونه مبلغا لرسالة (كتاب) لا من زاوية كونه نبي يقوم بوظائف النبوة المعتادة, من دعوة للتوحيد و التزكية و الإصلاح. و هذا لا يعني أنه ليس بنبي, بل هو نبي و زيادة!, و الزيادة هذه هي (الرسالة) التي منحته صفتها, و إلا من زاوية المجاز و التغليب إذا ذكر النبي مع الرسول, نحو قوله تعالى عن موسى و هارون: فقولا إنا رسولا ربك.طه:47. و العربية تغلب الأعلى على الأدنى, و المتمكن على غير المتمكن, إذا اجتمعا في الخطاب. و لهذا كان موسى و عيسى و محمد رسلاً, و كان هارون و زكريا ويحيى أنبياء فقط. وهذا هو رأي جمهور الأصوليين من أهل السنة ( الأشاعرة وغيرهم). وأقول (بالمعنى الخاص) احترازاً من المعنى العام الذي يظهر من بعض الآيات القرآنية التي تطلق صفة (الرسول) على بعض الأنبياء الذين لم يبعثوا بشريعة خاصة, وتكتفي أحياناً بإطلاق صفة (النبي) على بعض (الرسل) الذين بعثوا بشريعة خاصة.

وتأتي الخصوصية هنا من الحقائق التالية: أولاً: استناداً إلى القاعدة اللغوية الشهيرة التي تقول إن الاختلاف في المبنى يؤدي إلى اختلاف في المعنى. ومبنى كلمة (رسول) غير مبنى كلمة (نبي) فلزم اختلاف معناهما. وهذه القاعدة لا تؤمن بخرافة الترادف اللغوي التي سقطت على أيدي المحققين من أئمة اللغة. ثانياً: استناداً إلى قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. الحج:52. والآية تفصل بواو المغايرة بين مفهومي الرسول والنبي, كما قال جمهور العلماء.( أنظر: التفسير الكبير للرازي). ثالثاً: استناداً إلى نتائج الاستقراء الأسلوبي في نص القرآن الكريم: فقد وجد الباحثون أن الأمر بالطاعة لم يقرن في أي سياق قرآني بلفظ (النبي) وإنما قرن بلفظ (الرسول). نحو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.النساء:59. وقوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول.المائدة:92. وفي المقابل لم يجدوا أي صيغة عتاب أو تصويب يوجه لمحمد (ص) مقرونا بلفظ (الرسول) وإنما وجدوا كل العتاب له إما مقروناً بلفظ (النبي) نحو قوله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم. التحريم:1. وإما خالياً من اللفظين معاً وهو ما يجعلنا نصرفه إلى أصل المقامات كلها وهو مقام النبوة نحو قوله تعالى: عبس وتولى أن جاءه الأعمى" عبس:1.

ثانياً: مقام النبوّة: و هو أصل المقامات الأخرى, ووظيفة النبي فيه _ أي نبي _ الدعوة إلى التوحيد و التزكية والإصلاح الاجتماعي والنفسي, و لكن صاحبه لا يختص بـ (رسالة / كتاب / شريعة) وإنما هو تابع لشريعة وكتاب رسول قبله, إلا إذا كان النبي نفسه يقوم بوظيفتي النبوة والرسالة في آن واحد. ومن أمثلة تبعية النبي للرسول تبعية هارون وكل أنبياء بني إسرائيل لموسى عليهم السلام. والنبي في هذا المقام يحق له الاجتهاد في الشريعة والحياة كما يحق لغيره من التابعين, بل هو أول المكلفين بذلك!. وهذا هو رأي جمهور علماء المسلمين من أهل السنة تحديداً. (أنظر: اجتهاد النبي لعبد الجليل عيسى).  غير أن اجتهاد النبي _أي نبي_ إن ألزم عصره فإنه لا يلزم أحداً بعد عصره, لأن الاجتهاد (فتوى) لا (حكم) , و الفتوى محكومة بظروف المكان والزمان والمعطيات المتوفرة أمام المفتي لحظة الإفتاء,, ومهما يكن المفتي ملماً عالماً فلن يكون محيطاً إحاطة الرب لمخلوقاته. و لهذا كان النبي يأتي وراء النبي و هو تابع لشريعة رسول قبله, لا لنبوة نبي قبله أو معه!. والنبوّة في اللغة إما من (الإنباء) وهو الإخبار, وإما من (النبوَة) وهي الرفعة. وكلا المعنيين يصح عليها.

ثالثاً: مقام ولاية الأمر: وهذا المقام فرع عن مقام النبوة, إذ أن النبي (ص) لم يكن ولياً لأمر المسلمين بانتخابات نيابية أو بانقلاب عسكري, و إنما بوصفه النبي الرسول, و يختص بكونه مقام شورى و اجتهاد, بدليل قوله تعالى يأمر النبي: و شاورهم في الأمر.آل عمران:159. إذ لا شورى إلا في موارد السياسة و شئون إدارة الجماعة لا في مجال الوحي!. وهو ما شهدت به السيرة النبوية أيضا في أكثر من مقام. و لمزيد من البيان لمفهومي: الشورى و ولاية الأمر, أنقل هذا النص النفيس للدكتور محمد عمارة, من كتابه (التراث في ضوء العقل) يقول في تعليقه على آية:وأمرهم شورى بينهم :  عند ما نطالع آيات القرآن الكريم نجده قد استخدم مصطلح (الشورى) _ و مشتقاته _ في مواطن ثلاث .. ففي الحديث عن شئون الأسرة _ و هي اللبنة الأولى في المجتمع و الأمة _ طلب أن يكون (التشاور) سبيلا لبحث شئونها و حسم خلافاتها " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور فلا جناح عليهما .. " .. أما في أمور السياسة و الحكم السياسي فإنه يستخدم (الشورى): " وأمرهم شورى بينهم ", فيجعل الشورى صفة من صفات المؤمنين, تشهد على ما عندهم من حقيقة الإيمان! .. كما يستخدم فعل الأمر من هذا المصطلح عندما يقول الله لرسوله, عليه الصلاة والسلام: " فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر ... ".

وهذا الارتباط بين مصطلح (الشورى) و مصطلح (الأمر) يضع يدنا على حقيقة كثيرا ما غفل عنها الكثيرون, حقيقة أن المصطلح القرآني الذي يدل على السياسة و نظام الحكم السياسي في المجتمع و شئونه هو مصطلح (الأمر) و ليس مصطلح (الحكم)! .. (فالحكم): فقه, أو نبوة, أو قضاء .. على حين كان (الأمر) هو السياسة و شئون المجتمع السياسية, و من هنا كان الارتباط بين " الأمر " و بين " الشورى " في آيات الشورى بالقرآن الكريم ..و إذا كان معنى " الإسلام " _ كدين _  هو الطاعة لله طاعة تامة, و إسلام الوجه لله, الأمر الذي لا يجعل للشورى مكاناً في أمور الدين و أصوله و عباداته, فإن السياسة و أمور الدنيا _ و هي مدنية بشرية _ قد جاءت مرتبطة بالتشاور و الشورى .. حدد ذلك القرآن, و حثت عليه السنة النبوية, و طالعناه في الأدب السياسي لعصر النبوة و الخلافة الراشدة ...

والذين يتتبعون وثائق ذلك العصر يجدون السياسة و شئونها واردة بكاملها تحت مصطلح (الأمر) .. ففي سقيفة بني ساعدة, بالمدينة, اجتمع المسلمون لتقرير نظام حكمهم بعد وفاة الرسول ,عليه الصلاة و السلام, و لاختيار خليفتهم, فكان أن قال أبو بكر الصديق: " إن محمدا قد مضى بسبيله, و لابد لهذا الأمر من قائم يقوم به ..) .. وعندما حضرت الوفاة عمر بن الخطاب, و عقد للشورى مجلسا, قال لهم: " تشاوروا في هذا الأمر " .. بل لقد جاء الاشتقاق اللغوي لكلمة (الأمير) _ الذي يتولى سياسة الدولة أو الإقليم أو الجيش _ من مصطلح (الأمر).. و منه كانت تسمية المسلمين لرأس دولتهم (أمير المؤمنين)! .. و كذلك كان "أولوا الأمر " هم القادة و الموجهون لشئون المجتمع في السياسة و الحرب و الاجتماع و الفكر و الاقتصاد ..
و في كتب الحديث _ و خاصة في صحيح مسلم _ نجد أحاديث السياسة, و ما نسميه بلغة عصرنا " نظام الحكم " مجموعة في (كتاب الإمارة) للصلة العضوية , بين هذا المبحث و بين مصطلح (الأمر) هو الدال على ما نسميه اليوم في أدبنا السياسي المعاصر بنظام الحكم, على حين كان مصطلح (الحكم) _ و لا يزال _ بعيدا عن هذا المبحث في القرآن الكريم! ..).أ.هـ

وبالاستناد إلى ما مضى فإنه لا يصدر عن النبي في مقام الرسالة إلا القرآن الكريم, لأنه لا رسالة سواه, و مادل عليه القرآن بشكل حاسم, و هو السنة الدينية المنقولة إلينا بالتواتر العملي!, و أما ما صدر عن النبي خارج هذه الحدود فهو داخل في مقام النبوة و غيره من المقامات الخاصة و العامة, التي لا تدخل في دائرة (البلاغ). ولأننا استثنينا السنة النبوية من مقامات الاجتهاد وأنزلناها حيث أنزلها القرآن الكريم, فإن من اللازم علينا بيان مفهوم السنة كما نفهمه فنقول: السنة هي: الأفعال الدينية الصادرة عن الرسول (ص) بصورة راتبة, تفصّل مجملاً أمرنا به في القرآن الكريم, ودل القرآن على أن بيانها لدى الرسول, و نقلت إلينا بالتواتر العملي نقلاً لا يشك فيه.
فبقولنا (أفعال) خرجت (أقوال) النبي (ص), و بقولنا (الدينية) خرجت أفعاله العادية مما يفعله الناس في ليلهم و نهارهم, و بقولنا (بصورة راتبة) خرجت أفعال النبي الدينية غير المفروضة من نوافل و عبادات و تسابيح, و بقولنا (تفصّل مجملاً في القرآن الكريم..) تأكيد على أن أصل هذه العبادات ينبغي أن يكون مأموراً به على الإجمال في القرآن الكريم, و دل العقل و النص على أن الرسول مكلف ببيانه, مثل بيانه لتفاصيل الصلاة. و بقولنا (نقلت إلينا بالتواتر العملي) خرجت كل المظاهر الدينية التي نسبت إلى النبي و لم ترد إلينا عن طريق (البلاغ المبين).

وقد ميزنا بين السنة والحديث استناداً إلى حقائق اللغة التي تفرق بين الفعل والكلام, واستناداً إلى حقائق التاريخ التي تروي أن الناس إلى بداية القرن الثاني كانت تفرق بين (أفعال) النبي و (أقواله) فيسمون الأولى (سنّة) و يسمون الأخرى (حديثاً), و يقولون: فلان أعلم بالسنة و فلان أعلم بالحديث. ثم خلف من بعد هؤلاء خلف جعلوا السنة حديثاً والحديث سنة, كرد فعل تجاه من يثبت السنة وينكر الحديث في زمنهم. وقد كان للإمام الشافعي دور كبير في إرساء هذا الخلط بين مفهومي السنة والحديث حيث ضرب أفعال النبي و أقواله و تقريراته في خلاط واحد, و أخرج لنا مخلوطاً جديداً أسماه (السنة القولية, والسنة العملية, والسنة التقريرية), كل ذلك على سبيل المجاز والتغليب ليس غير. فلم ينكر الشافعي ولا غيره أن أصل المفهومين في اللسان العربي مختلف عن الآخر. وهذا ما خلص إليه عالم كبير من علماء المسلمين هو البروفسيور طه جابر العلواني وهذا نص كلامه: والسنة في اللغة بمعنى السيرة والطريقة حسنة كانت أم قبيحة...وقد استعملت السنة في القرآن بمعنى الطريقة: قال الراغب:" وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته...ونقل الشوكاني عن الكسائي: أن السنة تعني الدوام. أي: الأمر الذي يداوم عليه. وقال الطبري "السنة هي المثال المتبع...وعلى هذا فيمكن أن نقول في تعريفها: السنة هي الطريقة الحميدة المتكررة المستمرة, المستقرة التي يعتادها صاحبها حتى تصبح عادة وطبيعة له وعرفاً يتعارف المتبعون لصاحب تلك الطريقة عليه..[ ثم نقل لنا معنى السنة عند الفقهاء فقال]: لعل أقرب التفسيرات التي صدرت عنهم إلى المعاني اللغوية التي ذكرناها تفسير الحنفية, قال الكمال:" السنة هي: ما واظب عليه الصلاة والسلام على فعله ...أما الشافعية فقد عرفوا السنة بأنها:" الفعل المطلوب طلباً غير جازم" على تفصيلات كثيرة لديهم وكلها _ في حدود اطلاعنا_ تكاد لا تستحضر عند تعريفها غير "الفعل النبوي" اللهم إلا ما كان من تقي الدين السبكي الذي عرف السنة بأنها: ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي (ص), فكأنه لم ير الاعتياد والاستمرار والدوام كافية في جعل ما واظب عليه سنة إذا لم يقترن بأمر منه صلى الله عليه وسلم...

ولا نود أن نثقل على القارئ بذكرنا سائر التفاصيل والمواقف المتعددة في المسألة, فذلك ليس من هدف هذه الدراسة, التي نود أن نكرس الاهتمام نحو تجريد مفهوم السنة وتخصيصه فيما وضع له, واستعمل فيه, وهو الفعل أو الطريقة المقترنة بالدوام والاستمرار والاعتياد, وليست الأقوال والأحاديث والأخبار المجردة سواء نُصت إلى النبي أو لم تُنص إليه, ويؤيد ذلك ويعززه حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له:" إن كنت تريد السنة فجهر بالصلاة",قال ابن شهاب: قلت لسالم: أفعله رسول الله (ص) ؟! قال: وهل يعنون بذلك إلا سنته"...كل هذه النقول تدل على أنه حتى بدايات القرن الهجري الثاني لم يشع استعمال مفهوم "السنة" في "الأخبار والأحاديث" بل في أمور تطبيقية وعملية وفعلية واظب رسول الله (ص) عليها, وداوم فعلها وتكرارها حتى صارت طريقة له في العمل والحياة وفهم الناس من ذلك أنهم مندوبون إلى متابعته فيها. أما استعمال "السنة" في كل ما أضيف إلى رسول الله (ص) من قول أو فعل أو تقرير فذلك أمر شاع وانتشر بعد عصر التدوين الرسمي للمعارف الإسلامية في عهد المنصور, وجرى تداوله بعد ذلك. ولم يأخذ شكلاً مستقراً حتى بعد ذلك. (مجلة: إسلامية المعرفة _العدد 39).

وقد عددنا السنة العملية بوصفها السابق جزءاً من الدين نزولاً عند الإحالات القرآنية التي تأمر بإقامة هذه السنن دون أن تفصّلها, مما يعني أنها تحيل إلى شيء معروف عند المخاطب الأول, ولم يتبق إلا أن نتأكد من ثبوتها عنه دون زيادة أو نقصان على وجه اليقين. ومن ذلك الإحالات القرآنية في شأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة  نحو قوله تعالى: و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. النور:56.  والآية ترفع الصلاة و الزكاة إلى مرتبة الرسالة حين تشير إلى أن تفاصيل أركانهما عند الرسول الذي تجب طاعته!. وقد اتفق المسلمون جميعاً على أن هذه الهيئة من الصلاة بأعدادها ومواقيتها قد وردتنا عن النبي (ص) بنقل الكافة عن الكافة, فلا تحتمل الشك والريب تماماً كما حدث مع القرآن الكريم.

و هذا يضعنا أمام سؤال آخر يقول: هل يعني هذا أن هذه السنن من الوحي المقدس, و هل هناك وحي غير وحي القرآن الكريم؟ و لماذا لا يكون الحديث إذنً جزءاً من هذا الوحي, إذا كان الرد بالإيجاب؟!. و الحقيقة أنه لا مانع من وجود وحي (مساعد) لوحي الرسالة, أدنى رتبة من وحي القرآن الكريم, بل إن شواهد هذا الوحي متوفرة في الكتاب و السيرة: كوحي الله لأم موسى: و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " القصص:7. و وحي الله  للحواريينوإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي. المائدة:111.  و قبل ذلك وحي الله للأنبياء جميعاً بدون كتاب!. و ما ترتيب آيات القرآن في سوره, و ترتيب سوره في مصحفه, إلا شاهد من شواهد وجود هذا الوحي, يوجه النبي (ص) في هذا الترتيب الذي دلت البحوث و الدراسات الرقمية و العددية على إعجازه, و صدوره عن حكيم خبير!. والقول بوجود أنواع مختلفة ومتفاوتة الرتبة من الوحي هو محل اتفاق بين العلماء المسلمين. (أنظر: الحديث والمحدثون: محمد أبو زهو).  و لا غرابة في قولنا بوجود وحي مساعد لوحي الرسالة, ما دام القرآن يحدثنا عن مساعد نبي, أو بلغة القرآن (وزير) نبي!, فهذا موسى عليه السلام يطلب من ربه ( وزيرا ) له من أهله يساعده في شئون النبوة, و يرشح هارون أخاه لهذه المهمة: و اجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي, أشدد به أزري, و أشركه في أمري. طه:29-32.  و الله سبحانه و تعالى يقبل ترشيح موسى و يعتمد هارون نبياً (مساعداً) لموسى الرسول!.

و لمزيد من الاطمئنان فقد قام كاتب هذه السطور بعملية إحصاء عددي لكلمة (صلاة) و مشتقاتها في القرآن الكريم, لعله يجد دلالة ما من بنية (التأويل الرقمي) الذي يؤمن به. و كانت المفاجأة وجود الملاحظات الآتية: كلمة (صلوات) هي مجموع كلمة ( صلاة ), و عدد حروف الجمع (5) حروف, و هو عدد صلوات اليوم و الليلة. وردت مشتقات كلمة (صلاة) في القرآن الكريم دون تكرار (19) مرة, و الرقم (19) هو الرقم المعجز في البنية الرقمية للقرآن الكريم, و يطلق عليه بعضهم (الشفرة) الرقمية للقرآن الكريم, كما أثبت باحثون ثقاة أمثال: الدكتور بسام جرار في كتابيه (عجيبة الرقم 19) و (نهاية إسرائيل), و الدكتور عبد الرزاق نوفل في كتابيه (معجزة الأرقام و الترقيم في القرآن) و (الإعجاز العددي للقرآن الكريم), و قبلهما الدكتور رشاد خليفة, الذي دفعه هذا الكشف المذهل إلى ادعاء النبوة!. وردت كلمة ( صلاة ) و مشتقاتها مكررة (99) مرّة. و بقسمة العدد (99) على العدد (19) يكون الناتج ( 5,2105263 ) و هذا الرقم يرمز إلى أمرين: الأول: العدد الصحيح (5) و يرمز إلى عدد الصلوات (المفروضة) في اليوم و الليلة!, والآخر: الأعداد غير الصحيحة بعد الفاصلة( 2105263) و ترمز إلى النوافل بعد الفرائض!. و العجيب أن مجموع أرقام هذه النوافل يساوي العدد (19) أيضاً. و بجمع النوافل (19) إلى الفرائض (5) ينتج العدد (24) و هو عدد ساعات اليوم و الليلة التي تؤدى فيها الفرائض و النوافل!. و بضرب العدد (19) في العدد (99) ينتج العدد (1881) و هو عدد صلوات اليوم و الليلة في العام الواحد, إذ بقسمة (1881) على ( 5,2105263 ) يكون الناتج (361) و هو عدد أيام السنة على أحد التقاويم !. فهل هي مجرد صدف رقمية؟!.

وعوداً على بدء فقد ثبت قطعاً أن النبي (ص) كانت له حالات يتصرف فيها خارج حدود الوحي, إما بحكم العادة البشرية وإما بحكم الاجتهاد والتشاور, والآيات في ذلك واضحة حاسمة. وقلنا إنه لا بد من التمييز الواضح بين ما يصدر عن النبي بحكم الوحي و ما يصدر عنه بحكم العادة و الاجتهاد حتى لا يختلط المقدس بالبشري, و نقع في الشرك!. وقلنا إن هذا التمييز الواضح غير ممكن إلا بافتراض مقامات عامة واضحة للنبي (ص), و قد دلتنا الآيات والسيرة على ثلاثة منها هي مقامات: الرسالة,و النبوة, و ولاية الأمر. و استناداً إلى ما مضى, قلنا إن ( الحديث النبوي ) يعد امتداداً لمقامات النبي كلها عدا مقام ( الرسالة ) لأن الرسالة محددة بـ ( الكتاب ) ومشروطة بـ ( البلاغ المبين ) وهذه هي الإبانة التي وصفت بها رسالة الرسول, والبصيرة التي أمرنا باتباعها:" قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني "يوسف:108. بعيدا عن الغبش و الظنون, و " إن يتبع أكثرهم إلا ظنا "!. وسنتعرض لاحقا بالنقاش المفصل لكل الشواهد والآيات التي زعموا أنها أدلة في حجية الحديث.

2

ثانياً: نهي النبي (ص) الثابت في كتب الحديث نفسها عن تدوين كلامه: دون أن يثبت تراجعه عن هذا النهي, فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبي (ص) قال:لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن, و من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه, و حدثوا عني و لا حرج , و من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . و له روايات أخرى مماثلة في كتب الحديث الأخرى. وقد حاول بعض الصحابة مراراً التأثير على النبي (ص) ليسمح لهم بكتابة حديثه لكنه أبى!, فقد جاء عن أبي سعيد الخدري أيضاً قوله: جهدنا بالنبي (ص) أن يأذن لنا في الكتاب فأبى " و ورد عنه أيضاً قوله:" ما كنا نكتب غير التشهد و القرآن " (سنن أبي داود). و كان النبي (ص) قد برر هذا النهي في حديث عن أبي هريرة قال:" خرج علينا رسول الله (ص) و نحن نكتب الأحاديث, فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: نكتب أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله؟!. أتدرون. ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى" (تقييد العلم: الخطيب البغدادي) . و هو ما يعني بوضوح أن كلام الأنبياء ليس داخلاً في مجال الدين, وأنه إذا تركهم يكتبون أحاديثه في زمنه دون أن ينهاهم فسيعد ذلك منه قرينة على حجيتها عندما يزعمون ذلك, فيقعون في ما وقعت فيه الأمم السابقة من تقديس لكلام الأنبياء, حين تأخذ هذه المدونات طريقها إلى منصة القداسة بفعل الزمن و العقل الأسطوري للأمم غير الكتابية. و قد وقع بالفعل ما كان يخشاه النبي (ص), وصار حديثه ديناً يزاحم حديث الله!.

ومما يؤكد وقوع هذا النهي عن كتابة الحديث النبوي اتفاق المسلمين على أن الصحابة لم يدونوا _ بصورة رسمية _ أحاديث النبي (ص) مما يدلل على التزامهم بتوجيهات النبي (ص) و على كون عموم النهي غير منسوخ في مرحلة متأخرة من حياة النبي كما تزعم الكثرة الجاهلة!. بل نحن ننكر مبدأ النسخ في الدين من أساسه, و سيكون لنا مع هذا المبدأ وقفات  تكشف باطله في مناسبة قادمة إن شاء الله!.  و قد استفاضت الروايات عن كبار الصحابة الرافضة لتدوين الحديث أو حتى الإكثار من روايته, مع الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم لا شريك له: فقد روى البخاري عن ابن عباس: لما اشتد بالنبي (ص) وجعه قال: أئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي, قال عمر: إن النبي غلبه الوجع, و عندنا كتاب الله حسبنا ". فأين ذكر السنة هنا؟ و هل يقدر عمر _ إذا صدقت الرواية _ أو غيره على رد أمر رسول الله (ص) لو كان من الدين؟ أم أن الجميع يدرك أن الدين قد اكتمل بنزول آخر آية لا بقول آخر حديث؟!.
و في رواية عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق, فمشى معنا عمر إلى حرار ...  فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم, جردوا القرآن, و أقلوا الرواية عن رسول الله (ص), أمضوا و أنا شريككم, فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا, قال: نهانا عمر بن الخطاب !.ولم يكتف عمر بذلك بل كتب في الأمصار يقول: من كان عنده شيء من الروايات فليمحه. و روي عنه أنه أحرق مجموعة من الروايات و قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب؟!. بل بلغ به الاحتياط في منع الحديث ( و ليس التدوين فقط ) إلى درجة حبس مجموعة من كبار الصحابة بالمدينة لإكثارهم من التحديث ( وهو مباح ), فقد روي أنه بعث إلى عبد الله بن مسعود, و أبي الدرداء, و أبي مسعود الأنصاري, فقال لهم: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله (ص)؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد!.

وأما أبو بكر الصديق فقد جمع الناس و قال:إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها, و الناس من بعدكم أشد اختلافا (صدق أبو بكر ) فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً, فمن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله و حرموا حرامه!. و مثله فعل الإمام علي: عن جابر بن عبد الله بن يسار, قال: سمعت علياً يقول : أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه, فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم "!.( جامع بيان العلم و فضله).
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه أحرق صحيفة بها بعض الأحاديث ثم قال: أذكر الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا علمني به, و الله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها!, بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون!. فليت شعري كيف انقلب هذا التشديد في منع الحديث إلى تشديد في كتابته و الأخذ به؟!.وروى مسلم عن ابن عباس قوله: إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه, فلما ركب الناس الصعب و الذلول تركنا الحديث عنه . و أراد معاوية أن يكتب حديثاً فنهاه زيد بن ثابت قائلاً: إن رسول الله (ص) أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه .
بل إن عمر بن الخطاب _ في خلافته _ قد تحرج حتى من كتابة ( السنن ) و هي التي تنقل إلينا بالتواتر العملي و لا تحتاج إلى تسجيل إلا من باب التوثيق التاريخي, و قد ميزنا سلفاً بين مفهومي: السنة و الحديث, و قلنا إن الفرق بينهما هو الفرق بين ( الفعل ) و ( الكلام ). فقد روى الزهري قال:أخبرني عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب ( السنن ), و استشار فيه أصحاب رسول الله, فأشار عليه عامتهم بذلك, فلبث شهراً يستخير الله في ذلك شاكاً فيه, ثم أصبح يوماً و قد عزم الله له فقال: إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم, ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها و تركوا كتاب الله, و إني و الله لا ألبس كتاب الله بشيء!.(تقييد العلم: الخطيب البغدادي). لاحظ قوله " تذكرت"  و قوله  "فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها و تركوا كتاب الله ", فإنه يتطابق مع قول النبي في حديث أبي هريرة السابق " كتاب غير كتاب الله؟!. أتدرون. ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى"!.و كل التبريرات التي وردت عن الصحابة في النهي عن التدوين تطابقت مع قول النبي (ص), فلماذا تجاهلها المحدثون و الشيوخ, و ذهبوا ينقبون عن تبريرات أخرى مغايرة؟!.

والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم و الاستغناء به عن الحديث كان موقف أم المؤمنين عائشة أيضا: فعن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان بن عفان رضي الله عنه بمكة, و جئنا لنشهدها, و حضرها ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما, و إني لجالس بينهما ... فقال عبد الله بن عمر لعم بن عثمان: ألا تنهى النساء عن البكاء فإن رسول الله (ص) قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه. قال ابن عباس: قد كان عمر يقول ببعض ذلك .. فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: رحم الله عمر! و الله ما حدث رسول الله (ص): إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه, و لكن رسول الله تعالى قال:إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه..و قالت حسبكم كتاب الله " ولا تزر وازرة وزر أخرى ". و لعل النبي (ص) _ إذا صحت هذه الرواية _ قد اجتهد في فهم قوله تعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون . النحل:25.  كما يرى محمد الغزالي!. و الحديث رواية آحاد لا يفيد شيئاً في أي مجال فما بالنا بمجال الاعتقاد!. و الروايات الواردة عن النبي وصحابته في النهي عن كتابة الحديث مستفيضة بلغت عند البعض حد التواتر.

وهذا لا يعني أن الكتابة في حد ذاتها هي المشكلة التي يخشاها النبي و صحابته, لأنه لا معنى للنهي عن (الكتابة) ما دامت الرواية الشفاهية جائزة, و إنما كان النهي قراراً تكتيكياً من النبي (ص) قصد به إبطال حركة التدوين الرسمي للحديث في عهده, لأنها الذريعة التي ستحول كلامه إلى دين يؤاخذ عليه الناس, و لا مانع بعد ذلك من أن يسمح لأفراد قلائل من الصحابة في مناسبات معينة, و لأسباب خاصة _ كالاستعانة على الحفظ مثلاً _ أن يدونوا بعض حديثة, فلكل قاعدة استثناء. و لا يصح القول هنا إن إذن النبي لبعض الصحابة بالكتابة  بتلك الاحتياطات قد نسخ النهي العام الذي أصدره سابقاً,لأن حالات الخصوص لا تلغي عموم النهي كما يقول رشيد رضا, و كما تقول القاعدة الأصولية!.

لقد تنبه النبي إلى أن كتابة حديثه اليومي ستمنحه سمة الثبات و الديمومة التي تكون للنص الديني المقدس, و أن سكوته عن التدوين سيعد إقراراً منه أو قرينة على أنه من الوحي المحفوظ, فنهى عن الكتابة و أذن بالرواية _ على سبيل الجواز لا الوجوب _ إذ لم يكلف أحداً برواية حديثة. و الإذن برواية حديثه شفاهاً لا ضير فيه, لأن الرواية الشفهية تعرض المحفوظ للشك في الحجية. و تفقده  القيمة التوثيقية التي تمنحه سمة الثبوت القطعي, الذي يسميه القرآن ( البلاغ المبين ). و فعل الرسول هذا يندرج تحت القواعد الأصولية التي تقول بسد الذريعة, وبعدم جواز السكوت في محل البيان, وأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع!.

إن شواهد النهي مستفيضة, وتبريراته متطابقة بين النبي وصحابته كما رأينا, و يعضد بعضها بعضا, ولا معارض لها أقوى منها دلالة, والمحدثون والأصوليون لم ينكروا صحة أحاديث النهي و حقيقة وقوعه من قبل النبي (ص), و لا قالوا إنه تراجع عن هذا النهي صراحة, و إنما ذهبوا يبحثون لهذا النهي عن مبررات تبطله, و تسوغ عقيدتهم في الحديث!.إلا أن هذه التبريرات  كما سنرى  لم تصمد لحجج العقل و النقل: و من أشهر تبريراتهم تلك قولهم إن النبي (ص) قد نهى عن كتابة حديثه خوفاً من اختلاطه بالقرآن الكريم, و هي شبهة ساذجة, تعجب لذوي الصيت و الأسماء اللامعة كيف يتداولونها و لا ينكرونها, و تتبدى سذاجتها مع الملاحظات الآتية: (1): تجاهل هذا التبرير و تجاوز تبرير النبي (ص) نفسه, و تبريرات صحابته التي تطابقت معه كما رأينا في الروايات السابقة حيث قال: ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من كتب مع كتاب الله تعالى. فالنبي لم يقل أنه يخشى أن يختلط القرآن بالحديث كما يزعمون, و إنما قال إنه يخشى أن تضل أمته بكتابة حديثه, كما ضلت الأمم السابقة بكتابة كلام الأنبياء والأحبار مع كتاب الله ( الرسالة ), فهل بعد هذا من وضوح!. و هاهي الشواهد و الوقائع تؤكد ما كان يخشاه النبي(ص) و صار حديثه المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن الكريم, و هاهم المحدثون يعلنون دون مواربة أن القرآن أحوج إلى الحديث من حاجة الحديث إلى القرآن, فهو يخصص عامه, و يقيد مطلقه, و يبين مجمله, بل وينسخ أحكامه عند بعضهم !. باختصار:  لقد قام الحديث بدور الحاجب على باب القرآن الكريم, و في أحيان كثيرة قام بدور الوصيّ المهيمن عليه!.

 (2): كما تجاهل تبريرهم السابق آيات القرآن الواضحة في كون الذكر محفوظ بحفظ الله, مثل قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون.الحجر:9 . و لا ندري كيف يمكن أن يختلط كلام الله, ببلاغته و سمته و أسلوبه المعجز, بكلام البشر مهما كانت مكانتهم؟!. ثم هل كان عسيراً على النبي (ص) أن يحتاط لهذا الأمر بأن يخصص من الصحابة كتبة للحديث غير كتبة القرآن؟!و إذا كان هذا قد فات النبي (ص) فهل عجز الصحابة أن يفعلوه بعد وفاة النبي, وبعد أن استقر أمر القرآن و حفظ في السطور و الصدور؟!. و لماذا لم نجد من كبار الصحابة أمثال: أبي بكر, و علي, و عمر, و عثمان, و بقية العشرة الكبار من مستشاريه, الذين أطلق عليهم المسلمون وصف: العشرة المبشرين بالجنة, اهتماما برواية الحديث ( مجرد روايته ) كما وجدناه من صغارهم أمثال: ابن عمر, و ابن عباس, و النعمان بن بشير, و أبي هريرة, و غيرهم؟ .. هل قصر الصحابة في حفظ ( البيان النبوي ) للقرآن الكريم؟ .. لماذا تقاعس هؤلاء و هم أقرب الناس إليه وأدراهم بأحواله و كلامه و أفقههم بمقاصده, عن تدوين حديثه أو حتى الاهتمام بروايته؟!. بل لماذا حرصوا كل ذلك الحرص على منع التدوين, و محاصرة الإكثار من الرواية؟!.. ثم هؤلاء الذين تصدوا للرواية منهم فأكثروا, من الذي كلفهم برواية الحديث؟ و لو أنهم قرروا السكوت فلم يحدثوا بما سمعوا هل كان سيؤاخذهم أحد؟!.
و إذن فقد تصدى بعض صغار الصحابة سناً ومكانة للحديث عن رسول الله بقرار ذاتي من عند أنفسهم, فمن شاء روى و من شاء سكت, و معنى هذا أن احتمال عدم ورود الحديث إلينا كان وارداً, فهل يترك الدين لمثل هذه الاحتمالات, و فرص الضياع؟!.

وإذا علمنا أن الحديث النبوي في مجمله قد نقل إلينا بمعناه لا بألفاظه التي قالها النبي (ص) فإن السؤال المنطقي هنا يقول: كيف نظمن إذن أن مقاصد النبي (ص)  لم تتغير بتغير ألفاظه, و نحن نعرف أن أدنى تغير في المبنى يؤدي إلى تغير في المعنى, وهو السبب الذي جعل علماء النحو يرفضون الاستشهاد بالحديث النبوي في مجال اللغة.فكيف نقبل في مجال التشريع والدماء والحقوق بهذه المرجعية الظنية إلى أقصى حد؟!.
أما قولهم إن أحاديث النهي قد نسخت بأحاديث الإذن الثابتة, فقد قلنا إن النبي (ص) ربما سمح لأحد من الصحابة بكتابة بعض كلامه لأسباب خاصة و آنية مثل الاستعانة بالكتابة على الحفظ كما قال الإمام مالك. و ما تقتضيه أمانة النقل أحياناً لأوامر و نواهٍ صادرة عن النبي بوصفه ولياً لأمر المسلمين, لا بوصفه النبي الرسول كما حدث مع أبي شامة اليمني في فتح مكة وقد سمع النبي (ص) يأمر بأن يبلغ الشاهد الغائب خطبة الفتح. فهي كالتوجيه السياسي الذي يحتاج إلى نقل أمين, لكنه أبداً لن يتحول إلى دين!.. و الشيء الثابت هو أن كتبة الصحابة كانوا يستأذنون النبي في كتابة حديثه, و هذا يعني أن الأصل في الأمر هو النهي حتى يأذن لأحدهم بعكسه, فضلاً عن أن من كتب منهم كان يتخلص من صحفه حرقاً قبل وفاته, كما فعل عمر وابن مسعود وغيرهما. ثم إن أبلغ دليل على بطلان حجة النسخ هذه هو مواقف الصحابة و أقوالهم بعد وفاة النبي (ص) الرافضة للتدوين أو الإكثار من رواية الحديث. و قبل هذا و ذاك فإن أحاديث الإذن بالكتابة _ كما أسلفنا _ هي حالات خصوص لا تنسخ عموم النهي, و لكل قانون استثناءاته ما دامت لن تخل بمقاصده العامة, هذا إذا صدقت روايات الإذن هذه و لم تكن مجرد خدعة قصد بها تبرير التدوين!.

كما لا يصح التشكيك _ أيضاً _ في صحة روايات النهي عن الكتابة, ليس لأن بعضها ورد في الصحاح, أو لأن المختصين قد أقروا بصحتها فقط, و إنما لأنها متكاثرة مستفيضة مؤيدة بكل الشواهد اللازمة لمثل هذه الحالات. و شيء آخر مهم هو أن دواعي الكذب  متحققة في أحاديث الإذن أكثر من تحققها في أحاديث النهي. فالسياسية و مقتضياتها, و الزهاد, و الفرق المختصمة مذهبياً و قبلياً, و غيرها كلها تحتاج إلى ( حجيّة الحديث ). لأن القرآن وحده لا يسعفها في تحقيق مآربها و طموحاتها!, و لولا شرعية الحديث التي أرسوها لما قامت لبعضهم قائمة. إذ من أين يجد الشيعة_ مثلاً _ سنداً و مبرراً لمذاهبهم, و القرآن الكريم يخذلهم و لا ينصرهم بنص صريح لأية عقيدة من عقائدهم. و تأويل القرآن وحده لا يسعفهم, لأن سلاح التأويل متوفر في يد الجميع, و لا غلبة إلا بنصوص من خارج أسوار القرآن الكريم, تحمل نفس القداسة أو بعضها!. و هكذا قل على أمراء بني أمية و بني العباس و بني آبائهم من حكام المسلمين المتسلطين بقوة السلاح. من أين لهم أن يوطدوا سلطانهم, و يشرعنوا عبثهم و مظالمهم بدون نصوص مقدسة تأمر الناس بالسمع و الطاعة, و إن جلد الأمير ظهورهم و أخذ حقوقهم, ما دام يقيم الصلاة!.. إن القرآن العظيم لا يمنحهم مثل هذه النصوص الثمينة!.

إذن فدواعي وضع الحديث ودواعي شرعنته ( جعله حجة شرعية ) متوفرة بكثافة في ظروف زمن التأسيس, زمن ما بعد الفتنة الكبرى. و في المقابل لا نجد ما يكافئها من دواعي الوضع لأحاديث النهي عن كتابته, لأن كل الفرق آنذاك كانت تستزيد منه لتأسيس شرعيتها و بناء منظومتها عدا فرقة ( الخوارج ) التي حدت من هيمنة الحديث لصالح القرآن, إلا أن الخوارج باتفاق المحدثين لا يضعون الحديث!, لأن الكذب عندهم من الكبائر المخرجة من الملة, و إن روي أن أحدهم عمل في الوضع!. ثم إن هذه الفرقة لم يكن لها سلطان على المسلمين حتى تدفع باتجاه إضعاف سلطان الحديث, و من الواضح تماما أن أحاديث النهي خرجت باستفاضة من معاقل أهل السنة أنفسهم, و هذا يعد مؤشراً على صدق و إخلاص محدثيهم أمثال الإمام مسلم في تطبيق شروطهم الموضوعية في رواية و تدوين الحديث, مع عجزهم عن إدراك حقيقته!.

و قبل مغادرة هذا المحور لا بد من الإجابة عن سؤال يتكرر كلما استشهدنا بحديث من الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) يقول: كيف تستشهدون بالحديث النبوي و أنتم تنكرونه؟ ألا يعد هذا تناقضا منكم؟!. وكثير ممن يطرح هذا السؤال يفتقر إلى معرفة دينية كافية, فهو يجهل الفرق بين مسألتين في مجال علمي الحديث و الأصول: الأولى: حجية الحديث, والأخرى:  ثبوت الحديث. أما  حجية الحديث فهي مبحث من مباحث (علم الأصول),يشتغل به الأصوليون لا المحدثون, و يعنى بالإجابة عن سؤال محدد هو: هل كلام النبي (ص) من الوحي و الدين الواجب الاتباع أم من العوائد البشرية للنبي(ص) ؟. و أما  ثبوت الحديث   فهو قضية تاريخية يبحثها علماء الحديث ( المؤرخون ) و تعنى بالإجابة عن سؤال: هل هذه الرواية أو تلك ثابتة عن النبي (ص)؟ و كم درجة هذا الثبوت؟, و كل علوم الحديث التي تجاوز عددها عند ابن الصلاح (30) علما تحاول الإجابة عن هذين السؤالين تقريباً!.

وعلوم الحديث _ بهذا المفهوم _ داخلة في فن التأريخ و التوثيق لا في علوم الدين بالمعنى المباشر, بدليل أن إسناد الحديث و توثيقه لم يكن عملاً من أعمال النبي أو صحابته على الإطلاق!, و توثيق رواية من الروايات حتى يصح سندها و نسبتها إلى قائلها لا يعني أنها قد أصبحت ديناً يتعبد به!. فليست قضيتنا إذن: هل هذا الكلام صادر عن النبي (ص) أم لا؟, و إنما قضيتنا: هل كلام النبي في ذاته من الدين الواجب الاتباع, أم أنه مما يصدر عنه بحكم العادة و الاجتهاد البشري غير المقدس؟. و هذا يعني بوضوح أننا نتعامل مع أحاديث النبي (ص) التي صح سندها كما نتعامل مع أية رواية تاريخية لأي عظيم!, فنقبل منها ما نقبل و نرد ما نرد, بحسب ما يتوفر من قرائن و شواهد تؤيدها أو تفندها!.. فليست العبرة بصحة ( السند ), و إنما العبرة بصحة ( المتن ), فكم من حديث صح سنده و بطل متنه, و أحاديث القراءات الشاذة مثل شرود على ذلك, فبالرغم من أنها قد وردت بطرق صحيحة إلا أنه لا يجوز القراءة بها!.

وسترد أمثلة في هذا البيان لأحاديث صحت سنداً و بطلت مضمونا, و هذا ليس أمراً مستغرباً, ولا أتينا به من عندياتنا, بل هو حقيقة مقررة عند المحدثين جميعاً, يقول ابن الصلاح في مقدمته الشهيرة: ومتى قالوا هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل مع سائر الأوصاف المذكورة , و ليس من شرطه أن يكون مقطوعاً به في نفس الأمر!, إذ منه ما ينفرد بروايته عدد واحد, و ليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول, و كذلك إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح فليس ذلك قطعاً بأنه كذب في نفس الأمر, إذ قد يكون صدقاً في نفس الأمر, و إنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور, و الله أعلم .أهـ. و ابن الصلاح يقرر بوضوح أن صحة السند لا تعني صحة المضمون, وأن بطلان السند لا يعني بطلان المضمون, و أنه  لا هذه ولا تلك تثبت أو تنفي يقينا صدور هذا الحديث أو ذاك عن النبي (ص), و هذه مسألة تدق على فهم العامة و من في حكمهم من المشائخ والدعاة مع أنها في غاية الأهمية!.
وإذا قلنا بأننا نتعامل مع حديث النبي (ص) كما نتعامل مع كلام البشر الآخرين فذلك لا يعني أننا نسوّي بينه وبين الآخرين من الناس, وهو المشهود له بالخلق العظيم, و إنما نقول إن كلامه صادر عنه بحكم العادة البشرية أو بحكم الاجتهاد المفروض على المسلمين _ وهو رأس المسلمين و أول المكلفين به _ لا بحكم نبوته, و أن اجتهاده مقدم على اجتهاد غيره إذا ناسب ظروف الفتوى, بشرط أن نضمن ثبوته عنه!.و قد قلنا مراراً, وأثبتنا بالأدلة الظاهرة, أن الأنبياء يمارسون الاجتهاد, وأن اجتهادهم يخص عصرهم و جيلهم لا سوى, وأن رسالة الرسل هي الباقية في كل العصور ما لم تنسخ!.

3

ثالثاً: خلو القرآن الكريم من دليل واحد قطعي الدلالة في حجية الحديث:
فعلى كثرة ما اختلف الناس في القرآن الكريم وعليه, إلا أنهم لم يختلفوا مطلقا على كونه النص الأعلى والمهيمن على ما عداه من النصوص عند المسلمين, وأن ما سواه يستمد شرعيته منه. وبناء على هذه المسلمة فإن القول بـ (حجية الحديث ) واعتباره المصدر الثاني للإسلام, لا بد أن يستند إلى برهان قاطع من القرآن نفسه, و ما لم يفعل ذلك فلا حجة فيه و لا إنكار على من رفضه!.و نعني بـ البرهان القاطع ما يسمى عند الأصوليين بالدليل الـ ( قطعي الثبوت و الدلالة ). ويقصدون بـ (قطعي الثبوت) أن يكون الدليل قد نقل إلينا نقلا متواتراً بواسطة طائفة كبيرة من الناس في كل جيل حتى يدون و يشتهر, لأن من المحال أن تتواطأ الأعداد الكثيرة من الناس على الكذب, وهو غير التواتر الوهمي الذي يزعمه البعض بمجرد تكثير سواد عدد من الروايات الأحادية. ومن هذا الطريق جاء القرآن الكريم كاملا و السنة النبوية _ بتعريفها الذي اخترنا هنا_ فلم يستطع أحد التشكيك في حرف من القرآن أو أركان السنن, و ذلك بعكس الحديث النبوي الذي نقل إلينا عن طريق آحاد الرواة عبر عدد من الأجيال حتى بدأ  تدوينه  في منتصف القرن الثالث الهجري , فدخله احتمال الخطأ والنسيان والكذب, كما دلت الشواهد التي سجلها علماء الحديث ونقاده !.أما قولهم (قطعي الدلالة) فيقصدون به أن يكون الدليل صريحا في معناه و دلالته بحيث لا يحتمل التأويل على أكثر من وجه. ومن المسلم به أن القرآن الكريم في معظمه ظني الدلالة إذ " منه آيات محكمات هن أم الكتاب, وأخر متشابهات.. ". وعند جمهورهم أن ( المحكم) هو ما لا يقبل التأويل ويسمى قطعي الدلالة, وأن (المتشابه) هو ما يقبل التأويل و يسمى ظني الدلالة.

وقد فطن شيوخ السنة _  وعلى رأسهم الإمام الشافعي المؤسس الحقيقي لمذهب أهل السنة_ إلى هذه الحقيقة, فذهبوا ينقبون في القرآن عن أدلة بهذا المستوى, بعد مواجهات قوية مع فرق إسلامية كانت تنكر حجية الحديث, وما يعنينا من ذلك الخلاف هو أن الفرق الإسلامية قد اتفقت على أمور منها: لا يكون الدليل دليلا ملزما يكفر منكره حتى يكون قطعي الدلالة و الثبوت (أنظر: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: محمد الغزالي). وأن القرآن الكريم نص قطعي الثبوت لا يشك في حرف واحد منه, و إن كان في معظمه ظني الدلالة. وأن الحديث النبوي _ في مجمله _ ظني الثبوت, و إن كان من حيث الدلالة بين قطعي و ظني لا يفيد العلم. ( و لا يعتد بكلام الظاهرية و من شايعهم في اعتبار خبر الآحاد مفيداً لليقين الذي يكفر منكره, لأنه قول بلا عقل و لا منطق, ونحن متعبدون بالحقائق, لا بأقوال الرجال مهما كانوا ). و هو ما يعني أن الحديث  من الوهلة الأولى  قد فقد أهم شروط الدليل الملزم, و هو شرط الثبوت اليقيني , و أصبح غير مؤهل للاحتجاج في إثبات أية مسألة أصولية, وقد سبق معنا أنه في مجمله أيضاً ظني الدلالة  لكونه روي بالمعنى لا باللفظ. وهذا البيان يحاول إثبات أنه فوق ذلك ظني الحجية في الحد الأدنى. و بالاستناد إلى ما مضى من البدهيات و المسلمات الأصولية عند المسلمين نكون قد قطعنا نصف الشوط في هذا السباق, و لم يتبق إلا أن نثبت لشيوخ التقليد من غير المجتهدين _ وهم الأغلبية الساحقة الماحقة في تاريخنا _ أن ما حسبوه أدلة قطعية في دعواهم لم يكن كذلك, بل إن الأدلة كلها على عكس ما يذهبون إليه.و لن نحتاج إلى عناء كبير لإثبات ذلك إلا مع طائفتين من الناس هما: الجهلة و المكابرون. وقبل البدء في مناقشة التأويلات المختلفة للآيات المستدل بها ينبغي التذكير بأن هدف الباحث من ذلك ليس إيجاد التأويلات اليقينية لهذه الآيات, ولا هو مطالب بذلك؛ وإنما يهدف إلى إثبات حقيقة أن هذه الآيات ليست قطعية الدلالة فيما ذهبوا إليه, فضلاً عن أنها تأويلات مرجوحة، بالحجة والدليل, ومن ثم فإنها لا تصلح دليلاً ملزماً فيما ذهبوا إليه بحسب القواعد المتفق عليها في الدليل الملزم.

1 _ ومما يدفعون به في هذا الباب قول الله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . الجمعة:2. وحجّتهم في الآية أنها فرقت _ بالواو _ بين شيئين هما: الكتاب و الحكمة, مما دل على أن هذا غير ذاك, و إذا كان (الكتاب) هو القرآن فلم يتبق إلا أن تكون (الحكمة) هي السنة.  و نحن _ومعنا كثير من العلماء_ لا نسلم لهم بهذا التأويل. و نعتقد أن ( الكتاب و الحكمة ) شيء واحد هو القرآن الكريم, أو أن ( الكتاب ) هو ذلك المستوى القانوني من القرآن الكريم, و ( الحكمة ) هي ذلك المستوى الأخلاقي و القصصي فيه, مستندين إلى ما يلي:

 1-قوله تعالى: ذلك ( أي الآيات التي سبقت ) مما أوحى إليك ربك من الحكمة ".الإسراء. فالحكمة هنا بنص الآية هي آيات القرآن نفسه, أو صفة من صفاتها, أو مستوى من مستوياتها. ومما يؤيد هذا ضمير المفرد العائد على الكتاب والحكمة في قوله تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. البقرة:231. ولو كان الكتاب والحكمة شيئين منفصلين لقيل "يعظكم بهما".
2- كون ( الواو ) الفاصلة بين لفظي ( الكتاب والحكمة ) ليست واو المغايرة كما توهموا, و إنما هي للتفصيل بعد الإجمال, مثلها مثل الواو بين ألفاظ: الفرقان و الضياء و الذكر, في قوله تعالى: و لقد آتينا موسى و هارون الفرقان و ضياء و ذكرا للمتقين. الأنبياء:48. و مثل الواو الفاصلة بين: الملائكة و جبريل في قوله تعالى: من كان عدوا لله و ملائكته ورسله و جبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين. البقرة:89. فلم يقل أحد إن ( الفرقان و الضياء و الذكر ) ثلاثة كتب أنزلت على موسى و هارون, و لم يقل أحد أن جبريل وميكائيل ليسا من الملائكة لأن الواو فرقت بينهم!.و يسمى هذا الأسلوب في اللغة بأسلوب ( اللف و النشر ), و يقصدون باللف الإجمال, و بالنشر التفصيل, و من شواهده في القرآن أيضاً قوله تعالى: و من رحمته جعل لكم الليل و النهار, لتسكنوا فيه, و لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. القصص:73. و المعنى أن الله خلق الليل لتسكنوا فيه, و خلق النهار لتبتغوا من فضله, و لكن الآية ( لفت ) الليل و النهار في جملة, ثم ( نشرت ) ما يخص كل منهما في جملة تالية.

ومما يعزز هذا الرأي أن لفظ الحكمة قد ورد في القرآن الكريم أيضا وصفا للكتب السماوية المتنزلة على الرسل من الملة الحنيفية, قال تعالى: فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب و الحكمة و ءاتيناهم ملكا عظيما.النساء:54. كما وردت في سياق الحديث عن عيسى عليه السلام قال تعالى: و يعلمه الكتاب و الحكمة والتوراة والإنجيل. آل عمران:48.  و في آية: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والديك...وإذ علمتك الكتاب والتوراة والإنجيل. المائدة:110..فهل علم عيسى أربعة كتب؟! وهل علمه الكتاب والسنة؟!.

الحقيقة أن الآية تتحدث عن كتابين فقط تعلمهما عيسى عليه السلام, أطلقت الآية على أولهما صفة (الكتاب) وعلى الآخر صفة ( الحكمة ), أما الكتاب فهو ( التوراة ) التي أنزلت على موسى عليه السلام, و التوراة لفظ عبري يعني ( الشريعة ), و أما الحكمة فهي ( الإنجيل ) الذي أنزل على عيسى نفسه, و الإنجيل كلمة يونانية تعني ( البشارة ), أقول هذا بدلالة أمرين اثنين: الأول: أن القرآن يسمي الإنجيل حكمة قال تعالى: ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة. الزخرف:63. و من المسلم به أن عيسى لم يأت بغير الإنجيل الذي تنزل عليه.. فهل نقول إن عيسى قد جاء بالسنة؟!. و الآخر: أن عيسى عليه السلام قد بعث بالإنجيل تابعا لشريعة موسى مخففاً لا ناسخا لها بالجملة, جاء في القرآن على لسانه: و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ( في شريعة موسى ) و جئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله و أطيعون. آل عمران:50.  و هو ما تؤكده الأناجيل أيضا, يقول إنجيل (متى) على لسان المسيح: لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة و تعاليم الأنبياء, ما جئت لأبطل بل لأكمل. و المسيحيون اليوم ( البروستانت على وجه التحديد ) قد جمعوا بين الكتابين في كتاب واحد أسموه ( البيبل ), و أطلقوا على التوراة و ملحقاتها اسم ( العهد القديم ) و على الأناجيل و ملحقاتها اسم ( العهد الجديد ) .و يقصدون بالعهد ( الميثاق ) كما جاء في مقدمة الأناجيل التي أخرجتها لجنة مؤلفة من علماء لاهوتيين ينتمون إلى مختلف الطوائف المسيحية, من إنجيلية و كاثوليكية وأرثوذكسية الطبعة الثانية: 1997.

أما لماذا وصفت التوراة بـ ( الكتاب ) و وصف الإنجيل بـ ( الحكمة ) فأرى _ و الله أعلم _ أن ذلك بسبب طابعها و سماتها الغالبة: فالتوراة في أغلبها كتاب شريعة و قانون _ و قد قلنا أن معناها في العبرية الشريعة _ و هذا واضح لكل من اطلع على بقاياها في التوراة المطبوعة!, و أما الإنجيل فهو في معظمه كتاب مواعظ و نبوءات, بدليل ( موعظة الجبل ) التي تعد من أطول و أشهر المواعظ الدينية في الكتب المقدسة. و لأن الشريعة تستهدف المجتمع قبل الفرد فإنها عادة تدون في السطور للرجوع إليها عند الحاجة, و لهذا ناسب أن تسمى كتابا. و لأن الإنجيل يعنى بضمير الفرد بالدرجة الأولى, فقد ناسب أن يسمى حكمة. فمحل الشريعة السطور و محل الحكمة الصدور!.. و القرآن الكريم هو النسخة السماوية المنقحة من الكتب السماوية التي سبقته, فهو  _بالإضافة إلى ما انفرد به من سمات خاصة_ الخلاصة المنقحة للتوراة و الإنجيل, و هو كلمة الله الأخيرة الجامعة. و لهذا استحق أن يوصف بما و صفت به التوراة و الإنجيل معا: الكتاب و الحكمة!. و هذا لا يعني أن لفظ الحكمة قد اختصت به الكتب السماوية والأنبياء من دون الناس, فالحكمة عطاء رباني يهبه الله لمن يشاء من الخلق, قال تعالى: " و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ".

و من القرائن النصية على أن الحكمة في القرآن تعني القرآن نفسه أو مستوى من مستوياته لفظ ( يتلى ) في قوله تعال من الآية نفسها واصفاً وظيفة الرسول ( ص ) بقوله: يتلو عليهم آياته و يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.آل عمران:164.  وفي قوله تعالى مخاطباً نساء النبي عليه الصلاة و السلام: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة. الأحزاب:34. إذ التلاوة نطق مخصوص عرف به القرآن دون سواه, قال تعالى: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم. العنكبوت:51..و لا عبرة بما ذهب إليه الشافعي في كتابه ( الأم ) من أن التلاوة هي مجرد النطق. يؤيدنا في ذلك الإمام ابن حزم, الذي يرى أن الحديث ( يقرأ ) ولا ( يتلى )!.

ولا عجب أن يخطئ الشافعي هنا فهو ممن يعتقدون بوجود (الترادف) في اللسان العربي والقرآن الكريم, ولم يكن قد فطن إلى خطورة هذا القول على القرآن, ولا إلى حساسية لغته، والفروق الدلالية اللطيفة بين ألفاظه, كما تبين للدارسين منذ زمن الشافعي نفسه, وبعد نضج الدرس اللغوي اليوم. حتى أن هذه الفروق اللطيفة قد صارت وجها من وجوه الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم. إلا إذا قالوا إن الشافعي كان خاتم الفقهاء المسلمين و أنه قد قال الكلمة الفصل في الدين إلى يوم الدين!. ومع ذلك فإن الشافعي نفسه قد كفانا مشقة الخلاف, حين أقر في مناظرة سجلها كتابه (الأم) مع أحد منكري حجية الحديث في عصره, بأن تأويل لفظ (الحكمة) في الآية بـ (السنة) هو مجرد احتمال, وإن كان الاحتمال الأرجح من وجهة نظره.

و لنا اليوم أن نقول له: بل هو الاحتمال الأضعف يا سيدي, بل هو الاحتمال الخطأ!. وهو ما صرح به علماء كثر منهم الشيخ محمد الغزالي الذي يقول في كتابه (كيف نتعامل مع القرآن): الحكمة وردت في القرآن في نحو من عشرين موضعاً تقريباً مفردة أو مع الكتاب (الكتاب والحكمة)...من قال: إن الحكمة هي السنة النبوية فهو مخطئ..لأنك تقرأ قوله تعالى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. آل عمران: 48. كيف تكون الحكمة هنا هي السنة النبوية.أهـ. وإقرار الشافعي بأن تأويله للفظ (الحكمة) هنا مجرد احتمال يعني أن الآية ليست قطعيّة الدلالة في إثبات حجية الحديث, و من ثم لم تعد حجة ملزمة لسواه, خصوصا و نحن في معرض إثبات أو نفي للمصدر الثاني للدين.. و الأصول كما يقول الشاطبي _ و غيره من الأصوليين  _ لا تثبت بالظن, فما بالنا بأم الأصول, المصدر الثاني للتشريع, و ما بالنا و قد دلت الدلائل و أشارت القرائن على خطأ ما ذهبوا إليه !.

2 _ كما أنهم يستدلون _ أيضا _ بقوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم. النحل: 44
و مبلغ فهمهم من الآية أن الله قد أنزل على رسوله السنة بحديثها ليبين للمسلمين ما نزِّل إليهم من القرآن الكريم. و سمعت أحدهم في قناة فضائية يناضل عن حجية الحديث. و يفسر الآية قائلا: الذكر في الآية هو القرآن نفسه ( قلت في نفسي أحسنت ) ثم أردف قائلا: لكن نسبة ( البيان ) إلى الرسول عليه الصلاة و السلام يدل على أنه هو المكلف ببيان القرآن!, فتأكد لي أن الرجل لم يأخذ قسطاً كافياً من النوم, وأن هذا الفهم من ذاك الأرق!..إذ على حسب فهم هذا الداهية سيصبح معنى الآية: إن الله تعالى قد أنزل القرآن على رسوله ليبين بسنته القرآن !! و هذا يشبه قول أحد الحشاشين: إن المطر ينزل من السماء لأنه لا يصعد!.

وتأويل الذكر بالسنة هنا لا يستند إلى أي دليل من أي نوع, بل إنه يخالف صراحة دلالات هذا اللفظ في النص القرآني نفسه. فالذكر بنص القرآن هو القرآن نفسه قال تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز. فصلت:4. وقال تعالى: ص والقرآن ذي الذكر. ص:1. و لعلهم توهموا إذ نسبت الآية (البيان) إلى الرسول لا إلى الذكر أن للرسول بياناً خاصاً غير الذكر!, و لنا مع هذا الفهم الوقفات التالية: نسبة البيان إلى الرسول (ص) هو من باب المجاز الذي علاقته السببية ولا يحتاج هذا إلى تأكيد, بدليل أن هذه النسبة قد وردت في آية أخرى قُصد بها القرآن الكريم دون خلاف. قال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير.المائدة:15.

 ولم يقل أحد إن الرسول هنا قد جاء بالحديث ليبين لأهل الكتاب ما كانوا يخفون من الحق في كتبهم المقدسة, فمجيء الرسول هنا هو مجيء الرسالة ( القرآن الكريم ) باتفاق المسلمين.  و الآية واضحة في أن بيان الرسول هو ذاته بيان الرسالة ( القرآن الكريم ), لا بيان الحديث!. و لو أنهم نظروا نظرة في سياق الآية لتبين لهم أن المقصود بها بيان القرآن الكريم لما جاء في الكتب السماوية السابقة عليه مما أخفاه أهل الكتاب  كما ذكرت الآية السابقة,  قال تعالى: و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر (أهل الكتب السماوية) إن كنتم لا تعلمون بالبينات و الزبر, و أنزلنا إليك ( يا محمد ) الذكر (القرآن ) لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون. النحل:43-44. و كان الله سبحانه و تعالى قد أخذ ميثاق بني إسرائيل بعد أن أنزل التوراة على موسى أن يبينوا للناس الحق الذي فيها و لا يكتمونه , قال تعالى: و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون. آل عمران:178.  و هو ما تؤكده التوراة أيضا, إلا أنهم نقضوا العهد و كتموا الحق, فخاطبهم الله مبكتا و فاضحا: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ( أي محمد ) يبين لكم (لا للمسلمين) كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير. المائدة:15. و هذا ببساطة معنى قوله تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ", و هذه هي حجة السياق, و هذا هو تفسير القرآن للقرآن!.

وإضافة إلى ما ذكرنا فإن لفظ ( الذكر ) إذا أطلق في القرآن الكريم فإنه يعني القرآن الكريم أو الكتب السماوية., بدليل قوله تعالى: ذلك (أي آيات القرآن التي سلفت) نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم.آل عمران:58. و الذكر الحكيم هنا هو القرآن باتفاق. وبدليل قوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتاب عزيز. فصلت:41. فالذكر هو الكتاب بنص الآية. ثم بدليل قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.الحجر:9.  فمما لا خلاف عليه أن القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي تكفل الله بحفظه من الضياع و العبث, و لا يجوز هنا أن نقول _ كما قال الشافعي _  إن الحديث والسنة داخلتان في مفهوم الذكر, لما سلف من الأدلة, ثم لما يترتب عليه من فساد خطير!,إذ سيلزم منه القول بأن بعض الذكر قد تعرض للوضع و الخطأ و النسيان, وهو ما تعرض له الحديث النبوي كما يعلم القاصي والداني, وهو ما يتعارض مع منطوق الآية!. . و للإمام محمد عبده كلام نفيس في هذا الباب يقول فيه: جاء في الكتاب المبين ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم, هو القرآن الذي ( أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) هو كما قال ( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ) وعد الله بحفظ هذا الكتاب, و قد أنجز وعده, لم تطل إليه يد عدو مقاتل, و لا يد محب جاهل, فبقي كما نزل, لا يضره عمل الفريقين في تفسيره وتأويله, فذلك مما لا يلتصق به, فهو لا يزال بين دفات المصاحف طاهراً نقياً, بريئاً من الاختلاف و الاضطراب, و هو إمام المتقين, و مستودع الدين, و إليه المرجع إذا اشتد الأمر, وعظم الخطب, وسئمت النفوس من التخبط في الضلالات. ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه, ولا بد أن تتمزق كلها بأيدي أنصاره, فينبلج ضياؤه لأعين أوليائه, إن شاء الله تعالى. ( الإسلام و النصرانية .. مع العلم والمدنية).

ولأنهم لا يستطيعون إنكار حقيقة تعرض الحديث النبوي للتزوير و الوضع و النسيان, فقد ذهبوا يتشبثون بمقولة تالفة مفادها أن الحديث قد أخذ من عناية علمائه فحصاً و نقداً و ضبطاً ما ينقيّه و يحميه من وضع الوضّاعين و خطأ الخطّائين, و هم يطنبون هنا في ذكر معايير و شروط النقد المنهجي الدقيق, التي توسل بها علماء الحديث لتنقيته و حمايته.و لنا مع هذا القول وقفات و أدلة تلقف ما يأفكون,  ستذكر في محلها من هذا البيان .إلا أن  المناسبة هنا تقتضي ذكر شبهة مضحكة سمعتها من بعض الذين حاورناهم في هذا الباب, فبعد أن سلموا لنا بأن الحديث النبوي قد تعرض للوضع و التزوير و الخطأ و النسيان قالوا: إلا أن الله قد حفظ  في الصحاح  ما نحتاج إلى حفظه في فهم الشريعة, و من ثم هو من الذكر المحفوظ!, و أما ما تعرض منه للخطأ و التزوير فهو مما سمح الله بذهابه, و لا يدخل في الذكر المحفوظ!!. و هو قول _ كما ترى _ يخرج من مشكاة واحدة مع قول أهل الكتاب الذين قالوا: إن الله قد حفظ من التوراة و الإنجيل ما نحتاج إلى حفظه فقط, و أما ما لا نحتاج إليه فقد سمح الله بتبديله و تحريفه!.و هي و لا شك طريقة جنونية للهروب من الحجج الدامغة إلى نوع من الهرطقة التي لا تغري عاقلا بمناقشتها!.

ومن القرائن اللغوية على أن المقصود بالبيان هم المسلمين وغير المسلمين  لفظ ( للناس ) الوارد في الآية, الذي يصرف الذهن عن اختصاص المسلمين به. فقد  عودنا القرآن في مخاطبة المسلمين أن يخاطبهم بصفة الإيمان ( يا أيها الذين آمنوا ) و لا قرينة هنا تصرف هذه العادة !. أما إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم عن كل هذه الأدلة, و أصروا على أن معنى البيان في الآية هو بيان السنة للقرآن قلنا لهم: أخبرونا دام فضلكم أين نجد ذلك البيان؟!, أين تفسير النبي ( ص ) للقرآن, و نحن لا نجد منه إلا سطورا قليلة حولها كلام كثير؟!.. فإذا كان النبي لم يفسر القرآن _ كما صرحت بذلك زوجه عائشة رضي الله عنها و كما يؤكد واقع الحال أيضا _ فما معنى بيان النبي للقرآن إذن؟!..فإذا قلتم: إن السنة العملية هي البيان المقصود, قلنا: لم نختلف على ذلك, لكن ما علاقة الحديث بالسنة و قد بيّنّا الفرق الحاسم بينهما؟.. ثم إن السنن العملية معدودة و محدودة و لا تحتاج إلى الحديث, لأن الأعمال تنقل بالتواتر العملي عبر الأجيال لا عبر المدونات و الكتب, و إن جاءت الكتب بعد ذلك و دونت هذه الطقوس و الأعمال, فذلك عمل يدخل في فن التأريخ لا في علوم الدين, و إلا فقولوا لنا كيف كان يصلي الناس قبل هذه الكتب؟! لقد كتب البخاري كتابه في منتصف القرن الثالث الهجري, فهل كان الناس قبل صحيح البخاري يجهلون تفاصيل الصلاة و الزكاة و الحج, على مدى 250 سنة؟!.

وحتى الصلاة و هي أشهر السنن العملية على الإطلاق لا نجد لكثير من تفاصيلها بياناً في الحديث, و هي غير مُبيّنَة أصلاً في القرآن الكريم, مما اضطر العلماء إلى الاستنباط و الاجتهاد لمواجهة أسئلة السائلين!, و للقارئ أن يرجع إلى كتاب ( صفة صلاة النبي ) للمحدث الألباني, ليرى كم حديثا ورد في بيان الصلاة, و كم من الأسئلة حولها مازالت تحتاج إلى بيان لم يرد في كتاب و لا حديث!.. ثم إن الحديث نفسه بحاجة _ في كثير من الحالات _ إلى بيان, فكيف يكون مبيِّناً من يحتاج نفسه إلى بيان؟!.

3 _ ومن حججهم القرآنية أيضا قٌوله تعالى:  وما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب. الحشر:7. و قوله تعالى: و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. المائدة:92. و: من يطع الرسول فقد أطاع الله.النساء:80.
ويعتقدون أن هذه الآيات تعطي الرسول طاعة مخصوصة بدليل إضافة الطاعة إلى الرسول منفصلة عن طاعة الله, وهو ما يعني أن الرسول مخوّل بالتشريع المستقل, و من ثم الطاعة المستقلة, وطاعته هنا من طاعة الله. ولنا على هذا الفهم الملاحظ الآتية:

 قد بينا سلفا الفروق الدقيقة بين مقامي الرسالة والنبوة, و قلنا إن السنة امتداد لمقام الرسالة, وأن مقام الرسالة هو مقام التبليغ فحسب, وأن (البلاغ) يعني الإعلان العام للناس كافة, وأن (المبين) هو الواضح في حجيته الموضح لغيره, و قلنا إن الحديث امتداد لمقام النبوة, و ما يتفرع عنه من مقامات, و أن مقام النبوة هو مقام الاجتهاد و الرأي. وبناءً عليه فإن طاعة الرسول هي طاعة الرسالة نفسها (القرآن الكريم) ومنها (السنة العملية) التي أشارت إليها الرسالة, كما بينا ذلك سلفا.و إذا كان من خصوصية للرسول فهي طاعته في السنة بمعناها الذي ذهبنا إليه. ذلك في أحد التأويلات الممكنة, وسنضيف إليها عدداً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات قبل الادعاء بصحة هذا التأويل أو ذاك: إن القرآن الكريم يخاطب المؤمنين قائلاً: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم. الأحزاب:53. فهل الخطاب هنا لكل المؤمنين في كل زمان ومكان, أم أنها تخص المؤمنين في زمن النبي وأمهات المؤمنين؟. لاشك أن الخطاب هنا يخص المؤمنين في زمن وجود النبي وبيوت النبي دون غيرهم بلا خلاف. وهنا سؤال يفرض نفسه: كيف تم تخصيص هذه الآية بالصحابة في زمن أمهات المؤمنين مع أن النص عام في كل المؤمنين ومع أنه يخلو من أي قرينة لفظية مخصصة؟. الجواب يقيناً: بقرينة العقل الدال على أن بيوت النبي لم تعد موجودة وأن الحكم متعلق بوجودها.

والنتيجة: إن الآيات الموجبة لطاعة الرسول في الأمر والنهي لا يصح فهمها خارج حدود دائرتي الوحي والاجتهاد. لأن الطاعة في البلاغ غير الطاعة في الاجتهاد. الطاعة في البلاغ تلزم المؤمنين في كل زمان ومكان, والطاعة في الاجتهاد لا تلزم أحداً بعد عصره, وإلا لما كان هناك فرق بين وحي واجتهاد!. وإذا كانت بعض الآيات قد تم تخصيص عمومها بقرائن العقل فقط, فما الذي يمنع من تخصيص الآيات الموجبة لطاعة النبي بزمن النبي إذا دلت القرائن العقلية على ذلك دون معارض؟. وكل ما في هذا البيان يصب في هذا السياق. وما لم يكونوا يتوقعونه هو أن تكون هذه الآية بمنطقهم حجة عليهم لا لهم, فالآية إذا ما تغافلنا عن سياقها في مسألة الفيء تأمرهم أن يأخذوا ما جاء به الرسول و تنهاهم عما نهى عنه الرسول, والرسول قد جاء بالرسالة ( القرآن ) قطعاً, ونهى عن كتابة الحديث باتفاق, ولا يصح القول إنه قد نهى عن الأخذ بما جاء به !, فمن منّا عصى الأمر و خالف النهي يا ترى!.

4 _ ومن الآيات التي يكثرون الاستشهاد بها كلما ضيقنا عليهم الخناق قوله تعالى عن الرسول عليه الصلاة و السلام:  و ما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى" النجم:3-5.
و الحقيقة أن هذه الآية تضعهم أمام خيارين حرجين لا ثالث لهما: فإما أن يقولوا إن كل ما نطق به النبي (ص) في حياته  داخل في معنى الوحي, و حينها سنطالبهم بـ ( 23 ) عاماً من الوحي ليس بين أيدينا منها سوى ( 50 ) ألف حديث معتبر, لا تكفي لشهور معدودة, و هو ما يعني أن الجزء الأكبر من الوحي لم يصل إلينا. و إما أن يقولوا بأن الرسول ( ص ) كان يصدر في بعض الحالات عن الوحي, و يصدر في حالات أخرى عن عادة أو اجتهاد, و هو ما عبر عنه صاحب (النبأ العظيم) عبدالله دراز بقوله: أما الأحاديث النبوية فإنها بحسب ما حوته من المعاني تنقسم إلى قسمين " قسم توفيقي " استنبطه النبي بفهمه في كلام الله أو بتأمله في حقائق الكون, و هذا القسم ليس كلام الله قطعاً. و " قسم توقيفي " تلقى الرسول مضمونه من الوحي فبينه للناس بكلامه. و هذا القسم و إن كان ما فيه من العلوم منسوباً إلى معلمه و ملهمه سبحانه, لكنه _ من حيث هو كلام _ حري بأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه و على آله و سلم, لأن الكلام إنما ينسب إلى واضعه و قائله الذي ألّفه على نحو خاص و لو كان ما فيه من المعنى قد تواردت عليه الخواطر و تلقاه الآخر عن الأول.أهـ

 وهنا يكون من المنطقي أن نتساءل كما فعلنا من قبل: كيف تستطيعون التمييز بين ما هو وحي وما هو عادة؟ ما هو توفيقي وما هو توقيفي؟ ما هي المعايير؟ و إلى كم ستختلفون حول هذه المعايير, وكيف قضيتم (13) قرنا من الزمان و أنتم تخلطون بين كلام الله و كلام البشر, و تقولون هذا من عند الله, و ما هو من عند الله, ثم تزعمون اليوم أنكم قادرون على التفريق بين ما كان إلى الأمس وحياً وما أصبح اليوم عادة؟!. الحقيقة واضحة مثل الشمس و بدعتكم واضحة مثل الظلام, و الآية مكيّة باتفاق, و قد نزلت لدفع شكوك مشركي مكة أيام كان التشكيك في القرآن لا في الحديث!. و قد تقدم و عرضنا في بند سابق رأي العلماء المحققين في هذا الأمر, كما نقله الدكتور عبد المنعم النمر. و لو أننا أعدنا قراءة الآية بما يفسرها لكانت على النحو الآتي: " و ما ينطق ( الرسول ) عن الهوى, إن هو ( الشأن/ القرآن ) إلا وحي يوحى, علمه شديد القوى (جبريل).النجم.

وسبق القول إنه لا يجوز أن يظل الأمر ملتبساً على المسلمين بين ما يصدر عن النبي من مقام الوحي, و ما يصدر عنه بحكم العادة و الاجتهاد, ما دام و قد ثبت عنه ذلك. لأن اللبس هنا و الغموض لا يعني سوى الوقوع في الشرك!, و لن يكون هذا الوضوح متحققاً إلا إذا فصلنا في المقامات التي يصدر عنها النبي (ص) فصلاً واضحاً, أما وضع معايير جديدة باجتهاد الفقهاء للفصل بين ما هو من الوحي و ما هو من الاجتهاد فلن يزيد الطين إلا بلّة, و لن يزيد الظلمة إلا عتمة!. ولا يعني هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام في غير القرآن الكريم ينطق عن الهوى بمعنى (المزاج) وإنما ينطق عن اجتهاد صادر عن معرفة بمراد الله وعن وخبرة وخلق عظيم, ولكن هذه الخصال كلها لا ترفع كلامه عن مستوى البشر الكامل!. وعليه فإن فهمهم لهذه الآية (وكل الآيات السابقة و اللاحقة ) سيفتح ثغرة للتشكيك في سلامة الوحي برمته, ما دام لم يصلنا من كلام النبي إلا ما ساعدت الصدفة على بقائه, بفضل هذا الراوي أو ذاك ممن أحب _ دون تكليف من أحد _  أن يروي ما سمع من النبي أو عنه, في هذه القضية أو تلك, حسب ما تسعفه الذاكرة, فقد كان الرواة مخيَّرون بين أن يرووا هذا الحديث أو ذاك, أو لا يروونه, و لا أدري كيف يترك الوحي لكل هذه الاحتمالات لو كانوا يعقلون!.

6 _ كذلك يحتجون بقوله تعالى في خطاب المؤمنين: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.النور:63.
ونحن لو بحثنا عن آية تدين القائلين بحجية الحديث فلن نجد أفضل من هذه!, لأنهم أصرح من خالف أمر الرسول (ص) إذ قال لهم  في رواية مسلم: لا تكتبوا عني غير القرآن و من كان كتب فليمحه.". ووجّه بالاكتفاء بالقرآن الكريم وحده _ حسب رواية مسلم _‏"‏ اَمَّا بَعْدُ اَلاَ اَيُّهَا النَّاسُ فَاِنَّمَا اَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ اَنْ يَاْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَاُجِيبَ وَاَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ اَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ ‏"‏ ‏.‏ فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ ‏"‏ وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي.. ‏"‏ ‏. وأخذ يصف الكتاب دون أن يرد أي ذكر للسنة أو الحديث, و هو سكوت له دلالته , و لو انه ترك مع القرآن مصدراً آخر للدين لذكره يقيناً, لأن السكوت في وقت الحاجة إلى البيان غير جائز, و إنما ختم الحديث بوصية في ( أهل بيته ), وهم نساؤه على وجه اليقين, و أحفاده معهن على وجه الظن.

وقد سبق وبينت في مقال سابق عنوانه ( في الطريق إلى الخلاص ) حقيقة مفهومي: أهل البيت وآل البيت, أين يبدآن وأين ينتهيان وخلاصته _للفائدة_أن هناك تساهل من أصحاب الاختصاص في بيانها على الرغم من أهميتها الإستراتيجية في حسم هذه المسألة الشائكة, والحقيقة أن ( أهل البيت ) و( آل البيت ) مفهومان لغويان عرفيان يدل الأول منهما على القرابة من الدرجة الأولى ( الزوجات و الأولاد ) و يدل الآخر على القرابة من الدرجات الأخرى ( الأعمام و أبناء الأعمام مثلا ). لكن هذين المصطلحين يتوقفان عن الدلالة عند الجيل الرابع من الذرية, كما يقول ابن خلدون _ مستندا إلى عرف العرب و لسانهم.و بهذا يكون آل النبي (ص) قد انتهوا عند جيل الإمام زيد بن علي, وأما ما وراء ذلك فيدخل تحت مسمى الذرية!.

 وقد احتاط بعض الأذكياء منهم لهذا الأمر منذ البداية فذهب يصنع لنا حديثا نبويا يقول ما معناه " كل سبب ونسب منقطع غير سببي و نسبي "!. و بعيداً عن درجة صحة هذا الحديث, و بغض النظر عن كونه من أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن _ كما يؤمنون هم أيضا _  و بغض الطرف عن حجيّة الحديث النبوي برمته, فإن هذا النص لا دلالة فيه على ما يبتغون!, فالحديث  _إن صح_  يعني أن ( نسب )  النبي (ص) إلى جده إبراهيم عليه السلام متصل غير منقطع , و هذا صحيح و لا غبار عليه, مع أن المؤرخين لم يستدلوا على هذا النسب كاملاً بالاسم !. ذلك بالنسبة لـ ( النسب ) المقصود, أما ( السبب ) المقصود في الحديث فيعني به ذريّة النبي من بناته, وهذا أيضاً لا دلالة فيه على شيء, لأن الذريّة شيء و الآل شيء آخر !. الذرية امتدادٌ ( بيولوجي ) للشخص, والآل ( مصطلح عرفي ) له بداية و نهاية!, و شواهد كذب هذه الرواية كثيرة لا حصر لها و ليس هذا مقامها. ثم إن الإسلام أعظم من أن ينصِّب للناس صنماً جديداً اسمه ( آل البيت ) حتى لو كانوا ملائكة, فما بالك و فيهم من الفسقة, و الملاحدة, و العصاة, و المجرمين, ما تقرّ به عين الشيطان نفسه!.". ولما فطن القائلون بحجية الحديث, و مخترعوا مذاهب التشيِّع إلى أن رواية مسلم السابقة  تخذلهم في دعاويهم, ذهبوا يصنعون روايات مشابهة , بعد إجراء عمليات ( مونتاج ) فني بالحذف والإضافة!, تخدم عقيدتهم.

ولأن حوارنا هنا مع أهل السنة خاصة, فسنذكر لهم رواية مصنوعة تتلافى ما فاتهم في رواية البخاري أعني تلك الرواية الشهيرة على ألسنتهم التي تقول: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله و سنتي.و لنا على هذه الرواية الملاحظ التالية: وردت هذه الرواية في مسندي أحمد والترمذي وهما أدنى رتبة من صحيح مسلم, فأين حرصهم المعلن على تقديم الصحاح؟! أم إن الأمر خاضع للبرجماتية الصرفة؟!. و إننا نصدق رواية الصحيح التي أغفلت ذكر السنة إلى جوار القرآن, و ذلك لأن الشواهد المتكاثرة من القرآن و الحديث والتاريخ و العقل تؤيدها كما بينا سابقاً . و لأن شروط الصحاح في التثبت أعلى من شروط المسانيد. ثم كيف جاز على الرسول ( ص) أن ينسى ذكر السنة في رواية مسلم مع أن هذا محلّ بيانها, و القاعدة الأصوليّة تقول: لا يجوز السكوت في وقت الحاجة إلى البيان؟.. فإن قيل إن النبي (ص) لم ينس و إنما يحتمل أن يكون الراوي هو الذي نسى, قلنا: ما دام احتمال النسيان قائماً في رواية الحديث بالرغم من كل هذه الاحتياطات التي قامت حول تدوينه, فكيف نضمن أن الشريعة قد وصلت إلينا كاملة دون نقص؟!.ثم لو صح يقينا نسبة هذه الرواية (السنيّة) إلى النبي (ص) _ و هو ما لن يحدث _ فليس لكم فيها حجة, لأنها تتحدث عن السنة لا عن الحديث, و خلافنا معكم على حجية الحديث لا على حجية السنة!. و لعل هذه الرواية هي التي دفعت الأمام الشافعي ليصنع لنا (خلطة الحريو) تلك التي جعلت فعل الرسول و أقواله و تقريراته تحت عنوان واحد أسماه (السنة), إذ لا يمكنه الاستفادة من هذه الرواية إلا بهذا التأويل البعيد!.


7 _ و من آخر ما يحتجّ به القوم في إثبات دعواهم قوله تعالى: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلّموا تسليما. النساء:80
و الآية بوضوح تتحدث عن النبي ( ص ) في مقام القضاء, بدليل قوله " يحكموك فيما شجر بينهم " وقوله " مما قضيت ".و مقام القضاء هو أحد مقامات ولي الأمر آنذاك, إذ لم يعرف العرب الدواوين إلا في عهد عمر.. و قد كان الرسول (ص) في صحابته هو ولي أمرهم و قاضيهم الأول, و الاحتكام إليه فيما شجر بينهم واجب شرعي, بدليل قوله تعالى في حق ولي الأمر: و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. وقد جمع النبي (ص) بين مقامي الرسالة و ولاية الأمر. و عدم الاحتكام إليه يعد طعناً مبطّناً في نبوته, و عصياناً لولايته!, لأن مقام ولاية الأمر هنا كما أسلفت فرع عن مقام النبوة..فأما طاعة الله فهي طاعة كتابه و طاعة رسله و أنبيائه, وهي طاعة مؤبدة لأنه الحي الذي لا يموت, و أما طاعة رسوله فهي طاعة رسالته و دعوته في زمانه وبعد زمانه, ما بقيت الرسالة, و أما طاعة أولي الأمر فهي طاعة مشروطة بزمانهم و بمدى صحة أوامرهم. و إذا كان النبي ( ص ) هو ولي أمر المسلمين في زمنه فقد خلفه في ولاية أمر المسلمين أصحابه الراشدين, ولهذا كان يسمى أحدهم ( خليفة رسول الله ), و المعنى أنه خليفة رسول الله في ولاية أمر المؤمنين لا في الرسالة والنبوة!.

فالرسالة باقية ببقاء الناس, و النبوة باقية ببقاء النبي, و ولاية الأمر متجددة متغيرة بتغير الأجيال, إذ كل جيل في زمانه يختار أولياء أمره. و هذه الآية لا تختلف كثيراً عن آية " و شاورهم في الأمر ", و نحن نسأل القوم: هل مازال النبي (ص) يشاورنا حتى اليوم؟  أم أن الآية تخاطب ولي أمر الجماعة المسلمة في مقامه الزائل, لا في مقام الرسالة الخالد؟ و هكذا آية الحكم و القضاء. و قد أسلفنا الحديث عن معاني لفظ ( الأمر ) في بند سابق. ومع ذلك لا نمانع أن ننزل عند فهم لهذه الآية لبعض الوقت ثم نحتكم إلى الرسول ( ص ) فيما شجر بيننا حول مشكلة حديثه عليه الصلاة والسلام كما تأمرنا الآية, فماذا سيكون جوابه يا ترى؟ دعنا نسأله بصيغة واضحة:
_ يا رسول الله: هل يجوز لنا أن نكتب ما تتلفظ به من كلام خارج حدود القرآن ؟
_ الرسول: لا تكتبوا عني غير القرآن, و من كان كتب فليمحه " ( مسلم )
_ هل لنا أن نسأل عن السبب يا رسول الله؟!
_ الرسول: ما أضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى !.( تقييد العلم / البغدادي )
إذن فذلك حكم النبي فيما شجر بيننا, و تلك علته الواضحة, التي أيدتها الروايات المنقولة عن كبار الصحابة, فمالكم تقدمون بين يدي الله و رسوله و قد نهاكم الله عن ذلك؟!.

4

رابعاً: لانعدام اليقين في أن ما بين أيدينا من حديث منسوب إلى النبي (ص) قد صدر عنه لا عن غيره من المنافقين, أو عن الصحابة غير الضابطين: ولغير ذلك من الشبهات, والإشكالات التي أحاطت بالحديث ثبوتاً ودلالة, سنورد بعضها على شكل نقاط و حقائق متفرقة, تاركاً للقارئ مهمة الربط بينها, واستخراج ما تبقى من دلالتها لضيق وقت الكاتب عن ممارسة هذه المهام ..

1_ كان النبي (ص) يمارس حياته خارج وحي القرآن بصورة طبيعية, فيفرح و يغضب و يحزن و يضحك و يمزح و يشارك الناس فعالياتهم المختلفة, و يستقبل الوفود, و يرسل الوفود, و يعاشر نساءه, و يلبس الثياب المتوفرة في السوق, ..الخ من التصرفات. و هو في كل ذلك يصدر عن طبيعته البشرية المحضة, لا عن برمجة مسبقة من قبل الوحي. و كان الصحابة يدركون هذه الحقيقة, ولذا كانوا يراجعونه في كثير من اجتهاداته, وينزل عند رأي بعضهم, كما هو ثابت في السيرة و الصحاح.
و من تلك الأحوال أنه كان يتحدث إلى الفرد الواحد من الصحابة أو الاثنين, و كان هذا الفرد _ أحياناً _ ينقل ما دار بينه و بين النبي في هذا الموقف أو ذاك, إلى بعض الصحابة, على سبيل الحكاية ليس إلا, لا على سبيل التكليف, لأن النبي لم يكلف أحداً برواية حديثة, بل إن الثابت عكس ذلك, فقد منع حتى الإكثار من الرواية, فقد روى أحمد و الحاكم و ابن ماجة, قوله صلى الله عليه و سلم: " إياكم و كثرة الحديث, و من قال عني فلا يقولن إلا حقا " و قد سجلنا قبلاً عدداً من النصوص التي تثبت ذلك. فكيف يُكلِّف أحداً بالرواية عنه و لو شاء لحكى للجماعة ما حكاه للفرد, فهل يكون ديناً ما يقوله النبي للفرد و يحجبه عن الجماعة؟!.

2_ في كثير من هذه الأحاديث التي وردت إلينا لم يكن النبي هو المبادر بقولها من ذات نفسه, و إنما كانت إجابات يرد بها عن أسئلة موجهة إليه من الصحابة, و لم يثبت عنه أنه عمّمها على الصحابة جميعاً, و لهذا كان أكثر الصحابة يجهل ما دار بين بعض الصحابة و بين النبي في بعض المواقف, و لولا أن بعضها روي بعد وفاة النبي بزمن ما وصل الصحابة منها شيء, و لولا أنها دونت بعد ذلك بزمن طويل ما وصلنا منها شيء!.. فهذه عائشة تسأله في خلوة الزوجة بالزوج: ماذا أقول إذا أدركتني ليلة القدر يا رسول الله؟ فيقول لها: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.. إلخ, فهل نزل هذا الدعاء لعائشة وحدها؟ أم أنه اجتهاد النبي في لحظتها,و لو كان لعامة المسلمين ما سكت عنه حتى تسأل عائشة, و لأعلنه على الناس كافة؟.. إنه مجرد مثل!. و في بعض هذه الحالات كان الصحابة يشترطون على بعضهم شهوداً لقبول روايتهم الأحادية تلك, كما فعل أبو بكر, و عمر, مع فاطمة بنت قيس, و أبي موسى الأشعري _ إذا صدقتني الذاكرة _ من باب التوثيق التاريخي و الأخلاقي لاجتهادات النبي (ص). و السؤال الذي يفرض نفسه الآن: إذا كانت إجابات النبي هذه التي وصلت إلينا, أو التي لم تصل, ديناً واجب الاتباع فلماذا خصّ بها صحابي دون آخر؟ و لماذا ترك بيانها حتى يسأل, و قد كان يجيب فور سماعه السؤال دون حاجة إلى انتظار وحي؟ ألم يكن من الواجب أن يبادر بإبلاغها للناس كافة؟!.

3_ كثير مما وردنا من هذه الأحاديث لم يكن نقلاً لأقوال النبي (ص) و إنما كانت وصفاً لهيئاته الشكلية, و عاداته اليومية, و طبائعه النفسية و الخلقية. و هذه الوجوه و ما شابهها أدخل في باب السيرة منها في باب الدين, و لا يصح القول إننا ملتزمون بتقليده في هذه الأحوال بحجة قوله تعالى:" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " لأن مقام القدوة هو مقام السلوك والخلق العام وأما خصوصياته وخصوصيات زمنه عليه الصلاة والسلام فليست من هذا المجال؛ وقد كان خلقه القرآن كما روي عن أم المؤمنين عائشة  رضي الله عنها. و إذا صح أن الآية تطالب المسلمين في كل أزمانهم بهذا التأسي, ولم يصح أنها تخاطب من عاش معه ورآه دون غيرهم. فإن هذا يعني أن مسألة التأسي هذه مبحث يحتاج إلى تفصيل وتمييز بين ما يصلح للتأسي وما لا يصلح. فمن المعلوم أن للنبي (ص) مقامات خاصة لا يجوز فيها التأسي, منها مقام الزوجية الذي جمع فيه النبي بين تسع زوجات بالشروط المعروفة في كتب الفقه. فإذا كان القوم حريصين حقاً على التأسي بالنبي (ص) فإن النبي كان يمارس الاجتهاد في الدين والحياة. والنبي كان يصلي مع النساء في مسجد واحد, والنبي نهى عن كتابة حديثه, فلماذا لا يكون أسوتهم في هذه الأحوال أيضاً؟!

4_ من المعلوم عند المحدثين أن الصحابة لم يكونوا يتحرون إسناد ما يروونه عن النبي (ص), فربما سمع الصحابي حديثاً من صحابي آخر, و هذا الآخر سمعه من ثالث, و هكذا دواليك, لكن أحداً منهم لا يذكر سلسلة السند هذه فيقول حدثني فلان الصحابي عن فلان الصحابي, و إنما يقول: قال رسول الله (ص) أو أية صيغة مشابهة لذلك, مما يوهم أنه سمع الحديث من النبي مباشرة, و لهذا قال علماء الحديث إن الصحابة كانوا ( مدلسين ), و التدليس هو الستر و الإخفاء, و هو على ضربين " الأول: أن يوهم المحدث أنه سمع الحديث من شخص معين و هو لم يسمعه منه ( و تدليس الصحابة من هذا النوع ) و منه أيضاً أن يسمع من ثقة حديثاً في إسناده رجل ضعيف فيقوم بحذف الضعيف من الإسناد بحيث يظهر الإسناد مسلسلاً بالثقات, و هذا التدليس يعرف بالتسوية, أي يسوي الثقات بالضعفاء, و هو أشرّ أنواع التدليس. وضرب آخر: أن يسمع المحدث من شخص ضعيف فيغير من اسم الضعيف أو كنيته, حتى لا يعرف أنه رواه عن ضعيف " ( عن: قراءة في جدلية الرواية و الدراية عند المحدثين ).

غير أن تدليس الصحابة لم يكن هدفه ستر عيب الرواية, لأن فن الإسناد لم يكن معروفاً ولا مقصوداً لديهم, وإنما كان الصحابي يروي عن زميله, و هم في نظر بعضهم ثقات عدول, و لا يحتاج مجتمع العدول إلى تحرٍ و إسناد!. إضافة إلى أن هذه الروايات لم تكن تعد عندهم ديناً واجب الاتباع, إذ لو كانت كذلك لرواها جماعة عن جماعة, وما تركت لأفراد مخيّرين بين روايتها وعدم روايتها.

 غير أن خطورة التدليس عند الصحابة تتبدى في جانب آخر, هو أن التدليس قد فتح باباً واسعاً لروايات المنافقين المكذوبة والمنسوبة إلى النبي (ص), و لا أعني بالمنافقين هنا تلك الفئة المكشوفة منهم, التي يعلمها النبي و صحابته, كعبد الله بن أبيِّ و أمثاله, و إنما أعني تلك الفئة المستورة منهم, التي لم يكن يعلمها النبي (ص) و لا صحابته, بصريح الآية الكريمة, قال تعالى: و ممن حولكم من الأعراب منافقون, و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم. التوبة:101.
والآية صريحة في أن طائفة من أتباع الرسول بالمدينة المنورة ظاهرهم الإسلام و باطنهم الكفر لا يعلمهم النبي تعييناً, و هم في نظره و نظر الصحابة صحابة عدول يسمع بعضهم من بعض دون حاجة إلى إسناد. و السؤال البدهي هنا: ماذا كان يفعل هؤلاء المنافقين طوال هذه الفترة من الستر؟ و كم من الأكاذيب نسّبوا إلى النبي, للشغب على دعوته؟.. و إذا فرضنا جدلاً أن هؤلاء كانوا يخشون أن يفضحهم الوحي بأن تتنزل فيهم آية لو تقوّلوا على النبي, فكيف كان حالهم بعد انقضاء الوحي, وذهاب الرسول؟!

ولا يصح القول بأن الله تعالى قد كشف للنبي (ص) أعيان هؤلاء المنافقين بعد ذلك, وأن النبي قد أسرّ بأسمائهم قبل وفاته إلى كاتم أسراره حذيفة بن اليمان, لأن الرواية التي جاءت بهذا أحادية ظنية الورود معتلة الفائدة, و الآية قطعية الورود و الدلالة, ولا يعطل الظني القطعي. أما أن الرواية ظنية الورود فلأنها من أخبار الآحاد, و أما أنها معتلة الفائدة فلكونها لم تحقق هدفها, إذ لو صح أن النبي قد أسر بأسماء المنافقين إلى حذيفة بن اليمان كما تزعم الرواية, فلماذا امتنع حذيفة عن الإدلاء بأسمائهم لأي صحابي كان, بما فيهم عمر بن الخطاب نفسه!, ولم يثبت أن حذيفة قد حدث أحداً بأسمائهم, فما فائدة الإسرار بأسمائهم, وماذا تحقق للمسلمين من المصالح بهذا الإسرار؟ وكيف يتفق هذا مع قوله تعالى " لاتعلمهم" ؟ أم أن المراد  تعطيل الآية التي كانت تهدد جهود المنافقين في الكذب على الله و رسوله!.

 ولمعرفة خطورة التدليس ننقل للقارئ هذا النص المختار: يقول صاحب كتاب (قراءة في جدلية الرواية و الدراية عند أهل الحديث ) ص :" وللتدليس مفاسد كثيرة , أهمها أنه سبيل للكذب على رسول الله عليه الصلاة و السلام, و إفساد الدين, وذلك بالرواية عن الكذابين و الوضاعين و المجرحين, وقد حكم أئمة الحديث على المدلسين بأشنع الأوصاف, يقول شعبة: " لأن أزني أحب إليّ من أن أدلس ", و يقول: " التدليس في الحديث أشد من الزنا, و لئن أسقط من السماء إلى الأرض , أحب إليّ من أن أدلس " و قال: " التدليس أخو الكذب" , و قال حماد بن أسامة " خرب الله بيوت المدلسين, ما هم عندي إلا كذابون" و قال حماد بن زيد : " التدليس كذب " ... و قال عبد الله بن المبارك:" لأن نخر من السماء أحب إليّ من أن أدلس حديثا" و قال وكيع: " نحن لا نستحل التدليس في الثياب فكيف في الحديث" وقال الذهبي:... قلت: والمدلس فيه شيء من الغش, وفيه عدم نصح للأمة".


5 _ ومشكلة التدليس بدرجاته المختلفة لا تخص الصحابة وحدهم, فقد تلبس بها حتى أئمة الحديث ورواته وإن كان أكثره تدليسا حميداً (قياساً على الورم الحميد!). يقول صاحب كتاب : قراءة في جدلية الرواية والدراية عند أهل الحديث ص/51: ( والذي يسمع هذا الكلام عن التدليس و أضراره و حكم فاعله يظن أن أئمة الحديث لم يتلبسوا بشيء منه,إلا أن الواقع بخلاف ذلك فإنك لا تجد واحدا منهم إلا و قد اتهم بالتدليس!. ومن أئمة الحديث و غيرهم ممن عرف بالتدليس: ابن شهاب الزهري, قال عنه ابن حجر: " محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري الفقيه المدني نزيل الشام مشهور بالإمامة و الجلالة من التابعين و صفه الشافعي و الدارقطني و غير واحد بالتدليس".

 ومالك بن أنس, قال عنه ابن حجر:" مالك بن أنس الإمام المشهور يلزم من جعل التسوية تدليسا أن يذكره فيهم لأنه كان يروى عن ثور بن زيد حديث عكرمة عن ابن عباسو و كان يحذف عكرمة و كذا كان يسقط عاصم بن عبد الله من إسناد آخر". و قال عنه ابن كثير : " قلت: الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم, و لم يعرفه فإنه غير معروف إلا من هذا الحديث, و لذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم, و لهذا يرسل كثيرا من المرفوعات و يقطع كثيرا من الموصولات".

ومحمد بن إسماعيل البخاري, قال عنه بن حجر:" محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الإمام وصفه بذلك أبو عبد الله بن مندة في كلام له فقال فيه أخرج البخاري قال فلان و قال لنا فلان و هو تدليس". و قال عنه أيضا: " كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه قائلا قال فلان , و يوردها في موضع آخر بواسطة بينه و بين ذلك الشيخ . قلت : ... و منها ما لا يورده في مكان آخر من الصحيح مثل حديث الباب, فهذا مما كان أشكل أمره عليّ ... و أما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة (قال) حكمه حكم الإسناد المعنعن, و العنعنة من غير المدلس محمولة على الإتصال, و ليس البخاري مدلسا, فيكون متصلا, فهو بحث وافقه عليه ابن مندهو التزمه, فقال: أخرج البخاري ( قال ) و هو تدليس ... و الذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة, و يوجد بينه واسطة و هذا التدليس بعينه".و مسلم بن الحجاج, قال عنه بن حجر:" مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري الامام المشهور قال ابن مندة أنه كان يقول فيما لم يسمعه من مشائخه قال لنا فلان و هو تدليس ".

 و أبو داوود الطيالسي, قال عنه ابن حجر " سليمان بن داود الطيالسي أبو داود الحافظ المشهور بكنيته من الثقات المكثرين قال يزيد بن زريع سألته عن حديثين لشعبة فقال لم أسمعهما منه قال ثم حدث بهما عن شعبة . قال الذهبي و دلسهما عنه فكان ماذا". و أبو نعيم الأصفهاني, قال عنه ابن حجر العسقلاني: " أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ أبو نعيم . صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة, منها:حلية الأولياء, و معرفة الصحابة, و المستخرجين على الصحيحين . كانت له إجازة من أناس أدركهم و لم يلقهم, فكان يروي عنهم بصيغة أخبرنا و لا يبين كونها إجازة, لكنه كان إذا حدث عن من سمع منه يقول: حدثنا, سواء كان ذلك قراءة أو سماعاً, و هو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم, و فيه نوع تدليس". و سفيان الثوري, قال عنه أبن حجر: " سفيان بن سعيد الثوري الإمام المشهور الفقيه العابد الحافظ الكبير وصفه النسائي و غيره بالتدليس" و قال عنه ابن المبارك: حدث سفيان بحديث فجئته و هو يدلسه, فلما رآني أستحى و قال نرويه عنك!. و قال عنه الخطيب البغدادي " حب الإسناد و شهوة الرواية غلبا على قلبه, حتى كان يحدث عن الضعفاء, و من لا يحتج بروايته, فمن اشتهر منهم باسمه ذكر كنيته تدليسا للرواية عنه".

وسفيان بن عيينة, قال عنه ابن حجر : " سفيان بن عيينه الهلالي الكوفي ثم المكي الإمام المشهور فقيه الحجاز في زمانه كان يدلس لكن لا يدلس إلا عن ثقة ... و وصفه النسائي و غيره بالتدليس" . و هذا الدفاع البارد  بأنه يدلس عن ثقة مردود بحقيقة أن روايات الثقات تزيد في رصيد راويها فكيف يدلسها عنهم و التدليس مطعن في الرواية ؟!. و أيوب السختياني, قال عنه ابن حجر :" أيوب بن أبي تميمة السختياني, أحد الأئمة متفق على الاحتجاج به, رأى أنساً و لم يسمع منه فحدث عنه بعدة أحاديث بالعنعنة أخرجها عنه الدارقطني و الحاكم في كتابهما". والدار قطني, قال عنه ابن حجر : " علي بن عمر بن مهدي الدارقطني الحافظ المشهور, قال أبو الفضل بن طاهر كان له مذهب خفي في التدليس يقول قرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان فيوهم أنه سمع منه لكن لا يقول و أنا أسمع". و سليمان بن مهران الأعمش: قال عنه الذهبي:" ما نقموا عليه إلا التدليس, قال الجوزجاني: قال وهب بن زرعة المروزي: سمعت ابن المبارك يقول: " إنما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق و الأعمش, و قال جرير بن عبد الحميد: سمعت مغيرة يقول:أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق و أعميشكم هذا ".أهـ.

6_لقد استمر الحديث يجري في الطبقات شفاها لا تدوينا, و ما وصلنا منه معتمدا لم يدون إلا في منتصف القرن الثالث الهجري تقريباً, أي بعد ذهاب ما يقارب أربعة أجيال من المسلمين بعد البعثة, و لا شك أن طول هذه الفترة يقلل من مستوى الثقة حول الرواية و طرق تحملها. و لا عبرة بقولهم إن الحديث قد دوّن على رأس المائة الأولى للهجرة بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز لسببين: الأول: أنه لم يصلنا شيء من هذا التدوين, والآخر: لأن أحداً من رجال هذه الفترة لم يذكر لنا خبرا عن حصول هذا التدوين, و هو ما دعا بعض الباحثين للتشكيك في حقيقة هذه الرواية. ولا عبرة كذلك لما قيل أنه دون قبل منتصف القرن الثالث الهجري, إما لأنه لم يصل إلينا, وإما لأن ما وصلنا منه ككتاب ( الموطأ ) للإمام مالك, ليس حجة في الحديث عند المحدثين, لعيوب تتعلق بالإسناد وفنونه. فضلاً عن قلة مروياته.

وإذاً فإن بداية التدوين المعتمدة عند المسلمين تتزامن مع ظهور صحيحي البخاري و مسلم, لما قام حول هذين الصحيحين من جهود علميّة كبيرة لضمان صحة ما فيهما, و إن لم تستطع كل تلك الجهود تخليص الأحاديث من الموضوعات. و يكمن الإشكال هنا في أن علماء الحديث في هذه الطبقة كانوا مضطرين _ في سبيل توثيق الرواية إسناداً و ضبطاً _ إلى دراسة أحوال رجال الحديث الرواة في ثلاث طبقات قبلهم, هي طبقات: الصحابة و التابعين و تابعي التابعين. و هذا بالطبع عسير المنال إلا مع الطبقة التي سبقتهم مباشرة و سمعوا منها ( طبقة تابعي التابعين ).أما طبقة الصحابة ( الأولى ) و طبقة التابعين ( الثانية ) فلم يكن ذلك ممكنا.. فماذا فعل المحدثون لسد هذه الفجوة؟!. لقد قرر المحدثون أن يفحصوا و يدرسوا رجال الطبقة الثالثة التي عاصروها, ليستوثقوا من عدالتهم و ضبطهم.. و بالاستناد إلى عدالة و ضبط رجال هذه الطبقة أخذوا مشورتهم في رجال الطبقة التي سبقتهم ( التابعين ), و هو ما يعني أن المحدثين قد و ثّقوا رجال الطبقة الثانية بأقوال رجال الطبقة الثالثة, لا بالمشاهدة و الامتحان!.. و تلك فجوة منهجية!..

وأما رجال الطبقة الأولى ( الصحابة ) فقد أعفى المحدثون أنفسهم من عناء دراسة أحوالهم, و استعاضوا عن ذلك بإصدار حكم عام يشمل جميع الصحابة , يقول: إن جميع الصحابة عدول, بتعديل الله لهم في القرآن الكريم, فلا حاجة لنا بدراسة أحوالهم ما داموا  غير مستوري الحال. و لنا على ما مضى الملاحظ الآتية: لا شك أن فترة ثلاثة إلى أربعة أجيال من رواية الحديث شفاها دون تدوين رسمي كفيلة بدخول الزيف و الكذب عليه, و ذريعة للتشكيك في مجملة, و لهذا قال شعبة: " تسعة أعشار الحديث كذب ", و قال الدارقطني: " الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ". ثم إن عدم القدرة على دراسة طبقتين من طبقات الرواية الثلاث بشكل مباشر, يعد ثغرة واسعة في عملية الإسناد و التوثيق, خصوصا إذا علمنا أن الرواية لم تكن تسير بخط مستقيم من طبقة إلى أخرى, و إنما كانت في الغالب تمر بطريق لولبيّ داخل كل طبقة, بحيث يروي الحديث داخل الطبقة الواحدة أكثر من راو.

إطلاق القول بأن جميع الصحابة عدول والأخذ عنهم دون قيد أو شرط مجازفة غير علمية للأسباب الآتية: أولاً: لما سبق و أثبتناه من وجود طائفة مستورة من المنافقين في مجتمع الصحابة, كانت تضخ الأكاذيب على لسان النبي ( ص ), و ربما, بل من المؤكد, أن الصحابة تلقفوا عنها _ و هم  مطمئنين _ كثيراً من الأحاديث الزائفة!. و ثانياً: لأن شرط ( العدالة ) وحده لا يكفي لضمان صحة الرواية, و لابد من شرط ( الضبط ) الذي اشترطه علماء الحديث مع بقية الطبقات. فحتى لو قبلنا _ جدلاً _ قولهم أن الصحابة جميعا (عدول)  لا يصدر عنهم كبيرة كالكذب على الله ورسوله, فمن أين لهم أن الصحابة جميعا (ضابطين) لا يطرأ عليهم سهو أو نسيان أو اختلاط؟ و قد ثبت عند البخاري قبل غيره أن بعض الصحابة كان يروي ما سمعه من النبي (ص) أو من صحابي آخر بصورة ناقصة أو مغلوطة!. و هذا عمر بن الخطاب نفسه _ كما يروي البخاري _ يخطئ في رواية ( 16 ) حديثا سمعها من النبي ( ص ) و صححتها له عائشة رضي الله عنهما!, و مثله أبو هريرة, فكم من الأحاديث المغلوطة لم تصححها عائشة لهما أو لغيرهما يا ترى؟! و الشواهد في هذا السياق كثيرة في إثبات جواز و وقوع حالات من نسيان الصحابة في تبليغ أحاديث النبي ( ص ), و هي ثغرة جديدة تضاف إلى أخواتها السابقات.ثم إننا لا نحتاج إلى شواهد أصلاً على حقيقة جواز وقوع الخطأ و السهو و النسيان من الصحابة ما داموا بشراً, و مادام الله سبحانه و تعالى لم يتكفل بحفظ شي سوى القرآن الكريم.وما دام القرآن نفسه يجوز النسيان على الأنبياء: سنقرؤك فلا تنسى" فنسيا حوتهما".

7_ لقد أسلفنا القول أن مجمل الحديث النبوي قد وردنا عن طريق آحاد الرواة, و هو ما يعني أن شرط (التواتر) الذي اشترطه علماء الأصول في الدليل الملزم غير متوفر في مجمل روايات الحديث النبوي, ولهذا قيل إن الحديث النبوي ( ظني الثبوت ) إلا طائفة قليلة جدا منه أحصاها صاحب كتاب ( نظم المتناثر من الحديث المتواتر ) بـ ( 310 ) حديثا متواترا تواترا معنويا, و الحقيقة أن هذه القلة من الأحاديث المزعوم تواترها لا تمثل شيئا من الشريعة, لأن بعضها روايات توثق السنن العملية و في هذه الحال تغني السنة العملية عنها, و بعضها ليس له قيمة شرعية كبيرة مثل ذلك الحديث الذي تواتر في مسح الخف و ورد عن (60) صحابيا!, و حديث رفع اليدين من الركوع في الصلاة, مع أن رفع اليدين هنا من هيئات الصلاة التي لا يؤثر غيابها أو حضورها في صحة الصلاة كما يقول الفقهاء, بل إن أحناف الهند و باكستان قد يعتدون على المصلي بالضرب إذا رأوه يرفع يديه بعد الركوع في صلاته, كما يروي د. عبد المنعم النمر في كتابه (الاجتهاد)!. أما ابن الصلاح والحازمي والشاطبي وطائفة أخرى من العلماء فينكرون حصول التواتر أصلاً.

و العجيب أن يأتي التواتر في موضوعات هامشية كهذه, و لا يرد في قضايا كبيرة ذات خطورة, كقضايا حد الردة و حد رجم الزاني المحصن و أخبار عودة المسيح و الدجال و المهدي المنتظر, و غيرها من مسائل الأحكام و العقائد!. التي يزعمون لبعضها  التواتر, و شكك آخرون في هذا الزعم بحجج دامغة, كما فعل ابن خلدون مع روايات ( المهدي المنتظر ) مثلاً!. و قد أنكر بعض علماء الحديث كابن الصلاح وغيره حصول التواتر من أصله. و شكك بعض الباحثين حتى في ما يسمى بالتواتر اللفظي الذي لم تتجاوز أحاديثه أصابع اليد الواحدة, و ضربوا لذلك مثلا بأشهرها و هو حديث " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ", حيث أورد الأستاذ جمال البنا في كتابه ( نحو فقه جديد ) مختلف روايات هذا الحديث و تبين عدم صحة زعم التواتر اللفظي فيها!.أما شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت فقد شكك وحذر من دعوى التواتر بكل أشكاله, و حمل على من يقول بها في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة).

ولا شك أن القوم سيشغبون على قولنا بأن أخبار الآحاد (والحديث كله أخبار آحاد) لا تفيد اليقين الملزم, و قد قال قائلهم ( الألباني ): " يجب على المسلم أن يؤمن بكل حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم, عند أهل العلم به سواء كان في العقائد أو الأحكام, و سواء كان متواتراً أم آحاداً, و سواء أكان الآحاد عنده يفيد القطع و اليقين, أو الظن الغالب على ما سبق بيانه, فالواجب في كل ذلك الإيمان به و التسليم له, و بذلك يكون قد حقق في نفسه الاستجابة المأمور بها في قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم..", و لا يضيرنا أن نختلف مع هذا المنطق ما دام عارياً من برهان واضح, وأما الآية التي استشهد بها فلا تعلق لها بقضية خبر الآحاد و حجيته, وقد كانت هذه الآية بين يدي كل المذاهب الإسلامية, السنيّة وغير السنيّة, التي لم تقبل بخبر الآحاد في مجال الأصول العقدية و ما شابهها, و لم تفهم منها ما فهمه الألباني و أمثاله, وقد فندنا في غير هذا الموضع دعوى حجية خبر الآحاد, وبينا بالدليل فساد قياس الرواية على شهادة الآحاد في الشريعة. ونقلنا فتوى الأزهر  حول إنكار حجية الحديث, واعتبار ذلك من الأمور السائغة التي لا يحكم على فاعلها بالكفر, لأنه أنكر شيئاً اختلف فيه الأئمة.( أنظر: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: محمد الغزالي).





5

خامساً: لمخاطر القول بحجية الحديث !:

إن حجية الحديث إما أن تكون قضية حق, و إما أن تكون وهماً من الأوهام التي تطاول بنيانها في العقل المسلم, و في كلا الحالين لا بد أن نكتشف الحقيقة, فإن للحق مظاهره, و للباطل أعراضه!, ومن الثمرة نعرف حقيقة الشجرة, فما هي ثمار القول بحجية الحديث يا ترى؟. كنت أتمنى أن يتفرغ أحد الباحثين لبحث هذه المسألة بشكل موسع و موضوعي, لوجه العلم لا لوجه مذهب أو مصلحة. وهي أمنية أضعها بين يدي البحاثة المتخصصين و المهتمين, لعل فارساً يلتقطها و يعطيها حقها من البحث و الدراسة, و إلى ذلك الحين يمكننا المرور سريعاً أمام أهم المظاهر السلبية للقول بحجية الحديث من وجهة نظري, وهي:

1 _ مظنة الوقوع في الشرك: لعل أخطر ثمار القول بحجية الحديث هي ثمرة الوقوع في الإشراك بالله!.. و " إن الله لا يغفر أن يُشرك به, و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء:48.. فما لم يثبت أن حديث النبي (ص) يعد جزءاً من رسالته, فلا شك أن القائلين بالحجية في خطر عظيم.و ذلك بإقحام ما هو بشريّ محض على ما هو مقدس يؤجر فاعله و يأثم تاركه!, و عندها سيشملهم قول الحق تعالى: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله, ليشتروا به ثمناً قليلاً, فويل لهم مما كتبت أيديهم و وبل لهم مما يكسبون " البقرة:79. و إذا كان أحدنا لا يقبل أن ينسب إليه كلام لم يقله فكيف يقبل ذلك على الله العلي ؟!

2 _ يعد الحديث هو المادة التأسيسية الأولى لكثير من المذاهب و الأحزاب الدينية و السياسية في التاريخ الإسلامي, و من ثم فإنه يعد المادة التأسيسية لحالة الخلاف و التمزق في الحياة الإسلامية!. فالمذاهب الفكرية مثلاً تستند في شرعية وجودها إلى نصوص الحديث _ في المقام الأول _ و إلى ( تأويل) نصوص القرآن الكريم بعد ذلك!.. و بمجرد سحب بساط الشرعية هذا من تحت أقدام هذه المذاهب المتناحرة سيصبح الكل معلقاً في الهواء, و كأنما سحبت من تحت أقدامها ( بساط الريح )!.

و لعل عقائد الشيعة هي المثال النموذجي للمذهب القائم على أوهام ( بساط الريح ) هذا!, فإنك إن فتشت في عقائد هذا التيار ستجد بناءً ضخماً يطاول ناطحات السحاب, إلا أن هذا البنيان الشامخ آيل للسقوط عند أول هبة ريح, ثم لا تلبث أن تكتشف أنه كان بناء من ورق,إذ أنه لا يمتلك دليلاً واحداً ( قطعي الدلالة و الثبوت ) على أية عقيدة من عقائده الخاصة! .. وكل بضاعته ( تأويل ) آية, أو ( حديث ) مصنوع.. و ما أسهل تأويل ( الآيات ) أو ( و ضع ) الأحاديث!.و إني لأعجب كيف يقبل الناس, في أية ملة من الملل, أن يدينوا بعقيدة لم تقم على أساس من اليقين ( اليقين في الورود, و اليقين في الدلالة )!, و أتساءل و أنا أتأمل عقائد الشيعة : هل يعقل حقاً أن يطالبنا الله سبحانه و تعالى بهذه العقائد دون أن ينزل فيها نصاً صريحاً واضحاً بذلك؟.. هل يعقل أن يطالبنا ربنا بعقيدة الإمامة لآل علي, و عقيدة العصمة لهم, و بمهديهم المنتظر الذي دخل سرداباً منذ أكثر من ( 1200) عام و لم يخرج حتى الآن, و غيرها من الاعتقادات الغيبية, دون أن ينزل في أي من ذلك نصاً واحداً يقطع الألسنة و يقيم اليقين؟!

هل يعقل أن ينزل الله آية في زواج ( زيد ) من زينب, و ينزل سورة في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب, و ينزل آيات في ( فتى ) موسى, و في ملك مثل ( ذي القرنين ), و في حكيم مثل ( لقمان ) وفي الروم التي ستغلب في أدنى الأرض , و في ( أصحاب الكهف ), و في ( كلب ) أصحاب الكهف, وفي ( نملة ) عاصرت سليمان عليه السلام, و لا يذكر نصاً واحداً في الإمام علي, و إمامته, و عصمته, و في الأئمة الأحد عشر من بعده, و في غيبة الغائب الذي لم يلد و لم يولد!, مع أنها عقائد يترتب عليها حساب و عقاب و جنة و نار ,كما يعتقدون ؟!. أم أن ذكر ( خلخال ) في رجل امرأة, و نملة سمعها نبي, و ( كلب ) كان يرافق فتية مؤمنين قبل آلاف السنين, أهم عند الله من عقائد الشيعة كلها؟!.

الحق أقول لكم إن اعتقاد عقيدة بهذه الطريقة لهو نوع من الحمق اللائق بعصور الجهالة والخرافة, وضرب من الجنون ( المعقلن ) لن يأبه الله له. و أما ألعاب الحواة و فنون السرك التي يمارسونها _ مرة بتأويل نصوص القرآن ومرة بالأحاديث المصنوعة _ فلن تنفع في إقامة عقائد للجنة والنار!, لأن هذه الوسائل ذاتها يمكن استخدامها في الشيء وضده, بل إن بإمكان التأويل والأحاديث المصنوعة أن يسوغا كل العقائد والملل في هذا العالم, وليس هناك من فكرة إلا ويمكن التأصيل لها من النص الديني, بوسيلتي ( التأويل ) و ( صناعة النصوص )¸بل إن الشيطان نفسه يستطيع أن يقدم لمذهبه الشيطاني من الحجج ما يفوق حجج الشيعة, لو امتلك مكر الفرس والشعوبية!. و مهما فعل القوم في الدفاع عن أفكارهم, فإن الحقيقة التي ستظل تؤرقهم و تفسد عليهم أحلامهم هي أن هذا المذهب لم ولن يمتلك في يوم من الأيام برهاناً ساطعاً قطعي الدلالة والثبوت فيما يدعي. فالقرآن بين أيدي الناس مكتمل, و ليس فيه نص واحد من هذا النوع, والأحاديث المنسوبة إلى النبي وإلى سواه من البشر لم و لن يكون لها صفة اليقين, لأن المسلمين في عصورهم كلها لم يجمعوا عليها, ولا مصلحة لهم في ردها و إنكارها إذا كانت حقاً ووحياً ملزماً, و هم الذين حفظوا القرآن و نقلوه نقلاً متواتراً لا شك فيه. و هذا المأزق هو الذي دفع بعض رجال الشيعة قديماً إلى القول بتحريف القرآن الكريم!.

3_الحديث بمدوناته التي بين أيدينا يحاصر المد الأخضر للقرآن الكريم: و بمقارنة بدائية بين نصوص الحديث ونصوص القرآن يتبين جلياً الفرق بين النصين, و في كل نص ما يدل على مصدره إن كان إلاهياً أو بشرياً!. فالنص القرآني منفتح, إيجابي, متوازن, مرن, شامل, منطقي, ميسر, عميق. و النص الحديثي في مجملة أدنى من ذلك, أو عكس ذلك!.
ففي حين يؤسس القرآن لقيمة الحرية من أقصاها إلى أقصاها, من حرية الفكر إلى حرية الكفر, دون أن يرتب على ذلك عقاباً دنيوياً, فإن الحديث يعمل عكس ذلك!, و في مواجهة قوله تعالى:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " البقرة:256. وقوله تعالى: فمن شاء فليؤمن و من شاء فلكفر . الكهف:29. وقوله تعالى: لست عليهم بمسيطر. الغاشية:22. صنعوا أحاديث تقول:" من بدل دينه فاقتلوه "و " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله, فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم "!. و بناء على هذه الأحاديث _ لا على نصوص القرآن _ تم اختراع ما يسمى بـ ( حد الردة ), إلا أن يكون حداً سياسياً, لا دينياً!.

و في حين يضع القرآن عقوبات محدده و معقولة لبعض الجرائم المتعلقة بالمجتمع فإن الحديث يضع عقوبات قاسية, لا يقبلها منطق الإسلام المتوازن, العدل, ولا منطق العقل السوي. ففي مواجهة قوله تعالى في عقاب الزانية والزاني ( مطلق الزانية والزاني ): الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة, و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. النور:2.  وضعوا أحاديث الرجم للزاني المحصن, و زعم بعضهم لها التواتر, بل وضعوا عبارة  في غاية الركاكة و نسبوها للقرآن الكريم و زعموا أنها من منسوخه. تقول آيتهم العرجاء " الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ", و لم يتساءلوا بينهم هل يستطيع الشيخ في سن الشيخوخة حقاً أن يزني؟! و إذا كان الشيخ قادراً على ذلك فهل تقدر الشيخة وهي التي خرجت من الخدمة الجنسية قبل عقود ؟ ولم يتساءلوا أيضاً لماذا بدأت آيتهم العجيبة بـ "الشيخ" و لم تبدأ بـ " الشيخة" كما بدأ القرآن بـ " الزانية " قبل " الزاني " في آية النور السابقة؟!. ولا قالوا لنا ما علاقة الشيخ والشيخة بالمحصن من الزناة. وهل كل شيخ وشيخة محصن؟ وماذا نفعل بالشيخ والشيخة غير المتزوجين؟. وليس المقام هنا مقام تفنيد هذه الأساطير وإنما هي إشارات عابرة لها دلالتها.

و في حين يعمل القرآن على الحد من طغيان البشر و استبدادهم بالرأي و القرار في كل آيات الظلم و الطغيان, مستنكراً حكمة الفراعنة القائلة: ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد. غافر:29. قاطعاً الطريق أمام كل طرق العبودية لغير الله, فإن الحديث يبرر لصور من الاستبداد و الطغيان, و يؤسس لصور من الضعف و العجز تفقد المجتمع الإسلامي حصانته وشرفه, حين يأمر الناس بالسمع و الطاعة للأمير و إن جلد ظهورهم, و أخذ حقوقهم, و فسق بهم و عليهم!, ما دام يقيم فيهم الصلاة!. و لا أدري ما فائدة الصلاة التي لا تنهى صاحبها عن المنكر و البغي!.

و في حين يترك القرآن الكريم مساحة واسعة من المباح تمارس فيها المجتمعات الإسلامية نشاطاتها الذهنية و الروحية دون حصار, تأتي الأحاديث لتضيق هذه المساحة إلى أقصى الحدود.. ففي مواجهة الآيات التي أحلت الطيبات و حرمت الخبائث, و في مواجهة المساحة المتروكة للحلال, صنعت أحاديث تمنع معظم أشكال الفنون و الترفيه: فالرسم حرام و التماثيل حرام رغماً عن أنف تماثيل سليمان, و الغناء حرام رغماً عن أنف مزامير داود, و التمثيل حرام رغماً عن أنف " الأمثال " التي يضربها الله في الكتاب لبيان قيمة من القيم, و الاختلاط حرام رغماً عن أنف كل الآيات التي تشرك النساء بالرجال في كثير من الأعمال!, ورغماً عن أنف مجتمع الرسول المختلط سلماً وحرباً!.

4_ إن القول بحجية الحديث بالرغم من وروده عن طريق آحاد الرواة، يمنح الشرعية لهذا الطريق في إثبات العقائد الفاسدة، ويعطي مبرراً لأهل الكتاب في شرعنة عقائدهم الزائفة، كعقيدة الصلب مثلاً؛ لأن شهود الصلب الذين نقلوا خبره كانوا آحاداً، وقد اشتبه عليهم المصلوب لشبهه بالمسيح، ولأن معظم شهود الصلب من غير بني إسرائيل (قوم موسى). بل إن اعتماد طريق الآحاد الظني في مجال الدين سيكون ذريعة لحجية كل العقائد المنقولة بنفس الطريق، وحينها لن يكون للإسلام في نسخته المحمدية أي ميزة على غيره في صراع الاحتجاج.
5_ الحديث المنسوب إلى النبي (ص) يصد عن سبيل الله!: ليس فقط بمقولات حد الردة و حد الزاني المحصن وما شابه ذلك, ولا بالروايات التي تحط من قدر المرأة, وتحد من وجودها في الحياة الإسلامية, ولا بالروايات التي تروج لمنطق الخرافة والأسطورة, فقط. وإنما أيضا بتلك المقولات التي تثير الغثيان, والاشمئزاز, وتصور النبي و صحابته في أقبح الصور!, و ليس آخرها رواية مسلم في رضاع الكبير التي استند إليها د. عزت عطية, رئيس قسم الحديث في الأزهر, حين أفتى الموظفة بأن ترضع زميلها في العمل من ثدييها لكي تحرم عليه، وتحل لهما الخلوة!!.. و لست أدري أي مفسدة في الخلوة أكثر من مفسدة الرضاع!.. وقد فصل المسكين من عمله في الأزهر بسببها, و كان الأولى للأزهر أن يفصل معه أحاديث مسلم التي استند إليها الرجل. فالرجل لم يفعل شيئاً سوى أنه أفتى بما أفتى به النبي _حسب زعمهم_ في صحيح مسلم, فهنيئاً للموظفين بصحيح مسلم!.. وهذه بعض روايات مسلم في رضاع الكبير لمن شاء أن يتفكر أو يتحسر!:
حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ اَبِي عُمَرَ، قَالاَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ اَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ اِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اِنِّي اَرَى فِي وَجْهِ اَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ - وَهُوَ حَلِيفُهُ ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اَرْضِعِيهِ ‏"‏ ‏.‏ قَالَتْ وَكَيْفَ اُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ‏"‏ قَدْ عَلِمْتُ اَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ ‏"‏ ‏.‏ زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ‏.‏ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ اَبِي عُمَرَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏
- وَحَدَّثَنَا اِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ اَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِيِّ، - قَالَ ابْنُ اَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ،  عَنْ اَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ اَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، اَنَّ سَالِمًا، مَوْلَى اَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ اَبِي حُذَيْفَةَ وَاَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَاَتَتْ - تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ - النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ اِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا وَاِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَاِنِّي اَظُنُّ اَنَّ فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ‏.‏ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ ‏"‏ ‏.‏ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ اِنِّي قَدْ اَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ ‏.‏
- - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ اُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ قَالَتْ اُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ اِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلاَمُ الاَيْفَعُ الَّذِي مَا اُحِبُّ اَنْ يَدْخُلَ عَلَىَّ ‏.‏ قَالَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ اَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اُسْوَةٌ قَالَتْ اِنَّ امْرَاَةَ اَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَىَّ وَهُوَ رَجُلٌ وَفِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَىْءٌ ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ ‏"‏ ‏.‏
 - وَحَدَّثَنَا اِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ اَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِيِّ، - قَالَ ابْنُ اَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ،  عَنْ اَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ اَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، اَنَّ سَالِمًا، مَوْلَى اَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ اَبِي حُذَيْفَةَ وَاَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَاَتَتْ - تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ - النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ اِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا وَاِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَاِنِّي اَظُنُّ اَنَّ فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ‏.‏ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ ‏"‏ ‏.‏ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ اِنِّي قَدْ اَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ اَبِي حُذَيْفَةَ ‏.‏ !


كما لن يكون آخرها تلك الروايات التي استند إليها مولانا ومفتي جمهورية مصر الدكتور علي جمعة في إطلاق فتواه ( المطينة بطين ) بعد فتوى زميله عطية, و يقول فيها لا فض فوه: إن بول النبي (ص), و برازه, و مخاطه, و كل مخرجاته, طاهرة لا نجاسة فيها, وإن الصحابة كانوا يتبركون ببول النبي ونخامته, ونسي المفتي أن يكمل: و برازه!,
وقد دافع الرجل عن فتواه بكل برود فقال في تصريحات خاصة لـ«المصري اليوم»: إن الأساس في فتوى تبرك الصحابة بـ«بول» النبي صلي الله عليه وسلم هو أن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه طاهر وليس فيه أي شيء يستقذر أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه صلي الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه علي أهل المدينة.

وأضاف جمعة: فكل شيء في النبي صلي الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: «والله دخلت على كسري وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمدا فما تفل تفلة إلا ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه» وحينما أعطى النبي صلي الله عليه وسلم لعبدالله بن الزبير شيئا من دمه بعد الحجامة فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم ادفنه، فرجع فرأي النبي عليه شيء فقال له أين دفنته، قال في قرار مكين فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم «أراك شربته ويل للناس منك وويل لك من الناس بطنك لا تجرجر في النار».

واستطرد جمعة قائلا: فأخذ العلماء من هذا ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني والبيهقي والدارقطني والهيثمي حكما بأن كل جسد النبي صلي الله عليه وسلم طاهر في ظاهره وباطنه، وعلي ذلك جماهير العلماء كما نص علي هذا أيضا القاضي عياض في «الشفاء» والأمام الغزالي في «الوسيط»، والإمام زكريا الأنصاري في «أسمى المطالب» وابن الرفعة والبلقيني والزركشي، وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني «تكاثرت الأدلة علي طهارة فضلاته صلي الله عليه وسلم وعدَّ الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلي ما وقع مما يخالف ذلك فقد استقر الأمر من أئمتهم علي القول بالطهارة».

وكل هذه المهازل و سواها كثير لا نجد وقتاً لسرده و التعليق عليه, مصدرها الأول مدونات الحديث و كلام الرجال. و ها أنت ترى كيف تسقط أمام هذه الروايات البائسة قامات طوال!.. و إن من يعرف تاريخ التشريع, ليدرك مدى استعداد القوم للتضحية بأي قيمة من القيم الإسلامية العليا في سبيل الحفاظ على كيان الحديث المقدس!.. فلا بأس أن يكون في الروايات ما يشغب على القرآن و يشكك فيه و في حامله ( عليه الصلاة و السلام )!, و لا بأس أن يُقدم الرسول و صحابته في صور مزرية, و هو يتبول و يتمخط لأصحابه, وهم يتزاحمون على بوله متبركين به و بغيره من آثاره!.. و لا بأس أيضاً أن تقوم أخواتنا و زوجاتنا الموظفات بإرضاع زملائهن في مكاتب العمل, درءاً لمفسدة الخلوة!, فقد يحل هذا مشكلة التهرب الوظيفي, و مشاكل أخرى لدى الموظفين!.. كما لا يضير أبداً القول بأن الشيطان قد اخترق الرسول (ص) و ألقى على لسانه آيات شيطانية يمدح فيها أصنام قريش.. أو القول بأن سورة الأحزاب كانت بطول سورة البقرة و لم يتبق منها إلا ما بين أيدينا, وأن عنزة قد أكلت الباقي!. فكل ذلك و غيره لا بأس به!, المهم أن يبقى رأس الحديث مرفوعاً, وشرفه مصوناً عن النقد والتشكيك!..

  • نشر هذا البيان على صفحات الوسطية الملحق الأسبوعي لصحيفة الجمهورية. بتاريخ 02 نوفمبر - تشرين الثاني 2007  والكاتب يعتذر عن أي خطأ قد يحدث في نسبة الآيات والأحاديث إلى مظانها بسبب شحة الوقت اللازم للمراجعة والتنقيح