الاثنين، 30 يونيو 2014

الخلافة والإمامة والوهم (3/3)

نشر في صحيفة الجمهورية - عدد الأربعاء 15 فبراير-شباط 2012

سبق وقلنا: إن الإمامة والرياسة والحكومة من ضرورات الاجتماع لا من ضرورات الدين، وفي هذا رد على دليل آخر للقائلين بوجوب هذه المناصب وجوبا دينيا، هو دليل العقل. وإن كان دليل العقل عند أهل السنة يقع في منزلة متأخرة عن منزلة الإجماع، إلا أنه عند الشيعة الإمامية عمدة أدلتهم في إثبات الإمامة الإلهية لأئمتهم المعصومين، وإثبات وجود المهدي المنتظر، صاحب الزمان وحجة الله على خلقه!. بدعوى أن العقل قد دل على أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز عليه أن يترك الخلق بلا هداة مهديين، وإلا وقعوا في الضلالة.. وفي هذا الطرح عجائب كثيرة، سمها إن شئت تناقضات، أو سمها إن شئت تجليات الصناعة اليدوية للعقائد الدينية!.

1 - فهم من ناحية يقولون: إن الإمام المعصوم ضرورة دينية، وأن العقل وحده لا يغني عن وجوده. فإذا سألتهم: من أخبركم بذلك؟ قالوا: العقل..!. إذن فإن العقل هنا مقدم على الإمام، وهو الأصل الذي يرجع إليه في إثبات الإمامة والولاية والمهدوية، وكل العقائد الشيعية الخاصة؟ فكيف لا يكون هذا الأصل _ وهو بهذه المنزلة عندكم _ بديلا عن الإمام؟!. كيف يكون العقل حجة في إثبات الأصول لديكم ولا يكون حجة في فهم الفروع والجزئيات، التي زعمتم أنها من وظائف الإمام؟!.

2 - ولا ندري لماذا دل العقل على وجوب الإمامة الإلهية عندكم وحدكم، ولم يدل غيركم على هذه الضرورة العقلية؟!. وكيف تعد الإمامة من الضرورات العقلية، بالرغم من أن معظم الخلق لا يقولون بها؟!. ولمن لا يعرف معنى الضرورة العقلية، نقول: هي ذلك النوع من الأحكام التي لا يختلف عليها اثنان في هذه الدنيا. فقولنا: إن 2 + 2 = 4 هو من الضرورات العقلية، وقولنا: إن الجزء أصغر من الكل، أو استحالة أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود في الوقت نفسه، هي من الأحكام الضرورية في العقل، والمناطقة يقولون: إن هذا النوع من الأدلة أقوى من الأدلة الحسية نفسها، لأنه لا يحتمل الشك مطلقا. فهل مقولة الإمامة أو المهدوية من جنس هذه الأحكام؟. لا أظن أحدا لديه عقل يجرؤ على الإجابة بنعم.

3 - ثم إن إخواننا الشيعة لم يخبرونا حتى الآن، لماذا ترك الله خلقه بلا إمام منذ القرن الرابع الهجري؟. ولماذا قد يطول به الغياب آلافا من السنين القادمة؟!. أو ما فائدة مجيئه بعد ذلك، وقد ذهب معظم الخلق في غيبته؟!. بل ما جدوى اليوم الآخر نفسه ما دام المنتظر الحجة سيحقق العدل كله والخير كله في الدنيا، كما يقولون؟!. بل ما قيمة أن يتحقق هذا العدل وذاك الخير في آخر الزمان، بعد أن ذهبت معظم أجيال الإنسانية إلى الموت، دون أن تكحل عينيها برؤية هذا الفردوس الأرضي العظيم؟!. هل آخر أجيال الإنسانية أحب إلى الله من أولها وأوسطها وجزء كبير من آخرها، حتى يمنحها هذه الميزة؟!.

4 - وبجانب هذا كله، لم يخبرونا ما الشيء النوعي المميز الذي حققه أئمتهم الذين مضوا للناس، ولم يستطع غيرهم تحقيقه، وهم الأئمة المعينون من قبل الله تعالى!. لقد مضى منهم أحد عشر إماما (عند الأثني عشرية) من مجموع إثني عشر إماما، فهل اختلف فقههم جوهريا عن فقه أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي؟. وهل كانت لهم فلسفة في مستوى فلسفة أرسطو وأفلاطون وكانط وغيرهم من البشر العاديين؟. وما طبيعة الهداية التي حققوها لمجتمعاتهم آنذاك بصورة نوعية لم تتحقق عند المجتمعات الأخرى؟. لماذا لم يستطيعوا _وهم الأئمة المختارون من قبل الله_ أن يكشفوا عن أسرار القرآن الكريم، وفي مقدمتها أسرار الحروف المقطعة في أوائل السور على سبيل المثال؟. وغيرها من الأسئلة التي لن يجدوا لها جوابا شافيا إلا عند مخترعي هذه الأفكار أنفسهم..!

إن تاريخ الإمامة السياسية الدينية عند الفرق الشيعية جميعا (الاثني عشرية، والسبعية، والزيدية) بعد القرن الأول الهجري، يكشف عن نوعين من الأئمة على الأقل: النوع الأول، أئمة فقه ودين لم يمارسوا السلطان السياسي بأي صورة من الصور، ومعظم هؤلاء من الفقهاء الصالحين، الذين لم يضيفوا إلى حياة الناس شيئا جوهريا، ولا حققوا في مجتمعاتهم نقلة نوعية تميزهم عن غيرهم من فقهاء المسلمين. والنوع الآخر، أئمة فقه وحكام دول ساروا في الناس سيرة غيرهم من الحكام، فكان منهم العادل الزاهد، وكان فيهم الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وكان فيهم الظالم الجهول، والسفاح المبين. والصالحون فيهم لم يكونوا شيئا مميزا بين الخلق. بحيث يمكن القول: إن الله الحكيم قد اختارهم بطريقة ما دون غيرهم من الناس.
ولا يحتاج المرء لأكثر من شهادة التاريخ في الحكم بزيف دعوى الإمامة السياسية الدينية بكل أشكالها. مرددين مع المعري أبياته الشهيرة:
زعم الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء..
كذب الزعم لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء..
أما قولهم: إن العقل وحده، بزمالة القرآن الكريم، لا يكفيان لهداية الإنسان، فهو كلام يصدق عليه بيت المعري الآخر:
هذا كلام له خبيء معناه ليست لنا عقولُ.!..
فقد صنع العقل من المعجزات ما لم يصنعه الأنبياء، فما بالك بالأئمة المفترى على بعضهم، والأئمة المفترين على بعضنا..!.

الخلافة والإمامة والوهم (2/3)

نشر في صحيفة الجمهورية - عدد الثلاثاء 14 فبراير-شباط 2012

قلنا إن القائلين بوجوب منصب الإمامة / الخلافة يحتجون بدليل الإجماع، بعد أن افتقدوا دليل النص. وكان الشيخ عبد الرازق قد بدد هذا الدليل بسهولة حين ذكرهم بأن فرقة من الخوارج (النجدات) والأصم من علماء المعتزلة، قد خرموا هذا الإجماع المزعوم. وهذا وحده كاف لاستبعاده من دائرة الاحتجاج عند من يؤمن بحجية الإجماع. وقد كان عبد الرازق لينا مع خصومه إلى حد كبير، إذ اعترف لهم بحجية الإجماع كدليل شرعي، واكتفى بنفي وقوعه في هذه المسألة، مع أنه سيد العارفين بأن مقولة الإجماع برمتها تعد واحدة من أشهر خرافات الوسط العلمي. وما كان ينبغي لعبد الرازق ولا لغيره، أن يسلموا ابتداء بحجية مثل هذا الدليل، وإدراجه ضمن الأدلة الشرعية الكبرى. وذلك لاعتبارات كثيرة، أبرزها عدم وجود نص قطعي من الكتاب في اعتبار الإجماع حجة شرعية ملزمة. وكل ما ورد في هذا الباب من استدلالات لا يصلح لشيء، بدليل أنه لا توجد آية واحدة اتفق الأصوليون والمفسرون على كونها قاطعة في حجية الإجماع.

وإن أشهر ما يستدلون به قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. وكان أول من استدل بها على حجية الإجماع هو الإمام الشافعي كما يقول السبكي، وهو استدلال رده عليه كثير من الأصوليين، بمن فيهم الإمام الغزالي، والسبكي نفسه، وهما من أئمة المذهب الشافعي!، على اعتبار أن المقصود بعبارة “سبيل المؤمنين” في الآية هو الإيمان نفسه لا الإجماع. ومما يجدر التوقف عنده رواية السبكي التي أشرنا إليها سلفا، إذ وردت فيها معلومتان ذواتا دلالات خطيرة. تقول الرواية إن الشافعي هو أول من استدل على حجية الإجماع بهذه الآية، وإن الشافعي عكف على المصحف ثلاثة أيام للبحث عن دليل في حجية الإجماع حتى استخرجها. ومن معاني ذلك أن مسألة الإجماع قبل الشافعي لم تكن مطروحة، أو أنها لم تكن ذات أهمية خاصة، وإلا فما معنى أن يكون هو أول من استخرج لها دليلا من القرآن؟!. كما أن من معانيها أن الشافعي كان يدخل على القرآن بمقررات مسبقة يبحث لها عن مؤيدات، لا أنه يأخذ مقرراته من القرآن ابتداء!. والحقيقة أن هذه العادة ليست غريبة على الإمام الشافعي فقد لمسناها عنده في أكثر من مسألة.

ومن المعلوم في الدرس الأصولي أن مسألة الإجماع من المسائل التي اختلف الفقهاء في كل تفصيلة من تفصيلاتها، فلم يجمعوا على أمر واحد من أمورها، حتى صح عليها القول: إن الإجماع نفسه بحاجة إلى إجماع. ولمن أراد تفصيل هذه الحقيقة والتأكد منها أن يرجع إلى كتاب “الإجماع في الشريعة الإسلامية” للشيخ علي عبد الرازق نفسه، أو إلى الخلاصة المركزة التي سجلها شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت في كتابه الشهير “الإسلام عقيدة وشريعة”. وإن من يطلع على هذه المراجع ليعجب أشد العجب كيف أن الفقهاء، أو غالبيتهم، ما زالوا يؤمنون بحجية الإجماع، بدلا من الدعوة إلى استبعاد هذا الدليل من دائرة التشريع برمته!. لولا غياب الحساسية المنهجية عند أغلب من يتصدى لأمور الدين والعلم في القديم والحديث. فما بالك بحساسية التوحيد التي كان ينبغي أن تستيقظ فيهم، إذا ما علمنا أن مقولة الإجماع تفتح بابا خفيا للشرك، حين تسمح للبشر أن يضيفوا إلى دائرة الدين المقدس ما أجمعوا عليه بفهمهم!. ومع كل إجماع جديد يضاف إلى الشرع، تتهاوى في الأذهان مقاصد قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. [المائدة: 3].. إذ كيف يكون الدين قد اكتمل بوجود الرسول (ص) وباب الإضافة ما زال مفتوحا باسم حجية الإجماع؟!.

أما ما لم يتنبه له الخائضون في مسألة وجوب منصب الإمامة / الرئاسة _ بما فيهم عبد الرازق نفسه _ فهو الخلط بين الإجماع بوصفه حالة دينية والإجماع بوصفه ضرورة اجتماعية. فمن البدهي أن الدولة والحكومة والرياسة من الضرورات الاجتماعية التي لا تقوم حياة الناس إلا بها على وجه العموم. وما كانت هذه حالته فلا يحتاج إلى نص ديني أصلا. وهاهي أمم الأرض جميعا، بمختلف أديانها وأعراقها وظروفها، تقيم الدول والحكومات والرؤساء بدافع ضرورات الاجتماع، لا بدافع الدين. وهذا تحديدا هو دافع الصحابة بعد وفاة النبي (ص) من تنصيب خليفة له. وما كان حديثهم في السقيفة وما بعدها إلا حديث سياسة مدنية بحتة. وما ظهرت أحاديث الإمامة والسياسة إلا في وقت لاحق، عندما احتاج إليها أمراء السوء. وإلا فليخبرونا لماذا لم نسمع “حديث الأئمة في قريش” على لسان أحدهم في السقيفة؟!.

ذلك هو دليل الإجماع الذي احتجوا به في وجوب منصب الإمامة السياسية، ومن ثم وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. وهو كما ترى في غاية الضعف والهزال، عند من صحت عقولهم، ونظفت سرائرهم. فإذا كان هذا هو دليلهم الأكبر فكيف بأدلتهم الصغرى يا ترى؟!.. ولعلك تتساءل الآن: هل بقي لهم من حجة؟!.. والجواب: لم يتبق لهم سوى دليل هش يسمونه دليل العقل. وهذا الدليل يختلف مقامه عند الفرق الإسلامية، فهو لدى السنة دليل ثانوي، أما عند الشيعة فهو أكبر الأدلة وأعظمها، ولهذا فضلنا إرجاء مناقشته إلى الحلقة المقبلة، لنتعرف من خلاله على عقيدة الشيعة في موضوع الإمامة السياسية. بل لنتعرف من خلاله على مدى غيبة العقل عند المسلمين..!

الخلافة والإمامة والوهم (1/3)


نشر في صحيفة الجمهورية - عدد الأحد 12 فبراير-شباط 2012

كنا وعدنا في مقال سابق، بأن نبدأ سلسلة من المقالات في نقد الأسس الفكرية التي قامت عليها جماعة الإخوان المسلمين، لما لهذه الجماعة من أهمية على الصعيدين السياسي والديني في حياتنا المعاصرة. وهذا المقال هو تجسيد ذلك الوعد.

غير أن من المناسب قبل البدء التنويه إلى حقيقة أن نقد جماعة الإخوان هو في نهاية المطاف نقد لأصول التيار الديني برمته..سواء ما كان منه سنيا أم ما كان منه شيعيا.

لذا فلا غرابة أن ينزاح هذا المقال في جزئه الثالث إلى نقد التصور الشيعي للدولة والإمامة. ذلك أن الغاية من هذا الجهد هو بيان الزيف الذي تأسست عليه النظريات السياسية عند الفرق الإسلامية عموما. وتخصيص جماعة الإخوان بهذا النقد هو بمثابة الخزعة (العينة) التي يأخذها الطبيب لفحص حالة الجسم كله.. فماذا هناك؟!..


يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام دين ودولة، ويقصدون بذلك أن الدولة جزء من الدين (الإسلام). ومن مقتضيات ذلك أن يصبح السعي إلى إقامة الدولة، والعمل في مجال السياسة العامة، من الفروض الكفائية لجماعة المسلمين (الأمة). والدولة عند الإخوان مفهوم غير محدد بصورة حاسمة. لكنه إذا ورد في أدبياتهم الدينية فإن الغالب أن يقصد به حكومة “الخلافة” الإسلامية. أما إذا ورد في أحاديثهم السياسية فإن الغالب أن يقصد به الدولة القطرية بمفهومها الحديث. وإن كان مفهوم “الخلافة الإسلامية” يقع في الصميم من سعيهم العام.


وإذا كنا بصدد قراءة نقدية لبعض جوانب الفكر عند جماعة الإخوان المسلمين، فإن من المهم التأكيد على أن كل قراءة لهذه الجماعة خارج السياق التاريخي لظهورها، ستكون قراءة قاصرة، ذلك أن الجماعة قد نشأت استجابة لظروف سياسية بحتة، أبرزها حادث سقوط الخلافة العثمانية في العام 1924م، والتحدي الاستعماري لمصر ولأجزاء من الوطن العربي آنذاك. فقد تأسست الجماعة في العام 1927م، أي بعد ثلاث سنوات من سقوط الخلافة العثمانية، وبعد سنتين من صدور كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي وجه ضربة قوية لمفهوم الخلافة والحكومة الإسلامية.


وما من شك في أن شعار “الإسلام دين ودولة” الذي رفعه الإخوان كان ردا مباشرا على دعوى الشيخ علي عبد الرازق، الذي قال بأن الحكومة أو الخلافة ليست من خطط الدين، وأن النبي محمد (ص) لم يؤسس دولة، ولا كان ملكا من الملوك، وإنما كان نبيا رسولاً، مكلفا بإبلاغ الرسالة السماوية، ودعوة الناس إلى الهدى، ولم يكلف بإقامة دولة وحكومة. وقد تصدى للرد على هذه المقولة كبار مشائخ الدين آنذاك، وفي مقدمتهم محمد رشيد رضا، صاحب المنار، وشيخ الأستاذ حسن البنا مؤسس الجماعة. ولا غرابة أن يمضي التلميذ وراء أستاذه، وهو الذي استعار منه أكثر من شعار لجماعته، مثل ذلك الشعار الذي رفعته الجماعة مع الأغيار: “فلنتعاون في ما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”، فقد كان هذا شعار مجلة المنار التي أسسها رشيد رضا.


لقد اطمأن الإخوان منذ ذلك الوقت إلى أن موضوع الدولة الدينية ، قد أصبح أمرا محسوما، بالنسبة لهم على الأقل. خاصة وأن معظم الفقهاء المعاصرين، من أمثال مفتي المالكية في تونس، محمد الطاهر بن عاشور، قد صرّحوا بأن الدولة في الإسلام دينية لا مدنية. إلا أن الحوادث قد اضطرتهم فيما بعد إلى رفع شعار الدولة “المدنية”. كما حدث في المناظرة الشهيرة التي جرت في يناير من العام 1992م، بين كل من الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي، والدكتور محمد عمارة، من جهة، وبين المأسوف عليه الدكتور فرج فودة، والدكتور محمد أحمد خلف الله، من جهة ثانية. وأعلن طرف الإسلاميين في هذه المناظرة رفضه للدولة الدينية، ومطالبته بالدولة المدنية. وهم بطبيعة الحال لا يعترفون بوجود تناقض بين الشعارين، فالإسلام عندهم مازال دينا ودولة، وإن كانت الدولة فيه ذات طابع مدني!. وبحسب عبارتهم فإنها دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية. وسنعرف لاحقا أن هذه الصيغة التوفيقية بين الدين والدولة ليست مشكلة مبدئية، وإنما تكمن المشكلة في الحدود الدلالية لمفهوم الدين والدولة، كما سنبين في مناسبة قادمة.


وفي الطريق إلى معرفة تلك الدلالات والحدود، نود أن نصارحهم بأن ما اعتقدوه أمرا محسوما، لم يحسم بعد، وأن مقولة الشيخ عبد الرازق لم تمت بعد، وأن فيها من قوة الحق والصواب ما يضمن لها البقاء حتى النهاية. ولقد كان الرجل محقا تماما في دعواه، وإن كان قد قصر بعض التقصير في تأييدها بالبراهين الحاسمة. ولعله شعر بنوع من ذلك التقصير في وقت لاحق عندما أصدر كتابه الأخير في “الإجماع في الشريعة الإسلامية”. إلا أنه لم يوفق في توظيفه لصالح مقولته في كتاب الإسلام وأصول الحكم، كما اعتقد. ولا يغير من الأمر شيئا ما ذكره الدكتور محمد عمارة، من أن علي عبد الرازق قد تراجع في أخريات حياته عن فكرة الكتاب، أولاً، لأننا مرتبطون بالحقائق والبراهين لا بالأشخاص. وثانياً، لأن قصة التراجع هذه لم تثبت مطلقا، ولم يؤثر عن صاحبها أي مستند خطي أو كلامي يثبتها، وكل ما روي في الموضوع مجرد انطباعات وإشاعات من هذا النوع الذي ألفناه في بلاد العرب. ولقد امتد العمر بصاحب الكتاب أكثر من أربعة عقود بعد صدور الكتاب، كانت كافية وزيادة لإعلان مراجعاته لو كانوا صادقين.


قلت: إن عبد الرازق كان محقا في دعواه، فالخلافة /الإمامة /الحكومة ليست من خطط الدين، والنبي (ص) لم يؤسس حكومة، ولم يكن صاحب سلطة ملوكية. وهذه بالطبع ليست مجرد دعوى نلقيها لإثارة الزوابع والتوابع، وإنما هي مسألة من مسائل البحث العلمي والتاريخي نعيد طرحها لمزيد من النقاش والامتحان. فإن صمدت لامتحان الأسئلة فأهلا، وإن سقطت فسهلا.. ولا كرامة لغير الحقيقة.


وإن أول ما يقال في الاحتجاج لهذه الدعوى هو عدم وجود نص قرآني واحد يوجب منصب الإمامة والرياسة أو يدعو إلى إقامة حكومة. وهذه حقيقة اعترف بها حتى خصوم عبد الرازق أنفسهم. وهي الحقيقة التي اضطرت الفقهاء قديما إلى الاحتجاج على وجوب الخلافة بدليل الإجماع لا بدليل النص. وسيأتي الرد على دليل الإجماع هذا في السطور القادمة. وهذه العلة وحدها كافية لإخراج المسألة من دائرة الحق إلى دائرة الاجتهاد والخلاف الذي لا إنكار فيه.


أما ثاني ما نحتج به على صحة هذه الدعوى فهو شهادة التاريخ النبوي نفسه. فقد توفي النبي (ص) دون أن يخلف للمسلمين شيئا في نظام الحكم. فلا نظام للشورى، ولا نظام للبيعة، ولا نظام للمحاسبة السياسية، ولا نظام دواوين (وزارات)، ولا سجلات للجند والفيء والزكاة، ولا نظام سجون، ولا عملة محلية، ولا أي صورة حاسمة من صور الدولة والحكومة المعروفة في ذلك الزمان. وهو ما تجلت آثاره لاحقا في ذلك النزاع الذي نشب بين الصحابة حول خلافته على ولاية أمر الجماعة، وحول قتال مانعي الزكاة من المسلمين في خلافة أبي بكر، ثم في تعدد صور المبايعة للخلفاء الراشدين.


وقبل المضي في مناقشة الردود المتوقعة، أود لفت انتباه القارئ إلى أن كلامنا هذا لا يعني أن النبي محمد (ص) لم يمارس أي شكل من أشكال السلطة على جماعة المؤمنين آنذاك. إذ من الواضح الجلي أنه مارس نوعا معينا من السلطة على جماعته بوصفه ولي أمرها الأول.

إلا أننا نؤكد حقيقتين أخريين إلى جوار هذه الحقيقة، الأولى: أن سلطته على الجماعة جاءت بحكم الأمر الواقع، الذي فرضته طبيعة الولاية الدينية للنبي على جماعته. ومع هذا فقد كانت سلطته على جماعة المؤمنين تفوق سلطة الملوك والأباطرة على رعاياهم كما قال عبد الرازق. لأنها سلطة على القلوب والأرواح، منحتها له القلوب نفسها رضا واختيارا.

أما الحقيقة الثانية فهي أنه مارس شكلا بدائيا من أشكال السلطة، حتى بالقياس إلى أشكال السلطة المعروفة في زمنه. شكل لا يختلف جوهريا عن شكل سلطة رئيس القبيلة. فقد كان من مهام شيخ القبيلة الفصل في المنازعات بين أفراد قبيلته وأفخاذها، وتجهيز الجيش للغزو والقتال، وجمع الإتاوات للأغراض المختلفة، وربما بعث الرسائل لأمثاله من شيوخ القبائل، أو حتى الملوك. إلا أن هذا النوع من المهام لا يجعله في عرف العارفين ملكا، ولا يسمي سلطته حكومة. ولم تكن سلطة النبي على جماعته تختلف جوهريا عن سلطة رئيس القبيلة هذا، من حيث الشكل، وإن كانت المضامين والغايات مختلفة جذريا بالطبع.


ومن حمق القول أن يستدل البعض على كون النبي مؤسس دولة وصاحب حكومة، ببعثه الرسل إلى ملوك الأمم المجاورة. أولاً، لأن فعل إرسال الرسل لا يختص به أصحاب الدول والحكومات وحدهم، كما أشرنا من قبل، وثانياً لأن النبي (ص) فعل ذلك بحكم نبوته لا بحكم سلطانه الملكي. فقد كان يطالبهم بالدخول في الإسلام، لا بالدخول تحت سلطانه السياسي. وهذا أمر واضح كالشمس، لولا آن الشمس عند بعضنا لا تكون واضحة!.


وحتى أضع القارئ أمام صورة واضحة لهذا الأمر، واقطع له حبل الشك بسكين اليقين، فإني أدعوه لأن يتأمل معي نماذج النبوة كما عرضها القرآن الكريم. وهي ثلاثة لا رابع لها، ثم ادعوه إلى أن يضع النبي محمد عليه الصلاة والسلام في النموذج الذي يراه مناسبا، ولا أظننا سنختلف في هذه الجزئية:

النموذج الأول هو نموذج النبي فقط، ومن ممثليه: هارون وزكريا ويحيى عليهم السلام. فهؤلاء كانوا أنبياء بلا رسائل سماوية (كتب) تابعين لشرائع رسل سبقوهم (موسى)، ومن ثم كانوا أنبياء فقط. والنموذج الثاني هو نموذج النبي الرسول، ومن ممثليه: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. فقد كانوا أنبياء وأصحاب كتب، ومن ثم كانوا أنبياء رسل. والنموذج الثالث نموذج النبي الملك، وممثلوه البارزون: داود وسليمان عليهما السلام، فقد كان كل منهما نبيا تابعا لرسالة رسول قبله (موسى)، وهما مع ذلك ملكين متوجين.. ففي أي نموذج من النماذج النبوية السابقة يضع القارئ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؟. هل هو أشبه بهارون وزكريا، أم هو أشبه بداود وسليمان، أم هو أشبه بموسى وعيسى؟.


أظن أن الأمر واضح تماما.. فهو من زمرة الأنبياء الرسل، لا من زمرة الأنبياء الملوك، ولا من زمرة الأنبياء فقط. وهو في ذلك أشبه ما يكون بموسى عليه السلام. كلاهما بدأ حياته برعي الأغنام، وكلاهما تلقى رسالة الوحي في الجبل، وكلاهما هاجر بجماعته فرارا من بطش الفراعنة. وكلاهما أسس مجتمعا جديدا بعيدا عن سلطان الملوك. ومع هذا كله فإن أحدا لم يقل إن موسى كان ملكا أو مؤسسا لدولة اليهود، أو أنه خلف لقومه نظام حكم من أي نوع. وقد ظل بنو إسرائيل بعده عشرات السنين بلا دولة ولا حكومة، تحت سلطة كهنتهم الدينيين، في ما سمي بعهد القضاة، إلى أن طلبوا من أحد أنبيائهم أن يدعو ربه لكي يبعث لهم ملكا مثل بقية الأمم. فانظر كيف أن بني إسرائيل لم يطلبوا من نبيهم أن يصبح ملكا عليهم، وانظر كيف أن الله قد نصب عليهم طالوت ملكا، بالرغم من وجود نبي بجواره. وفي هذا ما فيه من الدلالة على أن الحكومة والسياسة ليست من أعمال الدين، وإلا لكان الأنبياء هم أولى الناس بها.

وهذا رد كاف على ما نسب إلى النبي من حديث يقول فيه “إن بني إسرائيل كانت تسوسهم أنبياؤهم”، إلا إذا قصدوا بالسياسة أعمال القضاء (الحكم) التي مارسها أنبياء فترة القضاة، كما يسميها علماء التوراة. وقد كان النبي محمدا يمارس هذا النوع من السياسة في جماعته، يدل عليه قول الله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ» [المائدة:49]. والحكم بين الناس هو الفصل بينهم في المنازعات. ولم ترد كلمة الحكم في القرآن بمعنى السلطة السياسية السيادية مطلقا، بل بمعنى الحكمة وحسن التدبير ورجاحة العقل، ولهذا استحق نبي الله يحيى صفة الحكم في صباه: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»[مريم:12].
ومع هذا الوضوح التام في الفرق ما بين نموذج السلطة النبوية والسلطة السياسية، إلا أن البعض يعجز عن رؤيته، أو بالأصح يتعاجز عن رؤيته. بل إن أحد المتسرعين من الشيوخ قد ذهب به الخيال إلى قول: إن موسى عليه السلام، كان صاحب دولة وحكومة في بني إسرائيل. ولست أدري إذا كان الأمر كما يقول لماذا لم يسمه الله ملكا، كما سمى داوود وسليمان عليهم السلام.! أما إذا كان يعني أن كل شكل من أشكال السلطة على جماعة ما، يعد دولة وحكومة، فإن كل مشائخ القبائل وزعماء الجماعات حينئذ، رؤساء دول ومؤسسي حكومات بما فيهم الأخ حسين بدر الدين الحوثي في صعدة!.


إذن فإن مصطلح دولة أو حكومة لا يطلقان إلا على شكل محدد من أشكال السلطة. فالدولة في المعنى العام تعني مجموع الشعب والإقليم والحكومة، أما في المعنى الخاص فهي تعني السلطة السيادية في المجتمع، ولها ملامحها التنظيمية والتنظيرية المعروفة في الأدبيات السياسية. أشرنا إلى بعضها في سطور سابقة. وهذه الملامح لم تكن متوفرة في سلطة النبي (ص) وزعامته قياساً إلى شروط عصره، فما بالك بشروط عصرنا.