الاثنين، 8 فبراير 2016

فلسفة حقوق الإنسان في الفكرين الغربي والإسلامي (دراسة مقارنة)

تستخدم عبارة حقوق الإنسان (Human Rights) في الأدبيات السياسية والفكرية المعاصرة بدلالتين متداخلتين، الأولى "عامة" تشير إلى مجموعة الحقوق التي يرى منظروها أنها تختص بالإنسان دون غيره من الكائنات لمجرد كونه إنساناً. والأخرى "خاصة" تشير إلى ما يسمى بـ "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م، وما أفضى إليه من معاهدات وبروتوكولات دولية بهذا الشأن. ويمكن تعريف حقوق الإنسان بأنها "حقوق كافة الأفراد، بغض النظر عن الجنس والعرق واللون واللغة والأصل والوطن والعمر والطبقة الاجتماعية أو المعتقدات السياسية أو الدينية بالنسبة للحريات الأساسية والجوهرية"

ويعرفها معجم مصطلحات حقوق الإنسان، بأنها: "حقوق مشتركة بين الناس لا يستأثر بها أحد على سبيل الاستئثار والانفراد، وبذلك، فهي لا تتفق مع المعنى الاصطلاحي الدقيق للحقوق، إلا أنها في نفس الوقت تعطي للأفراد سلطات معينة، يسبغ عليها القانون حمايته من أي اعتداء يقع عليها، ولذلك أطلق عليها كثير من الفقهاء اسم "حقوق"..

و"الحق" في اللغة مفرد حقوق، وهو "الإثبات والإيجاب"، فالحقُّ مصدر من حقَّ الأمرُ حقاً وحقوقاً، أي وجب وثبت، أو صح وصدق. وفي اصطلاح القانونيين هو "ثبوت قيمة معينة لشخص بمقتضى القانون، يكون لهذا الشخص أن يمارس سلطات معينة يكفلها له القانون، بغية تحقيق مصلحة جديرة بالرعاية".

وقد أخذت عبارة "حقوق الإنسان" بعداً دولياً بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عن الأمم المتحدة في العام 1948م. أي بعد نهاية ما يسمى بالحرب العالمية الثانية، التي خلفت من الدمار والمآسي ما دفع بالمجتمع الدولي إلى التفكير بضرورة حماية الإنسان في المستقبل من المظالم والانتهاكات. لكن هذا الإعلان لم يكن الأول من نوعه في التاريخ السياسي، فقد سبقه إعلان جزئي للحقوق صدر عن الجمعية التأسيسية الفرنسية عقب الثورة الفرنسية عام 1789م، ثم أصبح لاحقاً مقدمة للدستور الفرنسي سنة 1791م. وإعلان آخر صدر في وثيقة الاستقلال الأمريكية عام 1776م.

ويعتقد الدارسون بوجود نوعين من المصادر لحقوق الإنسان في الفكر الغربي المعاصر هما المصادر التاريخية، والمصادر الفلسفية. ويمثل المصادر التاريخية التراث السياسي: القانون الإنجليزي من جهة، والتراث الأمريكي من جهة أخرى. أما المصادر الفلسفية فتمثلها فلسفة الحق عند مجموعة من الفلاسفة في القرنين السابع عشر و الثامن عشر، أمثال الإنجليزي جون لوك، والفرنسيان مونتسكيو  وجان جاك روسو.

ويمكن تصنيف حقوق الإنسان - وفقاً لمعيار الفئات - على ثلاث:
الفئة الأولى: هي الحقوق المدنية والسياسية، وتشمل الحق في الحياة، والحرية، واحترام الحياة الخاصة، وحرية التعبير والاجتماع وتكوين الجمعيات والأحزاب، والحق في المحاكمة العادلة، والحق في التنقل.. إلخ.
الفئة الثانية: هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتتطلب تدخلاً من جانب السلطة لكفالتها، وهي الحق في العمل والتأمين الاجتماعي، والحق في التعليم والصحة.. إلخ.
الفئة الثالثة: هي الحقوق الحديثة للإنسان التي اقتضتها تطورات الحياة المعاصرة بحساسيتها الفريدة. ويدخل في نطاق هذه الفئة الحق في بيئة نقية والحق في الهدوء والحق في التنمية.. إلخ.

ولحقوق الإنسان خصائص منها: أنها ترتب أحكاماً في مواجهة شرائح واسعة من البشر، وأشخاص القانون الدولي العام، والمؤسسات على الصعيد الداخلي. هذه الأحكام واجبة التطبيق بعد انضمام الدولة إلى الاتفاقية. ويجب احترام قوانين الاتفاقية. لكنه شرط نسبي لاصطدامه بشرط السيادة، الذي يعد – وفقاً لميثاق الأمم المتحدة – شرطاً متعالياً على الشروط الدولية. والجزاء على انتهاك حقوق الإنسان يأتي عبر مجموعة من التدابير تتخذها بعض التجمعات الاقتصادية أو العسكرية.
"ويعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو الأصل الذي تفرعت عنه كل الحقوق، والتي تم تفصيلها والإضافة إليها، في المعاهدات والاتفاقيات، أو الإعلانات الأخرى اللاحقة، التي صدرت عن الجمعية العامة، أو المجلس الاقتصادي أو الأجهزة المنبثقة عنهما، أو بمساعدتها وتحت رعايتها".

حقوق الإنسان في الفكر الغربي


تتأسس حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي على فكرة "الحق الطبيعي" التي أثرت عن مدرسة الحق الطبيعي في الفلسفة، كما نظّر لها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك. وهي بدورها تستمد وجودها من فكرة القانون الطبيعي، وهو "القانون المستنتج من طبيعة الناس أنفسهم ومن علاقتهم فيما بينهم بعيداً عن أي اتفاق أو تشريع. وبهذا فهو تلك القواعد التي بإمكانها ألا تتمتع بالوجود أو لم توجد في الواقع بالمرة ضمن القانون الوضعي. ولكنها – من جهة أخرى – قواعد يعتقد أنه كان بإمكانها أو – إذا ارتأينا أنها ستكون مفيدة – كان عليها أن توجد". ويتوصل الإنسان إلى معرفة القانون الطبيعي عن طريق العقل الذي يقوم "باستنباط التشريعات الكفيلة بصيانة الحقوق الفردية من القانون الطبيعي الأزلي الذي لا يتغير".

وهناك ترابط عضوي بين فكرة الحق الطبيعي وفكرة الحرية الفردية (الليبرالية) التي هي أساس فكرة الديمقراطية. فالحق الطبيعي في هذه الفلسفة يولد مع الفرد لا مع الجماعة، لأن وجود الفرد سابق على وجود الجماعة ومؤسساتها، ولأن هذه المؤسسات (الدولة تحديداً) ما وجدت إلا لحماية الفرد وصيانة حقوقه، وإن كان الفلاسفة الغربيين - أمثال هوبز ولوك وروسو - لم يتفقوا على طبيعة هذه الحقوق إلا من حيث المبدأ. ويقوم هذا المذهب الليبرالي على أسس هي:
أولاً: الحقوق الطبيعية للأفراد سابقة للوجود السياسي، ولذلك تقع على الدولة مسئولية احترام الحقوق والحريات الفردية.
ثانيا علاج التناقض القائم بين السلطة والحرية، يحسم لصالح الحرية الفردية، وذلك لأن غاية الدولة هي المحافظة عليها.
ثالثا: يتضمن جعل الحرية قاعدة الوجود السياسي، تقييد سلطة الدولة، ومنعها من التعسف بتقييد حرية الفرد.

ولهذا كانت فكرة حقوق الإنسان هي الركن الأول في أركان الديمقراطية الغربية تليها فكرة دولة المؤسسات، ثم فكرة التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية، كما يقول محمد عابد الجابري. وهناك علاقة أخرى خفية بين فكرة الحق الطبيعي وفكرة البقاء للأصلح التي أشاعها داروين في الفكر الغربي. إذ من المعروف أن فكرة الحقوق الفردية تميل إلى استبعاد الدولة وتقييد السلطة لحساب الفرد، وتكتفي منها بدور الحامي لهذه الحقوق، وهو دور سلبي للدولة. ومبرر ذلك في هذه الفلسفة التطورية أن القانون الطبيعي ما هو إلا قانون الصراع بين أطراف القوة والضعف، وعادة ما ينتهي لصالح الأقوى / الأصلح، وينبغي احترام هذا القانون. وقد نشأ المذهب الرأسمالي الغربي على هدي هذه الفلسفة الداروينية أيضاً.

لقد اتفقت المدرستان الغربيتان، الرأسمالية والاشتراكية، على مبدأ الحق الطبيعي، إلا أن الأخيرة جنحت لتغليب حق الجماعة على حق الفرد. ولهذا يعد "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" أثراً من آثار المدرسة الديمقراطية الليبرالية، في حين يعد "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" أثراً من آثار المدرسة اليسارية الاشتراكية. منذ ما كان يسمى بالحرب الباردة بين المعسكرين الغربيين. "وقد عكست المناقشات التي دارت على ساحة الأمم المتحدة حول القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان صراعاً أيديولوجياً واضحاً بين ممثلي هذه الموجات أو الأجيال المتعاقبة من الحقوق. فقد طالبت الدول الليبرالية بتركيز جهد ونشاط الأمم المتحدة على بلورة وحماية الحقوق المدنية والسياسية. والدول الاشتراكية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ودول العالم الثالث على حقوق الشعوب، والعديد من المنظمات الدولية غير الحكومية على حقوق التضامن أو الحقوق المترتبة على المصير المشترك للبشرية".

إلا أن فجر هذه الحقوق يبدأ – من وجهة نظر الكاتب – من لحظة زمنية متقدمة على هذا كله في التاريخ الغربي. هي تلك اللحظة التي تجاوز فيها الإنسان الأوروبي عصوره الوسطى حيث كانت الكنيسة تحكم، وتضطهد الإنسان، باسم الله. فقد أعقب هذا العصر الوسيط عصر النهضة الأوروبية، الذي كان من أبرز معالمه ظهور النزعة الإنسانية (Humanism) "التي كانت ثاني العوامل الكبرى المؤثرة في هذه الفترة" بعد حركة النهضة الإيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما يقول برتراند راسل في كتابه حكمة الغرب. صحيح أن التأثير المباشر لهذه النزعة قد اقتصر على المفكرين والباحثين، إلا أن شيوعها في وسط النخبة المثقفة هو الذي حرض فلاسفة عصر التنوير بعد ذلك، من أمثال جان جاك روسو، على التنظير المبكر للحقوق والحريات، وتوطين هذه المفاهيم في العقل الجمعي الغربي.


نقد حقوق الإنسان في الفكر الغربي:



على الرغم من الأهمية الكبرى لإعلانات حقوق الإنسان التي ظهرت في العصر الحديث، سواء تلك التي صدرت عن الأمم المتحدة أو تلك التي صدرت عن الثورتين الفرنسية والأمريكية، إلا أن هذه الإعلانات لم تسلم من النقد أو الرفض – إجمالاً أو تفصيلاً - من قبل دول وفعاليات شتى، بدوافع عديدة، سنتطرق لأبرزها في هذه الدراسة.

لقد كان أبرز تلك النقود القول بأن هذه الحقوق - كما صيغت في الإعلانات والعهود الدولية - تصدر عن ثوابت الثقافة الأوروبية وتعكس خصوصية هذه الثقافة، وهو ما ينفي دعوى العالمية التي تتصف بها. كما أخذ على جملة هذه الحقوق أو الحريات "بأنها شكلية أو سلبية تعطي الإنسان إمكانات نظرية دون أن تمكنه من وسائل بلوغها أو تحميه من القهر. من حقه أن يفكر ويعبر ويمتلك، ويتنقل، ولكن أنى له ذلك طالما أن الثقافة والثروة والسلطة تحتازها فئة محددة من المواطنين المساوين له نظرياً في تلك الحقوق".

وهناك من يرى أن تعدد مفاهيم حقوق الإنسان عند الفلاسفة الغربيين، وتقديمها بدون مبرر مشروع كحقوق للإنسان، قد يؤدي "إلى إفراغ حقوق الإنسان من كل مضمون: ألم تتم المطالبة – باسم حقوق الإنسان – بحق السائق في عدم استعمال حزام الوقاية؟.
ويعتقد أصحاب هذا النقد أن تطرف منظري حقوق الإنسان يعطي الشرعية للنقد الكلاسيكي، من طرف المدرسة التحليلية الإنجليزية، التي لا ترى في خطاب حقوق الإنسان إلا ملفوظات "ميتافيزيقية" لا معنى لها. كما أن هناك مشكلاً آخر – عند هذا الفريق - تطرحه المطالبة بحقوق الإنسان "هو - وبكل غرابة – تدعيم سلطة الدولة تجاه الأفراد... فكلما تمت المطالبة أكثر بالحقوق الاجتماعية، والتي لا يمكن أن تلبى إلا من طرف الدولة، فإن تبعية الأفراد تتعاظم تجاهها".

أما أهم ما يمكن أن يوجه من نقد لفكرة حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي فهو ذلك الذي يمس مبادئها الفلسفية. لقد مضى معنا أنها تستند إلى مبدأ "الحق الطبيعي" الذي يفسر بفكرة "القانون الطبيعي"، هذا الذي يستنبطه العقل من طبيعة الإنسان والأشياء، "حيث يظهر تهافت هذا المفهوم تنظيراً وواقعاً. فمن حيث التنظير نجد أن جعل الحقوق الإنسانية تستند إلى الطبيعة والعقل، قد يؤدي إلى انتفاء الحقوق الإنسانية أصلاً، بقيام حركة فكرية تنفي وجود حقوق طبيعية ثابتة، ويؤكد هذا وجود تيارات فكرية نادت بإرساء قاعدة البقاء للأصلح، كما فعلت الداروينية، والمدارس التي تركز على "السلوك الفطري" للإنسان، والتي تدعي أن بعض البشر عدوانيون بطبعهم، وبذلك لا توجد مساواة طبيعية تعطي كل إنسان نفس الحق".

ويركز الاستاذ جمال البنا نظره على قيمة العدل فيقول: "إن الفكر الأوروبي لم يعتن بنظرية العدل طوال تاريخه، وأن التطبيقات المعاصرة التي تحقق بعض وجوه العدالة في المجتمع الغربي لم تأت من استلهام نظرية العدل في الفكر الغربي، بل لعلها جاءت من قيمة أخرى عندهم هي "القوة". ولعل هذا هو سرّ شعارهم: الحقوق تؤخذ ولا تعطى".


فلسفة حقوق الإنسان في الدين والفكر الإسلاميين:


لقد درج كاتب هذه الدراسة على التمييز بين مفهومين متداخلين يقع بينهما خلط كبير في أذهان الناس، هما مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني (تحديداً: مفهوم الإسلام ومفهوم الفكر الإسلامي). على اعتبار أن الإسلام – من حيث مصدريته – هو فقط ذلك النص الموحى به إلى النبي محمد (ص) ويمثله القرآن الكريم وحده لا شريك له، وأن الفكر الإسلامي هو كل ما ينتجه العقل في مقاربته لهذا النص. والفصل بين مفهومي الإسلام والفكر الإسلامي ليس بدعاً من الأمر، بل هو رأي فقهاء المؤسسة الدينية النابهين، من أمثال الفقيه المعاصر الشيخ محمد الغزالي الذي ينقل عن شيخه محمد البهي قوله: "إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه، والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه من".
وهذا التعريف يخرج من دائرة الدين كل ما نسب إلى النبي (ص) من الروايات الحديثية، لأنها – على الأقل - ليست من السنن الثابتة. كما يخرج منها – من باب الأولى – كل منتجات الفقهاء في الماضي والحاضر والمستقبل.

كانت هذه مقدمة ضرورية للتمييز بين ما ينسب إلى الإسلام الدين وما ينسب إلى الإسلام الفكر. وهو التمييز الذي ستتضح أبعاده وآثاره في السطور القادمة. فماذا عن فلسفة الإسلام الدين في حقوق الإنسان؟
إن المبدأ الذي ينطلق منه الإسلام في فلسفة حقوق الإنسان هو مبدأ الكرامة الإنسانية: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء 70). وهو مبدأ متعالٍ على المنطق المادي الطبيعي الخالص. لأن الطبيعة لا تستطيع أن تمنح الإنسان هذا الوصف من ذات نفسها، إذ لا مبرر – على مستوى الطبيعة – لجعل الإنسان كائناً يستحق هذا الوصف.

والميزة الكامنة في هذا المبدأ هي أنه – عند من يؤمن به – لا يمنح الإنسان منزلة أعلى من تلك المنزلة التي تمنحها له فكرة "الحق الطبيعي" وحسب، وإنما هو يرفع الحق إلى مستوى الفرض. ويظهر الفرق بين المعنيين في عدد من الوجوه، أبرزها أن من حق الإنسان - وفقا للمنظور الطبيعي - أن يتنازل عن حقه متى شاء، كأن يتنازل عن حقه في الحياة بالانتحار أو الهلكة، وهو ما لا يسمح به الإسلام، الذي يرى أن هذا الحق ليس للإنسان، وإنما هو لواهب الحياة نفسها (الله).

كما أن تعالي هذا المبدأ عن منطق الطبيعة المادية يمنحه – عند من يؤمن به – حصانة تجاه أي محاولة بشرية تستهدف إنكار أو انتقاص حقوق الإنسان، كما حدث من قبل فلاسفة أوروبيين كباراً ممن تبنى المذهب المادي في الفلسفة. "ويبدو من المؤثر حقاً أن نرى، حين نفحص موقف كبار الفلاسفة تجاه حقوق الإنسان، أن البعض منهم فقط هم الذين أقروها، وبعد إقرارهم لها دافعوا عنها. وبدون أدنى شك فإن هذا يرجع إلى كون فكرة حقوق الإنسان ذاتها ليست عقيدة مؤسسة على العقل، فبمجرد ما نفكر فيها، تظهر أوجه نقصها بل وتناقضها... وذلك انطلاقاً من كونها نتجت عما يسميه "بسكال" بالقلب والإحساس أكثر مما نتجت عن التفكير العقلي. وكما لاحظ ذلك د. آرون فإن حقوق الإنسان تأسست انطلاقاً من تصور ديني عن الشخص، وانطلاقاً كذلك من تصور إنساني عن الوعي الفردي".

يقول الأستاذ جمال البنا: "قد يقول قائل وما الفرق إذن بين الإسلام والنظم الغربية؟ فنقول إن الفرق أمران: الأول: أننا لا نجد في الفلسفات الأوروبية بدءاً من فلاسفة أثينا حتى فلاسفة العصر الحديث اعترافاً بحقوق الإنسان قاطبة ودون تمييز، أي الإنسان الأسود في أدغال أفريقيا أو المهجن في أحراش البرازيل أو الأصفر في الهند والصين، أو الهنود الحمر، الأصحاب الأصليين للأرض الأمريكية، إننا لا نجد مثل هذا الاعتراف لدى أرسطو وفلاسفة أثينا، وفلاسفة روما حتى مشارف العصر الحديث".
ثم يورد الأستاذ البنا فقرة من كلام لواحد من أشهر منظري القانون في العصر الحديث، هو الفرنسي مونتسكيو، ليدلل بها على عدم تأصل فكرة الحقوق في الذهنية الأوروبية. حيث جاء في كتابه (روح القوانين): "إذا طلب مني أن أدافع عن حقنا المكتسب لاتخاذ الزنوج عبيداً فإني أقول إن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم تر بداً من أن تستعبد شعوب أفريقيا لكي تستخدمها في استغلال كل هذه الأقطار الفسيحة. والشعوب المذكورة ما هي إلا جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمة الرأس، وأنفها أفطس فطساً شنيعاً، بحيث يكاد يكون من المستحيل أن نرثي لها، ولا يمكن للمرء أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى– وهو ذو الحكمة السامية – قد وضع روحاً – وعلى الأخص روحاً طيبة – في جسم حالك السواد".

ويخلص البنا بعد استعراض لطبيعة الذهنية الغربية وتاريخها السياسي تجاه حقوق الإنسان إلى القول: "يتضح من هذا الاستعراض أن "التنظير الأوروبي" والنظم الأوروبية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية كانت من أقدم العهود ولا تزال حتى الآن عنصرية تضاد ما يذهب إليه إعلان حقوق الإنسان من مساواة ومن كفالة للحقوق الاقتصادية والسياسية.. إلخ. في مقابل هذا نجد أن الفلسفة الإسلامية التي يعرضها القرآن وأقوال الرسول وخطب الخلفاء الراشدين، كلها تقوم على المساواة بين البشر وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ونجد النص على كل الحريات التي أوردها إعلان حقوق الإنسان.

ذكرنا فيما سبق أن المبدأ الذي تستند إليه فلسفة حقوق الإنسان في الإسلام هو مبدأ الكرامة الإنسانية، ومصدر هذا المبدأ هو الله العلي نفسه، وأن تعالي هذا المصدر يلزم المؤمنين بطاعته دون شرط أو قيد. والقرآن حين يفعل ذلك فإنه لا يدير ظهره للعقل ويتركه في حيرة السؤال عن سرّ هذا التكريم، بل يبادر إلى طرح السؤال والإجابة في مشهد تمثيلي واقعي هو من أعمق المشاهد وأعظمها في تاريخ النصوص كلها. أعني مشهد الملائكة وهي تحاور الله العلي بخصوص هذا الكائن الجديد المسمى "آدم":
·        الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
·        الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.
·        الله للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ).
·        الله للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
·        الملائكة: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
·        الله لآدم: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ.
·        الله للملائكة: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
·        الله للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
·        الله لآدم: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ.
·        الله لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ.
·        إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
·        الله لإبليس: اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ.
·        إبليس: أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
·        الله: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ.
·        إبليس: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ.
·        الله: اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ.
·        الله لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ.

إن هذا المشهد الحي بكل عناصر الإبهار الفنية التي تكتنفه، لا يخاطب الوجدان وحسب، وإنما يحرض العقل أيضاً على استكناه سرّ التكريم الإلهي للإنسان. ويجسد المشهد منطقين متقابلين هما المنطق الإلهي الذي يجعل "العلم" معياراً للتكريم (إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)، ومنطق الشيطان الذي يجعل "العنصر" معياراً للتكريم (خلقتني من نار وخلقته من طين). وينتهي القرآن إلى إقرار معيار العلم، ليس على مستوى الإنسان وغيره من الكائنات المخلوقة وحسب، بل على مستوى الإنسان وأخيه الإنسان أيضاً، حيث يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾. (الزمر9)

إن "العلم" – بمعاناه التكويني لا الكسبي - هو معيار التكريم الإلهي العام للإنسان في المنظور الإسلامي، ثم تأتي مفاهيم أخرى كسبية مثل: الإيمان، والتقوى، واكتساب المعرفة، والعمل الصالح، لتكون معايير عملية للخيرية عند الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة 7). وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. (الحجرات 13). ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولي الألباب﴾. (الزمر 9).

وثمرة هذا التمييز بين ما هو تكويني وما هو كسبي هو أن الناس لا يتفاضلون في أساس الكرامة، لأنها ثابت تكويني يتساوى فيه البشر جميعا دون قيد أو شرط، وإنما يتفاضلون بعد ذلك في مراتب هذه الكرامة عند الله، حسب المعايير الكسبية المترتبة على حرية الإرادة. وهذا معنى قول العلامة عبد الله دراز إن نظام الأخلاق في الإسلام يقوم على مبدأ "حرية الإرادة"!.

وحين ترد كلمات التفضيل في بعض آيات القرآن الكريم بين فرد وفرد، أو بين جماعة وأخرى، فإنما تفيد معنى آخر محايد غير معني التكريم والخيرية، يجمعها قوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء 21). فتفضيل بعض الناس على بعض، أو تفضيل بعض الأنبياء على بعض (البقرة 253) لا يعني أنه منحهم كرامة زائدة على كرامة الآخرين، ولا أن كل معاني التفضيل تعني زيادة في الخيرية، وإنما تعني أن لدى كل إنسان ميزة تفضله عن غيره، وأن الله قد وزع هذه الميزات على الناس جميعاً. بحيث يكون كل فردٍ منهم فاضلاً في شيء ومفضولاً في غيره. وبحيث يكون لدى بعضهم من الفضائل أكثر مما لدى غيره، وذلك في سبيل تحقيق التكامل الإنساني، أو بعبارة أدق "تحقيق التخادم الإنساني"، الذي به يستمر وجود الظاهرة الإنسانية.

ليس هناك ما يخدش سلامة هذه النظرية في القرآن الكريم، أو يشغب عليها، سوى ما قد يظنه البعض من أن فكرة النبوة تخرم هذه القاعدة. إذ أن النبوة – عند من يؤمن بها – تأتي عن طريق الاصطفاء الإلهي لا عن طريق الكسب الذاتي. والحق أن هذه الشبهة – على وجاهتها الظاهرة – لا تستطيع الصمود إلى النهاية، إذا ما تذكرنا الأمور الثلاثة الآتية:
الأول: أن النبوة حالة استثنائية، والاستثناء لا يلغي القاعدة بل يؤكدها. ولهذا يفرق العارفون بين القاعدة والقانون، فيقولون إن القاعدة هي التي تقبل الاستثناء، أما القانون فهو مطرد لا يقبل الاستثناء.
الثاني: أن عبارة "النبوة ليست كسباً" غير مسلّمٍ بها عند جميع فقهاء المسلمين. فقد وجد من الفرق الإسلامية المعتبرة من يرى أن النبوة تبدأ كسباً من الذات وتنتهي اصطفاء من الله سبحانه وتعالى. وربما جاء اصطفاء الأنبياء لعوامل "قدرية" – ليست كسبية خالصة ولا تكوينية خالصة - كتلك التي أشار إليها عباس العقاد في كتابه "إبراهيم أبو الأنبياء"، حيث تحدث عن دور الوسطية الجغرافية في اختيار سلسلة النبوات السامية لحمل الرسالة السماوية في موجتها الأخيرة.
الثالث: بالنظر إلى مفهوم الاصطفاء في القرآن الكريم يتبين لنا أن الاصطفاء (وهو الاختيار لمهمة جليلة) لا يقوم في كل أحواله على معايير الخير وفقاً لنظرية الأخلاق الدينية، فقد يصطفي الله راعياً بسيطاً من بني إسرائيل ليصبح ملكاً عليهم (طالوت) مع حضور نبيين من أنبيائهم هما صموئيل وداود، كانا أحق منه بالملك وفقا لمعايير الخير. إلا أن الوحي قد خيب توقعات المتدينين التقليديين، كما خيب توقعات بني إسرائيل آنذاك بمعاييرهم الجاهلية، التي تعتقد أن أحق الناس بالملك هو أفخمهم نسباً وأكثرهم مالاً، وجعل معيار الكفاءة هو الفيصل لعلهم يعقلون، قال تعالى: "قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم" (البقرة 47). إنه العلم مرة أخرى.

إن مبدأ الكرامة هذا هو الأصل الذي تنبثق منه حقوق الإنسان في الإسلام. وهو ليس حقاً طبيعياً يمكن استنباطه بالعقل كما تقول النظرية المادية، وإنما هو منحة الدين للإنسان، وذلك فضل للدين على العقل لا جدال فيه. بدليل أن العقل نفسه قد دفع بعض الفلاسفة إلى القول بعدم وجود حقوق طبيعية للإنسان، وأنها مجرد خرافة ميتافيزيقية صنعها الإنسان لنفسه، وأن منطق القانون الطبيعي يقول إن "الإنسان ذئب لأخية الإنسان" وفق تعبير هوبز، وأن الصراع على البقاء هو القانون الطبيعي الأصيل، وأن هذا الصراع لا يقوم على مبدأ المساواة، وإنما يقوم على مبدأ البقاء للأقوى، ومن ثم فإن القانون الطبيعي هو قانون الغلبة لا قانون المساواة!.


 نقد فلسفة الحقوق في الإسلام:


لم تسلم النظرية الإسلامية – في صيغتها التقليدية تحديداً -  من سهام النقد التي وجهها إليها كثير من مثقفي العصر الحديث، سواء من مثقفي الغرب أو من حاملي الثقافة الغربية في البلدان الإسلامية. وقد كان معظم ذلك النقد موجهاً لموقفها من حقوق الإنسان على وجه الخصوص، (تحديداً حق الحرية وحق المساواة، وما يتفرع عنهما من حقوق). والحقيقة أن دوافع ذلك النقد قد تراوحت بين التعصب حيناً والجهل أحياناً أخرى. وسنكتشف في السطور القادمة أن مشكلتي الجهل والتعصب لا تخصان خصوم الإسلام وحدهم، بل هي مشكلة بعض المسلمين أيضاً، وفي مقدمتهم المؤسسة العلمية الإسلامية، ممثلة في رجال الفقه التقليديين.

من أبرز ما أخذ على الإسلام في هذا الصدد موقفه من الحريات العامة مثل حرية الاعتقاد وحرية التعبير. وموقفه من حق المساواة فيما يتعلق بالمرأة تحديداً ومساواتها بالرجل في جوانب متعددة، أو مساواة المسلم بغيره من أهل الملل الأخرى في دار الإسلام. فالإسلام – من وجهة نظر هذا الفريق – يعطل حق حرية الاعتقاد بحد الردة، ويعطل حق حرية التعبير بمبررات درء الفتنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجني على حق المرأة في مساواتها بالرجل في الميراث والشهادة حين يقضي بتنصيفهما، ويجني على حقها في الولايات العامة بمقولة "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وبجعل القوامة من حق الرجل دون المرأة، وغير ذلك من المشكلات المثارة في وجه الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل لهذه الدعاوى والاعتراضات نصيب من الصحة؟ إلى أي مدى؟

وقبل البدء في الإجابة على هذا السؤال، ومناقشة هذه المشكلات، لا بد من الإشارة إلى مقدمتين:
الأولى: التذكير بضرورة الفصل بين مفهومين اثنين اشتبه أمرهما على كثير من المختصين فضلاً عن العوام، ألا وهما، مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني، وبلغة أدق مفهوم الإسلام ومفهوم الفكر الإسلامي. على اعتبار أن الإسلام هو – فقط – ذلك النص الموحى به إلى النبي محمد بصورة قطعية الثبوت والحجية (ص)، وما دل عليه النص من أعمال قطعية الثبوت لها أصل في نص الوحي. وأن الفكر الديني هو ما نشأ حول هذا النص من مفاهيم وتصورات واجتهادات من زمن النبي محمد (ص) إلى يومنا هذا.
والأخرى: أن الإسلام ما زال يفتقر إلى فلسفة نظرية عامة متفق عليها بين فقهاء الدين، يمكن الرجوع إليها في تكوين النموذج الإدراكي والنموذج التحليلي للمسلم المعاصر. وأهم مبحث في مباحث هذه الفلسفة هو مبحث نظرية المعرفة الإسلامية، التي من واجبها أن تجيب عن أسئلة المعرفة الأساسية: ما طبيعة المعرفة وحدودها وكيفياتها، من وجهة نظر الإسلام؟ ومعظم الجهود التي بذلت في هذا الصدد من قبل مفكرين ومثقفين معاصرين ما زالت دون مستوى الطموح. إما لأنها بنيت على أساس الخلط بين الدين والفكر الديني، وإما لأنها لا تتمتع بالعمق والشمول الكافيين، نتيجة لضعف الملكة الفلسفية لدى معظم كتابها.
 واستناداً إلى هاتين المقدمتين يمكننا القول إن بعض الشبهات الواردة على الإسلام في جانب الحقوق والحريات قد حملت خطئاً على الإسلام في حين كان ينبغي أن تحمل على الفكر الإسلامي. لأن الإسلام (الدين) بريء منها تماماً، إما لأنها ليست جزءاً من نصوصه وإما لأنها فهم بشري قاصر لبعض هذه النصوص، ومن ثم ينبغي حملها على الفكر الإسلامي. ولا يجوز أن نحمل الإسلام حكماً من الأحكام – بالسلب أو بالإيجاب -  إلا بنص قطعي الحجية والثبوت والدلالة.

ذلك فيما يخص بعض هذه الشبهات والدعاوى، أما بعضها الثالث فله نصيب من الحقيقة من حيث نسبته إلى الإسلام، لولا أنه يخضع لفلسفة الإسلام نفسها، والجدل حينئذٍ ينبغي أن يكون بين فلسفة الإسلام من جهة والفلسفة الوضعية من جهة أخرى، لا بين عنصر من هنا وعنصر من هناك. لأن العناصر ذات الطابع العضوي – كالتي بين أيدينا - لا يمكن تفسيرها أو تبريرها بوضوح إلا في نسقها الفلسفي، والقياس الواجب حينئذٍ ينبغي أن يكون قياساً كلياً بين الأنساق والفلسفات، لا قياساً جزئياً بين العناصر المكونة لهذه الأنساق بصورة منفردة. لأن الحكم على عنصر منفرد هنا أو هناك هو حكم نسبي مفرط في النسبية، فالطبيعة الديناميكية للحياة والأشياء تعلمنا أن الشيء جيدٌ من حيث كذا أو نسبة إلى كذا، وليس على الإطلاق.

من تلك القضايا التي حملت على الإسلام وكان ينبغي أن تحمل على الفكر الإسلامي، قضية حد الردة، وقضية حرية التعبير، ومنع المرأة من تولي منصب الولاية العامة، وتنصيف ديتها من دية الرجل، وبعض ما يتعلق بموقف المسلمين من غير المسلمين، وغير ذلك من القضايا التي لا مجال لذكرها تفصيلاً هنا، وإن كنا سنأتي على ذكر قواعد عامة تسري عليها. أما القضايا التي لها أصل في القرآن الكريم وتعرضت لفهم قاصرٍ - سواء من جهة المسلمين أو من جهة خصوم الإسلام – فمنها: قضية تنصيف ميراث المرأة، وتنصيف شهادتها، على النصف من ميراث وشهادة الرجل. وكذلك السماح للرجل بضربها عند النشوز، وحرمانها من القوامة على الأسرة لمجرد كونها أنثى.

ولأن هذه الدراسة الموجزة لا تتسع للمناقشة التفصيلية لهذه المشكلات فسنكتفي بذكر الخطوط العامة والمعاني الإجمالية في الجواب، مع الإشارة إلى التفاصيل في مضانها الخارجية. وأول ما ينبغي الوقوف أمامه من هذه القضايا هو القضية المعروفة بـ "حد الردة" في الشريعة الإسلامية. ويقصد به تلك العقوبة التي أوجبها جمهور فقهاء المسلمين على من بدل بالإسلام ديناً آخر أو ألحد. وقد استند الجمهور (هامش 28) في تقرير شرعية هذه العقوبة على نصوص منسوبة إلى النبي (ص)، مثل الحديث الذي يقول "من بدل دينه فاقتلوه"، ومثل حديث "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...التارك لدينه، المفارق للجماعة". وقد وجد بين علماء المسلمين – وخاصة من المحدثين – من يرفض هذه العقوبة، ويفند حججها النقلية والعقلية، ويعدها مخالفة للنص القرآني الصريح القائل "لا إكراه في الدين"

وهناك أكثر من مدخل لنقض شرعية هذه العقوبة، منها تفنيد دعوى التواتر المزعوم للروايات المنسوبة إلى النبي بخصوص عقوبة المرتد عن الإسلام، باعتبار أن التواتر الحقيقي هو نقل الكافة عن الكافة في كل جيل، منذ جيل النبي محمد (ص) إلى الجيل الحاضر، وهو ما لا يمكن توفره للروايات المشار إليها، ولا لأي رواية أخرى منسوبة إلى النبي (ص)، إذا ما علمنا أن مجمل الحديث النبوي قد نقل بروايات الآحاد، التي لا تفيد إلا الظن العلمي عند أغلب المسلمين. وقد أنكر كثير من الفقهاء دعوى وجود روايات متواترة عن النبي خارج القرآن الكريم .

ومدخل آخر في تفنيد هذه الدعوى المزعومة هو المدخل الأصولي الذي يبطل حجة المثبتين للعقوبة في تخصيص آية "لا إكراه في الدين". فبعد أن وجد القوم أنفسهم في حالة حرج بين تناقض الأحاديث المنسوبة إلى النبي في هذا الشأن وبين الآية الصريحة في تقرير حرية الاعتقاد، ذهبوا يبحثون عن مخرج فقهي يزيل هذا التناقض، وقد وجدوه في آلية التخصيص، الذي يعد شكلاً من أشكال النسخ والتعطيل. وكانت المهمة أمامهم عسيرة من الناحية العلمية لأن الآية من "ألفاظ العموم" التي يستغرق الحكم فيها كل أفرادها، كما تقول القاعدة اللغوية. أي أن حكم المنع يسري على جميع أنواع الإكراه، سواء الإكراه على اعتناق الدين أو الإكراه على مغادرته أو الإكراه على البقاء فيه. وقد سلم الشيوخ بالنوعين الأولين ولم يسلموا بالنوع الثالث، إنقاذاً لشرف الروايات الحديثية. ولجأوا إلى حيلة طريفة تقول: إن استقراء النصوص الشرعية قد دل على جواز تخصيص ألفاظ العموم، مما يجعل الآية ظنية الدلالة على أفرادها، وبما أن الحديث قطعي الدلالة والآية ظنية الدلالة على أفرادها فقد وجب تخصيص الآية بالحديث.

ووجه الحيلة في هذا الاستدلال أنهم قعدوا قاعدة لغوية من خلال استقراء النصوص الشرعية، لا من خلال استقراء النصوص اللغوية. ومن المعلوم أن النصوص الشرعية تعد جزءاً من النصوص اللغوية لا كل نصوص اللغة، ومن ثم فهو استقراء ناقص ومردود. فما بالك إذا علمت أن جزءاً كبيراً مما يعدونه نصوصاً شرعية - وهو الحديث المنسوب إلى النبي (ص) - قد استبعد تماماً من مجال التقعيد اللغوي من قبل علماء اللسان العربي أنفسهم طوال القرون الستة الأولى.

وأخيراً فإن للمدرسة التي تنسب إلى القرآن (القرآنيون) مدخلاً آخر أكثر نجاعة وحسماً؛ حيث تذهب إلى استبعاد الروايات الحديثية من دائرة الشرع برمته. لأن هذه الروايات تعد عندهم جزءاً من السيرة النبوية – إن صحت – لا جزءاً من الرسالة التي كلف النبي (ص) بإبلاغها للناس. وعلى كل حال فإن شبهات كثيرة عقلية ونقلية تحوم حول هذه العقوبة مما يجعلها في أدنى الأحوال محلاً للظن والريب. وينبغي الترجيح هنا بالقاعدة القضائية التي تقول: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
فإذا كان هذا هو حال القضية الأكثر شهرة، والمزعوم لها التواتر، فما بالك بما دونها من القضايا التي وردت بروايات أحادية، أو محكوم عليها بالضعف عند المحدثين.

ذلك مثلٌ على شبهة حُملت على الإسلام وكان ينبغي أن تُحمل على الفكر الإسلامي، لأنها من خارج أسوار النص القطعي (القرآن الكريم). أما ما حمل على الإسلام بإساءة فهم، وله أصل في القرآن الكريم، فمثل اعتقاد غالبية المسلمين بأن شهادة المرأة أمام القضاء ينبغي أن تكون على النصف من شهادة الرجل. وأصل هذه الشبهة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (البقرة 282).

والحقيقة التي فطن إليها الفقيه السلفي ابن القيم هي أن المقصود بالاستشهاد في الآية هو "الإشهاد" على العقد حال كتابته، لا الشهادة أمام القاضي. لأن هذا الأخير غير ملزم بعدد محدد من الشهود في القضاء، وله أن يحكم بالقرائن التي يطمئن إليها. ومضاعفة عدد الشهداء من النساء في هذه المسألة له فلسفته؛ فالقضية المطلوب حضورها هي في باب التجارة، ومعظم النساء آنذاك ليس لهن خلاق بهذه المهنة، ومن ثم فإنهن أكثر تعرضاً لنسيان التفاصيل المتعلقة بموضوعاتها، وهذه قاعدة لا تخص النساء وحدهن، بل تسري على كل شخص في ما ليس من اهتمامه.

أما ما حمل على الإسلام من شبهات حقوقية بنص صريح من القرآن الكريم، ولا يكتفى في فهمه بدلالة عبارته، بل بفلسفته التي بني عليها، فمثل مسألة تنصيف ميراث المرأة على النصف من ميراث الرجل، ومثل مسألة ضرب المرأة الناشز. وقد خضعت هاتان القضيتان على وجه التحديد لنقاش مطول من قبل مفكري الإسلام المعاصرين، وأبلى بعضهم فيها بلاء حسناً ، إلا أن جهودهم - وإن كانت قد كشفت عن الأصول الفلسفية في القرآن لمثل هذه القضايا – لم تستطع بعد أن تضع هذه الأصول في منظومة فلسفية شاملة وعميقة. إذ لا يكفي لدى العقل الفلسفي الحديث أن تكشف له عن فلسفة الشيء وتنسحب، بل هو بحاجة إلى أن تكشف له - فوق ذلك - عن أهمية هذه الفلسفة وقيمتها الثابتة بدراسات مقارنة. وليس شرطاً في ذلك أن تبلغ حد الإقناع والإلزام، وإنما يكفي أن تصل بالمخالف إلى حد الحرج في إنكارها.

إن للإسلام – بلا شك – فلسفته في الكون والحياة، فلسفة يتخلق منها النموذج الإدراكي للإنسان المسلم، الذي يميزه عن غيره من أصحاب الثقافات والأيديولوجيات الوضعية. ومن ملامح هذه الفلسفة أنها تقوم على مبدأ التوازن بين الثنائيات المتجاذبة، فلا تلغي طرفاً لصالح طرف آخر، كما تلغي الأيديولوجيا اليسارية الفرد لصالح الجماعة، أو كما تلغي الأيديولوجيا الليبرالية الجماعة لصالح الفرد. وانطلاقاً من هذا المبدأ فإن "الأسرة" في المنظور الإسلامي هي نواة المجتمع وليس الفرد أو الطبقة. والأسرة ليست مجرد رذاذ متناثر هنا وهناك، بل هي كيان عضوي متماسك له مركز وفلك تدور فيه العناصر الضعيفة حول المركز القوي. ولا شك أن هناك من يرى في هذا التصور رأياً سالباً، ويفضل عليه نماذج اجتماعية أخرى (الليبرالية مثلاً) وقد يقدم بين يدي هذا الرأي بحجج قوية مقنعة للوهلة الأولى، يؤيدها الواقع المتفوق للنموذج الغربي، في مقابل الواقع الرديء للمجتمعات الإسلامية، إلا أن حجاجه لن يصمد طويلاً أمام التحليل الفلسفي العميق لمشكلات المجتمعات العلمانية المعاصرة، تلك المشكلات البنيوية التي أكدها وحذر منها مفكرون غربيون نابهون..

خاتمة:

والآن، ترى ما هو الموقف الموضوعي السديد الذي ينبغي أن نقفه مما يسمى بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان؟ ولماذا؟
الجواب على هذا السؤال يتحدد بالجواب على سؤالين سابقين في الوجود عليه هما: هل حقوق الإنسان - بإعلاناتها الدولية المعروفة اليوم – ذات طبيعة عالمية (شمولية) أم أنها ذات طبيعة خاصة بثقافة معينة؟. وهل هذه الحقوق وفلسفتها تتعارض مع حقوق الإنسان وفلسفتها في الإسلام؟ إلى أي مدى؟
في الطريق إلى الإجابة عن الأسئلة الماضية، لا بد من الإقرار ببعض الحقائق التي لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر، وهي:
1. أن الخصوصيات الثقافية - مهما تباينت درجات خصوصيتها - ليست جزراً منفصلة عن المحيط الإنساني العام، إذ لا بد أن تظل كل ثقافة حاملة لنسبة كبيرة من العناصر المشتركة بينها وبين الثقافات الأخرى، بل إن نسبة المشترك بينها هي الغالبة. ولولا ذلك لما كان للدراسات الإنسانية والاجتماعية أي معنى أو فائدة.
2. أن مساحة المشترك الإنساني بين الثقافات تتسع كلما كانت المرجعية الثقافية أكثر تعالياً وسبقاً للخصوصية الثقافية، مثل مرجعية الدين السماوي، أو مرجعية العقل الطبيعي.
 3. تبدو الثقافة الغربية – بالمعنى السابق - هي أكثر الثقافات الإنسانية المعاصرة ابتعاداً عن الخصوصية واقتراباً من الشمول والعالمية. وذلك بسبب عودتها في تأصيل حقوق الإنسان إلى مرجعية الحق الطبيعي المطابق عندها للعقل الطبيعي، وكلاهما سابق على وجود الثقافة والمجتمع. ولأنها من ناحية أخرى تعد ثورة على ثقافة الغرب نفسه في عصوره الوسطى المظلمة.
4. صحيح أن الدين (الإسلام تحديداً) أكثر تعالياً وأكثر شمولاً وضماناً لحقوق الإنسان من مرجعية العقل الطبيعي، إلا أن الثقافة الإسلامية ليست بمستوى الإسلام نفسه، بسبب ما خالطها من أوهام وأباطيل ينكرها الإسلام نفسه وينكرها العقل، وتعكس الخصوصية العربية أكثر مما تعكس شمولية الإسلام. ولم يبلور المسلمون بعد أطروحة في حقوق الإنسان تعبر عن الإسلام السماوي الحق، الخالي من الإضافات البشرية. فما بالنا ومعظم مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان متفقة مع فلسفة الإسلام حول هذه الحقوق. وهي الحقيقة التي لا ينازع فيها أحد ممن يختلف مع الإعلان العالمي.
5. إن القول بمرجعية العقل الفطري والحق الطبيعي السابق على الثقافة والاجتماع، لا يعد بالضرورة نقيضاً للقول بالمرجعية الإلهية، فقد يكون المقصود بالحق الطبيعي والعقل الطبيعي، الحالة الفطرية التي خلق الله الناس عليها.

وبناء على ما مضى من مقدمات يمكننا القول - في الجواب على السؤال الأول - إن إعلانات حقوق الإنسان الدولية المعاصرة تعد إعلانات عالمية، لا يخدش من عالميتها وجود بعض عناصر أو جراثيم الخصوصية الغربية فيها، أو وقوفها دون مستوى المثال الإسلامي. وذلك لأن المرجعية التي تأسست عليها - وهي الطبيعة والعقل الفطري – أسبق في الوجود من الثقافة نفسها. ولا مناص من أن تحمل هذه المنظومة بعض جراثيم الخصوصية الثقافية، لأنه لا مناص من أن تكون مقترحاً تقدمه إحدى الثقافات الموجودة. وما دام أن المسلمين قد عجزوا عن طرح البديل السماوي، وفرضه على الناس بقوة الحجة والتأثير الثقافي، فليس لعاجز أن يلوم القادرين. انتهى.

الثلاثاء، 2 فبراير 2016

مشكلة الإلحاد والعلم..!


§        عصام القيسي

تشهد العقود الأخيرة موجة جديدة من موجات الإلحاد في المجتمعات الإسلامية، تشبه إلى حد ما تلك التي حدثت في النصف الأول من القرن العشرين، في أوساط المثقفين الذين أصابتهم صدمة الحضارة الغربية الحديثة. في تلك الموجة غمرت مياه الشك قطاعاً واسعاً من المثقفين النابهين، وجرفت بعضهم إلى بحر الإلحاد. فظهرت أسماء كانت لامعة في حينها تعلن شكها وإنكارها الصريح للدين والإله، مثل المفكر السعودي عبد الله القصيمي، الذي بدأ حياته الفكرية بالدفاع عن المذهب الوهابي، وانتهت بسلسلة من كتب الشك والإلحاد. ومثله عالم الرياضيات اسماعيل أدهم الذي أعلن إلحاده في كتاب بعنوان "لماذا أنا ملحد؟"، متأثراً – ربما - بكتاب برتراند راسل "لماذا أنا لست مسيحياً؟". والشاعر العراقي معروف الرصافي صاحب كتاب "الشخصية المحمدية"، الذي اعتبر محمداً أحد الأذكياء المصلحين لا أحد الأنبياء المرسلين. وأبكار السقاف صاحبة كتاب "الدين في شبه الجزيرة العربية"، الذي حملت فيه على النبي محمد بقسوة لم تستطع إخفاءها، حتى جعلت منه قاطع طريق وزير نساء!.

ولا نكاد نجد اسماً لامعاً في مجالي الفكر والأدب – آنذاك – لم يصبه بلل الشك والإنكار. بعض هؤلاء أصبح له فيما بعد صولة وجولة في الدفاع عن الدين والإيمان، كعباس العقاد الذي قال فيه محمد الغزالي إنه أهم من دافع عن الإسلام في العصر الحديث. هذا العقاد نفسه كان في مرحلة متقدمة من حياته يحلف قائلاً "والله الذي لا وجود له"، حسب رواية رجاء النقاش عن مكرم عبيد، زميل العقاد وخصمه في حزب الوفد (1). بل إن أنيس منصور يضعنا في حالة حيرة وشك حينما يخبرنا، في كتابه الشهير "في صالون العقاد"، بأن هذا الأخير كانت تنتابه لحظات شك في المرحلة الأخيرة من حياته، حتى أنه كان يستخف بالوجود قائلاً: أعطوني العجينة الأولى وأنا أصنع لكم كوناً أعظم منه!. وهكذا كان الحال مع طه حسين (2)، وتوفيق الحكيم (3)، وزكي نجيب محمود (4)، ومجمل مثقفي اليسار العربي، من أمثال سلامة موسى ولويس عوض.

قد يميل بعضنا إلى تفسير ظاهرة الإلحاد تفسيراً نفسياً، لكن مهما تكن دوافع الموقف الإلحادي فإنه لا يستغني عن التأصيل العلمي لمقولاته. إذ هو عاجز عن الاكتفاء بمجرد الرفض والإنكار، ومطالب بتفسير الظاهرة الوجودية تفسيراً مناهضاً للتفسير الديني، ومن هنا تأتي حاجته الماسة إلى العلم. بل إن الكثير من الملحدين يظهرون كثيراً من الزهو بأنفسهم والثقة بقناعاتهم. ومصدر ذلك الزهو وتلك الثقة هو الاعتقاد بأن الإلحاد موقف علمي حرّ، يميز عقل صاحبه عن العقل الخرافي للمؤمن الساذج!.

والحق أن الإلحاد قد عاش أزهى أيامه في القرون الميلادية الثلاثة (17، 18 ، 19)، حيث اعتاش على معطيات العلوم الطبيعية والتجريبية لهذه القرون. فقد وجد الإلحاد بغيته في هذه العلوم لأنها كانت تتبنى المنظور المادي، وهو الأساس الفلسفي للإلحاد طوال الوقت. ولم يكن يخطر ببال أحد آنذاك أن يتغير منظور العلم من المنظور المادي المتصالح مع الإلحاد إلى المنظور فوق المادي المتصالح مع الدين. بل إن الكثير من الملحدين لم يدرك بعد هذه النقلة النوعية الخطيرة. لم يدرك أن المنظور العلمي لتلك القرون قد أصبح جزءاً من ماضي العلم وتراثه، وأن منظوراً جديداً قد حل محله بهدوء، منذ أن ظهرت نظرية النسبية لإنشتاين في العام 1905، وما تلاها من نظريات فيزيائية حديثة.

هذا التحول في المنظور العلمي هو الذي شغل كلاً من روبرت أغروس، أستاذ فلسفة العلم الكندي، وجورج ستانسيو، أستاذ الفيزياء النظرية الأمريكي، فأصدرا كتابهما الشائق "العلم في منظوره الجديد". الكتاب الذي وضع ألغاماً كثيرة في جيوب الإلحاد، وكشف عن الكيفية التي هدم بها العلم الحديث أركان المذهب المادي.
جاء في العرض الترويجي للكتاب: إنه بإزاء النظرية المادية للعلم في القرون الثلاثة سالفة الذكر "ظهرت في مطلع القرن العشرين نظرية علمية منافسة، كان من ألمع روادها أينشتاين، وهايزنبرغ، وبور، وغيرهم. وقد أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية، والكوزمولوجيا في هذا القرن على أن المادة ليست أزلية، وأن الكون في تطور وتمدد مستمرين، فدعوا إلى الإيمان بعقل أزلي الوجود يدبر هذا الكون ويرعى شئونه.

ثم جاء جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب من أمثال شرنغتون، وأكلس، وسبري، فخلصوا بعد بحوث مضنية إلى أن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسدٌ فان وروح باقية لا ينالها الفناء، وأن الإدراك والتفكير ليس من صنع المادة، بل يؤثران تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت حركة جديدة في علم النفس، اعترف روادها بالعقل، ورفضوا تفسير السلوك البشري بلغة الدوافع والغرائز الحيوانية، وآمنوا – بدلاً من ذلك – بالقيم الأخلاقية الجمالية، والجوانب الروحية والفكرية والنفسية" (5).

لا شك أن فلاسفة الإلحاد قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة في العلم، إذ في حين كانوا ينتظرون منه أن يعزز مواقفهم ضد الدين إذا به يطعنهم في الظهر ويقلب عليهم الطاولة. لكنهم مع ذلك لم يرفعوا الراية البيضاء، فقد ذهبوا يقللون من أهمية المعطيات التي قدمها علماء الفيزياء تحديداً، قائلين إنها لا تكفي في الدلالة على ما يطلبه المؤمنون. فحتى لو سلمنا بأن الكون حادث طارئ لم يكن له وجود قبل حوالي 13,7 مليار سنة كما تقولون، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الذي أوجده هو الله، إذ من المحتمل أن يكون قد تولد عن كون آخر قبله. بل من المحتمل أن يكون قد تولد عن العدم، لأن العدم نفسه "شيء" قديم لا أول له!. وهذه المماحكة ليست جديدة على الخطاب الإلحادي فهي عادة قديمة اضطر معها أحياناً لارتكاب حماقات لو ارتكبها الخطاب الإيماني لجعلوا منها نوادر تروى. مثل تلك الحماقة التي ارتكبها ديفيد هيوم في محاولة لإنقاذ مذهبه المادي من السقوط عندما أنكر وجود علاقة بين السبب والنتيجة!.

إن الموقف الإلحادي يدرك تماماً أن خسارته للذرائع العلمية ستصيبه في مقتل، وهو لذلك يحاول تعزيز نقاط قوته والتقليل من أهمية نقاط القوة لدى الطرف الآخر. وفي هذا السياق تأتي جهود عالم الأيثولوجيا البريطاني ريتشارد دوكنز. الذي يعد منظر الإلحاد الأول في العالم اليوم. وهي راية استلمها من زميل الوطن الفيلسوف والعالم البريطاني أنطوني فلو، بعد أن عاد هذا الأخير إلى حضيرة الإيمان في مفاجأة صادمة للأوساط العلمية قبل سنوات. فقد ظل فلو ينظّر للإلحاد قرابة ستين عاماً قبل أن يقف على منصة أحد المؤتمرات العلمية ليقول: أيها السادة، هناك إله!. وهو ما أثار استياء دوكنز الذي لم يجد تفسيراً لموقف فلو سوى كبر السن والخوف مما بعد الموت، وياله من تفسير علمي رصين!.

إن دوكنز يناضل في سبيل توفير المنطق العلمي الكافي لإثبات صحة الموقف الإلحادي، ولا يقلقه في سبيل ذلك أن يرتكب حماقات علمية كتلك التي ارتكبها في كتابه "وهم الإله" حيث زعم أن المصادفات - وفقاً لنظرية الاحتمالات الرياضية - يمكنها أن تصنع طائرة بوينغ 747، كما يمكنها أن تكتب رواية لشكسبير على يد مجموعة من القردة!. ومثل تلك المحاولة المضنية التي بذلها في كتابه "صانع الساعات الأعمى" لتأكيد نظرية النشوء والارتقاء. وهي النظرية الأساسية التي يتمسك بها الإلحاد في تفسير الحياة على وجه الخصوص. حيث يرى أن التكاثر مع وجود تباين وراثي وانتخاب طبيعي لا عشوائي – إذا أتيح له الزمن الكافي – فإنه يؤدي إلى نتائج تطورية في الحياة هي أبعد من الخيال. والزمن الكافي هنا يعني مليارات السنين التي تقترب من 4 مليار سنة مضت (6).

 وهي محاولة ناجحة بالفعل إذا صح شرطها المذكور، لكن أنى له أن يصح!. فحتى نظرية الاحتمالات الرياضية التي كانت بمثابة الجوكر في يد الإلحاد، لم تقدم لهم سوى خيبة أمل أخرى. ونظرية الاحتمالات (الصدف) كما يقول أحد العلماء الأمريكيين "ليست افتراضاً، وإنما هي نظرية رياضية عليا، وهي تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهي تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الحق والباطل، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين، وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة"(7). فماذا تقول نظرية الاحتمالات الرياضية عن إمكانية حدوث الخلق بالصدفة المحضة يا ترى؟.

في معرض حديثه عن رحلته من الإلحاد إلى الإيمان يقول أنطوني فلو إنه التقى بالعالم جيرالد شرويدر الذي فند له "برهان القردة" القائم على حساب الاحتمالات (8). وهو البرهان الذي تمسك به دوكنز في "وهم الإله". وخلاصة هذا البرهان تقول إنه لو تركنا مجموعة من القردة تضرب على لوحة الحاسوب وقتا كافياً لأمكن لها أن تكتب قصيدة لشكسبير أو رواية من رواياته!. فما كان من شرويدر إلا أن أجرى التجربة بالفعل، فجمع ستة قرود في غرفة واحدة لمدة شهر، بعد أن علمها الضرب على لوحة الحاسوب، فماذا كانت النتيجة؟.. خمسون صفحة مطبوعة، ليس فيها كلمة واحدة صحيحة، حتى لو كانت هذه الكلمة من حرف واحد (أي من حرف قبله مسافة وبعده مسافة)، وعلى ضوء هذه النتيجة أجرى حساب الاحتمالات لكتابة سوناتا شكسبير مكونة من 488 حرفاً بنفس التجربة، فكان احتمال النجاح هو 1 مقسوم على 26 مضروبة في نفسها، أي ما يعادل 10 وعلى يمينها 690 صفراً، وهو رقم مهول لا تكفي فيه جسيمات الكون كله لإجراء هذا العدد من المحاولات، إذ أن عدد جسيمات الكون = 10 وعلى يمينها 80 صفرا فقط. ومعنى ذلك أننا سنحتاج إلى المزيد من الجسيمات بمقدار 10 وعلى يمينها 600 صفر!. أي ضعف الكون الموجود أكثر من سبع مرات.

ليس هذا فحسب، بل إن المختصين قد وضعوا للصدفة قانوناً يضبطها، فحددوا ما يعرف بـ"مقدار الاحتمال الملزم" الذي يستحيل بعده تفسير حدوث أمر ما بالصدفة وحدها، ويبلغ هذا الحد عندهم 1 : 10 وعلى يمينه 150 صفراً (9). وهذا يعني أن احتمال أن تكتب القردة قصيدة لشكسبير من أبعد المستحيلات، فما بالك بتكوين الخلية الحية عن طريق الصدفة المحضة. لقد أحال هذا الطرح "برهان القردة" إلى كومة من النفايات، حسب تعبير أنطوني فلو.

وليست هذه هي المرة الأولى التي جرب فيها حساب الاحتمالات لإثبات استحالة حدوث الخلق عن طريق المصادفة. فقد أجرى عدد من علماء القرن الماضي تجارب مماثلة وانتهوا إلى النتيجة نفسها. منهم الرياضي السويسري الشهير تشارلز بوجين جواي، الذي حاول استخراج المدة الكافية لإيجاد "الجزيء البروتيني" عن طريق المصادفة، والبروفيسور ج. ب. ليتز، الذي أجرى محاولة شبيهة حول سلاسل الأحماض الأمينية المكونة لجزيء البروتين، فكانت النتيجة لديهما هي الاستحالة التامة. كما أكد العالم الفرنسي "الكونت دي نواي" على أن مقادير الوقت، وكمية المادة، والفضاء اللانهائي، التي يتطلبها حدوث مثل هذا الإمكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن. وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، ويرى أن حجم هذه المقادير التي سنحتاج إليها في عمليتنا لا يمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الإنسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث على وجه الصدفة – من النوع الذي ندعيه – سوف نحتاج كوناً يسير الضوء في دائرته ما يعادل 10 وإلى جانبها 82 صفراً من السنين الضوئية!. وبتعبير طريف يقول عالم الأعضاء الأمريكي مارلين كريدر: إن الإمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق عن طريق الصدفة في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من "لا شيء"! (10).

إن هذه النتائج تجعل من المناسب أن نختم هذا المقال بعبارة بيتر كريفت، أستاذ الفلسفة بجامعة بريغر حيث قال: وجود الإله لا يتطلب إيماناً أعمى بلا دليل – كما يزعم الملحدون - الإلحاد هو الذي يتطلب إيماناً أعمى. تحتاج إيماناً أعمى لتؤمن أن كل شيء جاء من لا شيء، لكنك تحتاج عقلاً وفكراً لتؤمن بأن كل شيء جاء من الله!.

هامش:
(1)   : عباس العقاد بين اليمين واليسار – رجاء النقاش.
(2)   : ظهرت علاماته في كتاب: الشعر الجاهلي.
(3)   : حسب شهادته في كتاب: مصر بين عهدين.
(4)   : في كتابه: خرافة الميتافيزيقا.
(5)   : العلم في منظوره الجديد – سلسلة عالم المعرفة.
(6)   : الجديد في الانتخاب الطبيعي – ريتشاردز دوكينز – ت: مصطفى فهمي.
(7)   : الإسلام يتحدى – وحيد الدين خان.
(8)   : رحلة عقل – عمرو شريف.
(9)   : رحلة عقل – عمرو شريف.
(10)  : الإسلام يتحدى – وحيد الدين خان.