الاثنين، 28 ديسمبر 2015

فلسفة الاصطفاء والوسطية


(فقرة من كتاب تحت الطبع بعنوان "الإنجيل الخامس").
عصام القيسي

................... ............. ......... ........... ......... ....... ..........
لم يكن في وسع اللغة ولا في وسع بني إسرائيل آنذاك، استيعاب الفلسفة التي تقف وراء اختيارهم لهذه المهمة من دون الناس، ووراء هذه العناية الإلهية التي رافقتهم منذ ظهور موسى. وكل ما يستطيع عقل بسيط كالعقل الإسرائيلي آنذاك أن يستوعبه هو أن شيئاً ما مميزاً في جيناتهم هو الذي جعلهم أهلاً لهذا الشرف، فلا بد أنهم عرق خاص بين الأعراق، له – بالضرورة – أقداره الخاصة.

ولو أن موسى كان أستاذاً في الفلسفة الحديثة لحدثهم عن الخصائص التاريخية الموضوعية التي جعلتهم – دون غيرهم – محل اختيار الله لهذه المهمة. الخصائص التي كان من السهل أن تتوفر في شعب آخر سواهم لو أنه مر بنفس الظروف والملابسات التي مروا بها. لأخبرهم - مثلاً - أن حكمة الله الحكيم الخبير قد اقتضت أن يصطفي من بين مناطق الجغرافيا منطقة محددة، هي الشرق الأوسط، ومن بين قبائلها قبيلة إبراهيم بن آزر الكلداني، لسبب يتعلق بوسطية هذه القبيلة كما سنبين بعد قليل، وليس لأن سلالة إبراهيم ذات خصوصية عرقية، كما يتصور العقل الساذج، والضمير الشيطاني.

إنها "الوسطية" بأبعادها الجغرافية والنفسية والذهنية والحضارية. وسطية الجغرافيا التي لا بد أن تفرض أنماطاً وسيطة في الحياة العقلية والروحية لقاطنيها. فكما أن لسكان المناطق الباردة خصائصهم النفسية والذهنية المميزة عن خصائص سكان المناطق الحارة، كذلك لسكان المناطق الوسيطة خصائصهم الذهنية والنفسية والثقافية، التي رأى العليم الخبير أنها أصلح لحمل رسالة التوحيد من غيرها و"الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الأنعام 124). وعلى سبيل الاختزال يمكننا القول إن الإنسان الوسيط بين الحضارة والبداءة يمتص أحسن ما في هذين النقيضين، ويدع أسوأ ما فيهما.

 لقد كانت الأقوام السامية في شمال الجزيرة العربية تتمتع بموقع جغرافي متوسط بين عدد من الحضارات المحيطة بها من جهة، وبين قبائل الأعراب البدائيين المنقطعين في مجاهل الصحراء العربية من جهة أخرى. فسومر وبابل والفرس في الشرق، والآشوريون والحثيون في الشمال، والمصريون في الغرب والدويلات اليمنية في الجنوب والبدو والأعراب في الوسط. وفي مقدمة هذه القبائل الوسيطة قبيلة إبراهيم بن آزر الكلداني، التي استوطنت أور كلدان جنوب بلاد الرافدين قرابة العام 1800 ق.م. ويبدو أن الأصول الأولى لهذه القبيلة تعود إلى حران في جنوب تركيا، بدليل رحلاتهم المتكررة إليها من أجل الزواج كما تدل شواهد التوراة. والتوراة نفسها دليل كاف على أن هذه القبيلة لم تستقر طويلاً في أي منطقة سكنتها، ولم تندمج اندماجاً كاملاً في أي مجتمع حضاري نزلت عليه.

لكن على الرغم من كونها قبيلة مترحلة، عابرة للحدود والمجتمعات، إلا أنها لم تكن قبيلة بدائية غارقة في البداوة والسذاجة، فقد ساعدتها الظروف والملابسات على الاحتكاك بالمجتمعين النقيضين من حولها، مجتمع الحضارة ومجتمع البداءة (الأعراب). ولعل اشتغال هذه القبيلة بالتجارة ومرورها بطريق القوافل هو الذي ساعدها على ذلك. ولعله السبب نفسه الذي هيأ مكة فيما بعد لاستقبال الرسالة الخاتمة، ولعل هذا أيضاً هو أحد معاني "لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف". وهنا يحضر السؤال المركزي لهذه الفقرة: ما الخصائص التي تجعل من القبائل الوسيطة أكثر أهلية لحمل رسالة التوحيد من غيرها؟ ولماذا؟.

 إن التحليل المقارن للعقول الثلاثة (المتحضر والوسيط والبدائي) يمكنه أن يضعنا أمام صورة تقريبية لما نريد قوله. فعلى مستوى العقل: يبدو العقل المتحضر آنذاك واقعاً تحت سلطان الأسطورة. والأسطورة بناء ذهني فني ورمزي مركب، لا يقدر على إنتاجه العقل البدائي ولا العقل الوسيط. وفي المقابل هناك العقل البدائي الواقع تحت سلطان الخرافة، وهي بناء ذهني ساذج بسيط، لا يليق بسمو العقل المتحضر، ولا يهيمن على العقل الوسيط هيمنة تفقده اتزانه. ويبدو العقل الوسيط بينهما متحرراً من سلطة هاتين الآفتين اللتين تمنعانه من تصور مفهوم الوحدانية النقي.

وعلى المستوى النفسي والأخلاقي: تبدو السيكولوجيا الوسطية ملائمة أكثر من غيرها لمهمة ثقيلة كمهمة حمل رسالة التوحيد، في عالم يكتظ بالأديان والعقائد الشركية والوثنية. إذ يبدو الإنسان الوسيط أطول نفساً من الإنسان البدائي المتصحر، الذي يتسم بالنزق واستعجال الثمار قبل أوانها. كما أنه يبدو أكثر صلابة في الحفاظ على ميراثه من الإنسان المتحضر، الذي يميل إلى المهادنة والتفاوض والحلول الوسطى بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ويقدم التسعة والتسعين ليكسب المائة.

وقد أشار القرآن إلى مفهوم الوسطية هذا إشارة سريعة لم يلتقطها من مثقفينا – حسب علمي – سوى الأستاذ العقاد. فقد توقف في كتابه الثري "إبراهيم أبو الأنبياء" عند هذا السؤال المهم: "لم اختص الله الأمم السامية بالرسالات النبوية؟ لم لم تظهر هذه الرسالات في الهند أو في الصين أو في القارة الأوروبية؟ لم كانت هذه الرسالات هي الدور الذي تهيأت له أمة واحدة في وسط العالم: أمة وسطا كما نعتها القرآن؟".

ثم شرع العقاد في الإجابة على هذا السؤال في سطور عديدة بدأها بالقول: "تلك أسئلة غامضة تظل على غموضها، حتى ننظر في الأحوال النفسية التي يكون عليها الإنسان بين الحضارة والبداوة، ولا تهيئة لهذه الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد، بل لا بد فيها من التقاء الشعورين وامتزاج المجتمعين، ولم يحدث قط أنهما التقيا وامتزجا على هذا النحو في غير البلاد التي قامت عليها الحضارات الأولى، وظلت زمناً طويلاً جامعة بين الصحراء والمدنية والأقطار المتحضرة، كأنها خلقت للنهوض بهذه الأمانة، ثم نهضت بها ونشرتها في جميع أنحاء العالم، فهي دورها الأكبر بين سائر الأدوار التي توزعتها الأمم والعصور".

ثم يربط العقاد بين الوسطية والاشتغال في التجارة بسؤال أكثر تحديداً هو: لماذا كانت مدن القوافل أو المدن القريبة من الصحراء، أصلح البلاد للرسالة النبوية؟" ويقدم بين يدي الإجابة المفصلة إجابة مختصرة تقول: "إنها صلحت لذلك لأن الأحوال النفسية التي تتوافر فيها لا تتوافر في في حضارة العمران المتصل ولا تتوافر في الصحراء المنعزلة، ولا تتم أسبابها الحسنة ولا أسبابها السيئة في بيئة أخرى كما تتم في المدينة حولها الصحراء".

ويفصل العقاد رأيه هذا في سطور طويلة مفادها أن البلدان التي اتصلت حضارتها (لم تنقطع) تعطينا المشرعين والكهان ولا تعطينا الأنبياء والرسل. ذلك أن سريان العرف، وترقي العادات الاجتماعية، واستقرار نظام القانون والمعاملة، تؤهل أهل هذه البلدان لاستيعاب العقائد بصورة أفضل، وفي مقدمتها عقيدة التوحيد التي من المتوقع أن تكون هذه الحضارات قد عرفتها منذ أن كانت في طور البداوة، إلا أن الدين في هذه المجتمعات يؤول إلى سلطة الكهنة. إذ أن سلطة الكهنة – والكلام للكاتب – يكون راسخاً فيه أكثر من سلطان الملوك أنفسهم في كثير من الأحيان. وما تجربة أخناتون إلا مثال نموذجي لهذه الحقيقة، فقد أراد هذا الملك أن يفرض عقيدة التوحيد التي آمن بها فرضاً على الناس، وأن يجعلها دين الدولة الرسمي، وكانت النتيجة فشلاً ذريعاً، دفع ثمنه بقية الموحدين في مصر لمئات من السنين بعده. لقد وقف في وجه كهنة آمون بسيف الدولة فوقف له الكهنة بسيف الشعب.. والشعب غالب لا محالة في مثل هذه المواجهات!.

فليس من السهل على الأنبياء مواجهة سلطان الكهنة في البلاد المتقدمة – ومثلهم الفلاسفة - بخبراتهم العريقة في توجيه العوام والتشويش على الحقيقة وإثارة الشغب وحماية مصالحهم من تهديد المتطفلين!. ولك أن تتخيل أن نبياً قد بعث في اليونان في عصر السفسطائيين مثلاً، كيف سيكون حاله؟!. إنه بالتأكيد سيقضي معظم الوقت، لا في الدعوة إلى رسالته، وإنما في الإجابة عن الأسئلة والمعضلات المطروحة عليه!. وحتى لو أجاد الطريقة الفلسفية في الجدل فإنه سيقضي معظم وقته في محاولة إزاحة ركام الشبهات الذي غيب الحقيقة البسيطة تحته. وتلك كلفة كبيرة وجدوى قليلة.

والتاريخ يضرب لنا الأمثال في كيفية تأثير الثقافة المركبة للمجتمعات المتحضرة على عقيدة التوحيد البسيطة الواضحة. من أوضحها لدينا نحن المسلمين تأثير العقل الفارسي في الفكر الإسلامي. فقد خرج الإسلام من جزيرة العرب عقيدة واضحة بسيطة كوضوح الصحراء وبساطتها، وعاد من فارس عقيدة مركبة مشوشة، مكونة من عناصر أسطورية تختبئ في يرقاتها عبادة الملوك وتقديس السلالة التي عرفتها الثقافة الفارسية. خرج من مكة إسلاماً ليبرالياً يعطي الفرد مساحة واسعة من حرية العقل والضمير، وعاد من فارس إسلاماً غنوصياً مقيداً بذيل الإمام والمرجع والطائفة. خرج من مكة وهو قانون في الضمير والأخلاق وعاد من فارس وهو قانون في السياسة والصراع الاجتماعي والنفسي.

ذلك بالنسبة للمجتمعات المتحضرة فماذا عن المجتمعات البدائية (يسميها العقاد بدوية)؟.
تبدو المجتمعات البدائية القاطنة في مجاهل الغابات والصحاري، المنقطعة عن التواصل الحضاري والثقافي، فاقدة للحد الضروري من الاستعدادات الذهنية والنفسية والمادية للقيام بدور الشهادة على الناس. فالأعرابي الجهول النزق الباحث عن ما يسد رمقه، المتصف باللؤم والانتهازية، ليس مهيئاً ولا جديراً بالقيام بمثل هذا الدور الكبير. ولعل هذا معنى الآية: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم" (التوبة 97). ومثل هذا الأعرابي - بل أبعد منه - ذلك الإنسان البدائي في غياهب الغابات الأفريقية، حيث تعيش الخرافة في أدنى أشكالها البدائية. وهذا لا يعني - بالطبع - أن هذه الأمم عاجزة تماماً عن استيعاب فكرة الدين والتوحيد، أو أنها ظلت طوال الوقت منقطعة عن الاتصال بالسماء، كما توحي بذلك الدراسات الأنثروبولوجية البدائية، التي على شاكلة "الغصن الذهبي" لـ جيمس فريزر. وإنما نعني أنها غير مؤهلة للقيام بدور الوسيط الناجح في نشر الرسالة ذات الطابع الحضاري والثقافي الأكثر رقياً وتركيباً، وهو ما يسميه القرآن بـ "الشهادة على الناس": "لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة 143).

إذن فقد كان موسى يدرك – بحكمة النبي أو بخبر الوحي – أن لدى العقل الإسرائيلي قابلية كبيرة للوقوع في فخ التفسير العنصري للمسألة، وليس مستبعداً أن يأتي اليوم الذي يقول فيه الإسرائيليون لأنفسهم ولغيرهم "نحن شعب الله المختار، نحن أبناء الله وأحباؤه"!. وقطعاً لدابر هذه النتيجة ألقى عليهم موسى منذ البداية النبأ الذي سيؤرقهم ويعكر حياتهم لمئات من السنين القادمة. النبأ الذي سيكون سبب اجتثاثهم من الأرض المقدسة وتدمير هيكلهم الثالث والأخير كما سيتضح في سطور قادمة. لقد أخبرهم موسى أن الله العليم قد اطلع على أحوالهم في المستقبل فعلم أنهم سيخذلون عقيدة التوحيد وسيتورطون في الشرك وعبادة الأصنام ويقعون في خطيئة الكذب على الله، وأنه سيجازيهم على هذه الخطايا بأن ينزع عنهم شرف رسالة التوحيد ويعطيه لقوم آخرين وصفهم سفر التثنية بأنهم "قوم جهلاء" (التثنية: 32: 21) وأن الله سيبعث من هؤلاء الجهلة (الأميين) نبياً بمواصفات موسى يكون "حجر الزاوية" في بناء النبوة (أي خاتم الأنبياء)!. ................... ............. ......... ........... ......... ....... .......... 

كتاب عودة العقل (تحميل)


جزء من مقدمة الكتاب:

|يضم الكتاب مجموعة منتقاة من مقالاتي التي نشرت خلال الأعوام الماضية، يجمع بينها هم واحد هو هم تحرير العقل العربي عامة والعقل اليمني على وجه الخصوص من مسلماته الزائفة، وأدواته العقيمة، اللاتي أثقلت كاهله وأحبطت مسيرته باتجاه البناء والتنمية. وقد جاء الكتاب تلبية لرغبة بعض القراء والأصدقاء الذين أشاروا علي بضرورة جمع ما تفرق من أفكار ومقالات بين دفتي كتاب يسهل الوصول إليه. العنوان يحمل دعوة لإعادة تمكين العقل - الذي هو قرين النقد والإبداع ونقيض النقل والاتباع - في حياتنا. وهو يحاكي عنوانين للأستاذ توفيق الحكيم، الأول "عودة الروح" الذي يعد باكورة أعماله، والآخر عودة الوعي، الذي يعد أشهر أعماله السياسية .................... ............. ......... ........... ......... ....... ..........

  يمكنكم تحميل الكتاب من هنا أو بالنقر على هذا الرابط:  goo.gl/MlTjRr .

الخميس، 17 ديسمبر 2015

الإنجيل الخامس (كيف نجا المسيح من الصلب!)

الإنجيل الخامس..
(كيف نجا المسيح من الصلب!)
عصام القيسي
esamgisi@gmail.com
كان المسيح عيسى ابن مريم - ولا يزال - حكاية محاطة بالأسرار والغموض والإثارة. بدءاً من ميلاده المعجز، مرورا بمعاجزه المدهشة التي أظهرها الله على يديه، وحقيقة زواجه وإنجابه من مريم المجدلية، وانتهاء باختفائه الغامض. ومما زاد الأمر غموضا وإثارة أن مؤرخي القرن السابع عشر الأوروبيين قد شككوا في الوجود التاريخي لشخصية المسيح، مستندين إلى مبررين: أحدهما أنه - عليه السلام - لم يرد له ذكر في المدونات التاريخية التي عاصرته، وهي التي فصلت أخبار عصره. والآخر أن مضامين الأناجيل المروية عنه قد سبقت روايتها عن شخصيات قديمة قبله، وبعض تلك الروايات أقرب للأساطير.

وحتى تلك الإشارة اليتيمة والمقتضبة عن "عيسى القديس"، التي وردت في كتاب "يوسيفوس"، المؤرخ اليهودي المعاصر للمسيح، لم تسلم من الشغب. فقد أكد النقاد على أنها قد أضيفت إلى المتن بقلم أحد القراء المتأخرين، وقد عجب لخلو التاريخ من إشارة إلى حدث عظيم بحجم ظهور المسيح. إلا أن هؤلاء المتشككين لم يقدموا لنا - كما يقول العقاد - تفسيرا واضحا لظهور طائفة المسيحيين في القرن الميلادي الثاني بتلك الكثرة..! وليس هذا مجال استعراض المناقشات التي دارت حول هذه المسألة بين المشككين والمثبتين.
لقد تعرض المسيح للظلم بعد وفاته مرات ثلاث على الأقل: مرة حين تجاهله مؤرخو عصره، استصغارا لشأنه، وشأن جماعته. ومرة ثانية حين شكك مؤرخو القرن السابع عشر بوجوده التاريخي. ومرة ثالثة حين زيف المتدينون - من أتباع الديانات السماوية الثلاث - سيرته. فزعم اليهود أنه دجال، وأنه ابن زنا، وأنهم دفعوا به إلى الموت صلبا. وزعم المسيحيون أنه ابن الله، وأنه مات مصلوبا، تكفيرا عن ذنوبهم، وأنه سيعود مرة أخرى إلى الأرض ليحكمها بهم. وزعم المسلمون أنه قد جاء بنفخة من الله، وأنه لم يمت حتى الحظة، وإنما رفعه الله إليه نائما، وأنه سيعود مرة أخرى إلى الأرض ليقوم ببعض الأعمال - غير الضرورية - مثل قتل الخنزير، وكسر الصليب، ورفع الجزية!.

ومما يؤسف له أن الإسرائيليات قد أوجدت لنفسها مدرسة في التراث الإسلامي بلغت مستوى عاليا من السيطرة، نستطيع القول معه إن المسلمين باتوا يقرأون القرآن والتاريخ، بعيون يهودية، كما قال المستشرق اليهودي الروسي "إسرائيل ولفنسون"!. ولم يكتف المسلمون بالترويج للروايات الإسرائيلية، بل أضافوا من عندهم تفسيرات وتصورات لا تختلف في شيء عن الروايات الإسرائيلية. بعضها يدعم مقولة "المسيح ابن الله" أو مقولة "الأقنوم الثالث" في أقانيم الإله المسيحي!. فحين يقول أحدهم إن المسيح "روح الله" أو أنه "روح من الله"، بحرفية الجملة الأولى، وغموض الجملة الثانية، فإنما يقدم بذلك الذريعة لمن يقول: إنه لا فرق بين أن يكون المسيح روح الله أو ابن الله. فالروح – بمفهومها الشعبي - جزء من الذات، تماما كما أن الولد جزء منها. وهو ما قيل فعلا من قديم، وما سمعه كاتب هذه السطور من بعضهم أكثر من مرة!.

ولعل سائل يسأل: أو لم يصرح القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام نفخة من الله في مريم؟!. وقد يفاجئه أن نجيبه بالنفي، كلا، لم يقل القرآن ذلك، وإنما قال شيئا آخر اشتبه على الناس فهمه، كما اشتبه على بني إسرائيل موت المسيح نفسه. لم يقل القرآن إن عيسى "روح الله" أو أنه جاء بنفخة "من الله"، وإنما قال إن عيسى ابن مريم نفخة من "روح الله". وروح الله هنا هو جبريل عليه السلام. والقرآن يطلق على جبريل تسميات: "روح الله" و"الروح الأمين" و"الروح القدس". بل إن القرآن قد قطع الطريق أمام أي لبس قد يحدث في هذا الجانب، حين حدد الموضع الذي نفخ فيه جبريل من جسد مريم عليها السلام، بكل وضوح وصراحة؛ إنه "فرجها": "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا".. وهي الطريقة ذاتها التي نفخ فيها جبريل في طينة آدم فبعث فيها الحياة: "ونفخت فيه من روحي".. ذلك أن جبريل هو صاحب المهمات السماوية الكبرى. وهو "الروح" التي تحمل سر الحياة. وهو المكلف بوضع هذا السر في المكان الذي يختاره الله، وهو الآية الكبرى في آيات الله: "ولقد رأى من آيات ربه الكبرى"..!
أما خرافة الاختفاء الغامض للمسيح، وخرافة عودته الثانية إلى الأرض، فقد فندهما كثير من عقلاء المسلمين. وسنتعرض في ثنايا هذه الدراسة القصيرة لبعض الحجج الكفائية في تفنيدهما، مع طرح سيناريو جديد - إلى حد ما - عن نهاية السيد المسيح في الأرض. على ضوء ما بين أيدينا من حقائق قرآنية، وقرائن تاريخية، ودلائل منطقية.

هكذا خلق الله المسيح:
والآن، ما حقيقة خلق المسيح عيسى ابن مريم في المنظور القرآني؟. سندع الإجابة للقرآن نفسه، يروي لينا في مشهد سريع ودقيق، لحظة اللقاء الخالق بين مريم وجبريل عليهما السلام. قال تعالى: "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذت من دونهم حجاباً، فأرسلنا إليها روحنا، فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا" (مريم:16-19). وفي سورة التحريم: "ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين". (التحريم: 12).

وخلاصة الآيتين الماضيتين هي أن الله قد أرسل جبريل – أعظم ملائكته شأناً - متجسدا في هيئة بشرية إلى مريم لمهمة محددة هي النفخ في فرجها بنفخة الحياة، تلك النفخة التي نفخها من قبل في طينة آدم، قال تعالى: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (ص:71-72).
إلا أن مهمات جبريل مع المسيح لم تنته عند النفخة الخالقة، فقد ظل يقدم خدماته اللوجستية للمسيح طوال الوقت. وقد ظل القرآن يكرر في أكثر من موضع، بأن الله أيد المسيح بروح القدس. ولا شك أن لهذا التكرار معنى يبرر مكانة جبريل عند المسيحيين في الأقانيم الثلاثة (الأقنوم الثالث)، وكأن للمسيح في هذا التأييد خصوصية بين الأنبياء. ولعل آية المائدة 110 تفصح عن شيء من هذه الخصوصية إذ قال تعالى: " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك..".
من الواضح أن هذه المهام تدخل في صلب اختصاص جبريل، بوجود قرينة النفخ في الطين، وكأن الآية أرادت الإشارة إلى أنه كان واسطة هذه المعاجز الربانية لدى عيسى، بوجود قرينة الخلق بالنفخ في الطين التي عرفناها عند جبريل من قبل..
 ذلك عن خلق المسيح ومعجزاته، فماذا عن نهايته؟.

شبهة العودة الثانية والوفاة المجازية:
هناك ثلاث روايات لنهاية المسيح، كل رواية منها تعبر عن عقيدة أصحابها. الرواية الأولى يهودية خالصة تزعم أن المسيح الكذاب - من وجهة نظرهم - قد انتهى مصلوبا على يد الرومان، بعد أن ألقت عليه عصابة الهيكل اليهودي القبض في أحد البساتين، ودفعوا به إلى بيلاطس، حاكم القدس، بتهم مختلفة. والرواية الثانية مسيحية كنسية، تزعم أن المسيح قد مات مصلوباً بمؤامرة يهودية كما تقول الرواية السابقة، لكن مع إعطاء بعد ديني أسطوري لهذه النهاية، مفاده أن  الله قد صلب ولده الوحيد فداء لخطايا المؤمنين. وأن المسيح قد صعد من قبره في بستان يوسف الرامي بعد يومين - تقريباً - إلى السماء، وجلس على يمين الرب. ويطلقون على قيامه من الموت مصطلح "القيامة".

أما الرواية الإسلامية.. معذرة فليس هناك رواية إسلامية واحدة بل روايتان: الأولى رواية الشيوخ، وهي خليط من الحقيقة والوهم، تقول إن المسيح لم يقتل ولم يصلب (وهذا هو جزء الحقيقة) وإنما رفعه الله إليه جسدا وروحاً وهو في حالة نوم (وهذا هو جزء الوهم). والأخرى رواية القرآن الكريم، المؤيدة بشواهد الكشوف التاريخية والدلائل المنطقية، وتقول إن الله قد أنجى عيسى عليه السلام من مؤامرة بني إسرائيل، فلم يقتل ولم يصلب، وإنما توفاه الله وفاة طبيعية، كوفاة البشر، ثم رفعه الله إليه، دون أن نعرف ما إذا كان الرفع للروح والجسد معاً أم للروح دون الجسد، ودون أن نعرف ما إذا كانت الوفاة قد حدثت في لحظة النجاة من الصلب أم بعد ذلك بزمن. وسنورد الرواية القرآنية عن هذه النهاية، مع تحليل ومناقشة هادئتين لشبهات المدرسة الإسرائيلية حول وفاة المسيح.
جاء في سورة آل عمران (55) قوله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون". وإذاً فقد توفي المسيح ورفع من الأرض. وإذا كانت مسألة الرفع غامضة مبهمة، فإن الوفاة مسألة واضحة لا لبس فيها، فمن أين جاء اللبس عند شيوخ الإسرائيليات إذاً؟.
 لقد وجد الشيوخ أنفسهم ملزمين بتصديق روايات إسرائيلية تزعم أن للمسيح عودة ثانية إلى الأرض، ويحتاجون إلى تخريج مناسب من القرآن يؤيد ذلك، فلم يجدوا سوى تأويل بعض الآيات على غير ظاهرها، دون مبرر علمي، مثل تأويلهم للوفاة في الآية السابقة بالنوم، مستشهدين بقوله تعالى في سورة  الزمر (42): "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". فالآية تميز بين الوفاة والموت، وتجعل الوفاة حالة تطرأ على الميت والنائم.

 والطريف في هذا التأويل أن الشيوخ قد لجئوا إلى المعنى المجازي دون المعنى الحرفي لكلمة (وفاة)، مع أنهم من أنصار المعاني الحرفية طوال الوقت. والرد على هذا التأويل من الوجوه الآتية:
 أولاً: لا يصح العدول عن المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي إلا إذا استحالت الحقيقة ووجدت القرائن اللفظية الصارفة، وهذا ما لم يتوفر في التأويل السابق، فلا حقيقة الوفاة استحالت، ولا القرائن الصارفة للمعنى الحرفي وجدت. وأكاد أسمع من يقول إن القرينة اللفظية موجودة في قوله تعالى من الآية السابقة: "تكلم الناس في المهد وكهلا"، ولفظ "كهلا" يشير إلى عودته الثانية، لأن المسيح رفع في سن مبكرة.. وهذا تأويل ساقط بالدلالات الآتية:
 أن المسيح قد توفي - حسب أدنى التوقعات عند المسيحيين - في سن الثالثة والثلاثين من عمره، وهذا عند العرب هو بداية الكهولة، كما نقل القرطبي عن الأخفش في تفسيره. هذا فضلاً عن أن علماء النصارى ومحققيهم يشككون في صحة تاريخ ميلاد المسيح المعروف، ويرجحون ميلاده قبل هذا التاريخ بسنوات لا تقل عن أربع ولا تزيد عن ست، وفضلا عن الشواهد الأثرية التي تزعم وجود المسيح في العام 45م.

 أن عودته المزعومة إما أن تكون بسنه التي رفع فيها، وهي سن الكهولة نفسها كما أسلفنا، وإما أن يعود في سن أكبر منها، وحينئذ يكون قد تجاوز سن الكهولة إلى ما بعدها، ولا تنطبق عليه الآية!.
 إن سياق الآية يدل على أن الكلام في المهد والكهولة هو حديث الوحي المعجز لا حديث البشرية الصرفة، بدليل مجيئه في سياق الحديث عن الروح القدس (جبريل)، لا في سياق الحديث عن معجزة مستقبلية. وهذا النوع من الكلام قد وقع وانقضى، فقد تكلم المسيح في المهد بما هو معلوم، ثم تكلم في سن بعثته - أياً كانت سنه عندها - بكلام الوحي المعجز، الذي لا يقل إعجازا عن كلامه في المهد. فقد أخبر عن حقائق لا يطلع عليها إلا وحي، وتنبأ بأحداث مستقبلية لا يعلمها إلا العليم في السماء، وكشف عن ما تخفيه صدور بعض تلاميذه أو خصومه بعلم الله، وكل هذا كلام معجز ككلامه في المهد. فما الداعي إذن لتوهم أن كلام الكهولة هو إشارة إلى عودة المسيح الثانية إلى الأرض؟.

وحتى لو ثبت أن سن الكهولة يتجاوز سن الثالثة والثلاثين، أو حتى تجاوز سن الشيخوخة نفسها، فإن الإشارة لا تدل بالضرورة على معنى العودة الثانية، وإنما على العكس من ذلك قد تدل على سرّ آخر أراد القرآن – كعادته – أن يكشفه، هو سرّ تأخر وفاة المسيح عن التاريخ الذي اعتقده خصومه وأتباعه (سن الثالثة والثلاثين)، وأنه عاش بعد حادثة الصلب سنين عددا، يتنقل فيها من مكان إلى آخر خارج فلسطين، كما سيرد معنا بتفصيل أكثر في السطور القادمة.

ثانياً: كيف سيفهم الشيوخ قول الله تعالى على لسان المسيح "فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم"، وهو خطاب يقوله المسيح يوم القيامة بدلالة سياق الآية؟، قال تعالى: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم". (المائدة: 115- 119).
 فهل الوفاة المقصودة في آية المائدة هي حالة من النوم أيضاً؟! وهل معنى ذلك عندكم أن المسيح لم يمت منذ خلقه الله إلى يوم القيامة؟!. ولماذا - من وجهة نظركم - لم يستخدم القرآن لفظ "الموت" في آية المائدة بدلا من الوفاة؟! أم تقولون إن الخطاب هنا حادث قبل يوم القيامة؟ وأين ستذهبون بالسياق الواضح المبين؟!.

ثالثاً: نتفق مع الشيوخ في عدم وجود ترادف دلالي بين لفظتي "وفاة" و"موت" ولكن هذا لا يعني عدم وجود اشتراك في المعنى. وأن في لفظة "وفاة" معنى من معاني الموت، أو أن الوفاة إحدى متعلقات الموت. و في المقابل فإن الاشتراك المعنوي بين لفظتي "الوفاة" و"النوم" غير معهود في لسان العرب، وهو إن وجد لن يكون أقوى من الاشتراك بين الوفاة والموت.
رابعاً: من خصوصيات الأسلوب القرآني أنه إذا اجتمع لفظان مشتركان في المعنى في سياق واحد طبقت عليهما القاعدة التي تقول "إذا اجتمعا في السياق افترقا في الدلالة، وإذا افترقا في السياق اجتمعا في الدلالة"، تماما مثل لفظي "الإيمان" و"الإسلام" الذين اجتمعا في سياق واحد فافترقا في دلالتهما في قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم". مع أن كل لفظة منهما تقوم مقام الأخرى - إلى حد ما - حين تأتي منفردة في السياق.
فرضيات نهاية المسيح:

إذا ما استقر الرأي على أن المسيح قد توفي وفاة طبيعية، لا مجازية، فسنكون أمام عدد من الفرضيات لزمن هذه الوفاة. الفرضية الأولى أن يكون المسيح قد توفي قبل مؤامرة الصلب. والفرضية الثانية أن يكون المسيح قد توفي قبيل الذهاب إلى الجلجثة (مكان الصلب) بوقت يسير. والفرضية الثالثة أن يكون المسيح قد توفي بعد حادثة الصلب بزمن غير قليل. مع استبعاد سيناريو الوفاة خلال عملية الصلب، لأن القرآن ينفي حدوث الصلب أو القتل نفيا قاطعاً "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" (النساء:157).
 القول بالفرضية الأولى سيضعنا في مواجهة عدد من الأسئلة الحرجة، منها: كيف خفي ذلك على بني إسرائيل، وهو بينهم؟ وهل من المعقول أن يزعموا قتله وقد علم الناس موته من قبل؟ وهل من اللائق أن يتوفاه الله في اللحظة التي يقرر اليهود فيها موته؟. وغيرها من التساؤلات المنطقية. هذا فضلا عن أن هذا السيناريو لا يحظى بأي سند له من الدين أو التاريخ. بل إن الإشارة القرآنية تستبعده في قوله تعالى "وإذ كففت بني إسرائيل عنك"، ولا يكون من معاني الكف أن يتوفاه الله فيحقق رغبة اليهود في التخلص منه، ولهذا نستبعد هذه الفرضية. ولم يتبق أمامنا سوى الفرضيتين الثانية والثالثة. ولكل منهما وجاهتها. إلا أننا نرجح الفرضية الثالثة، للأسباب الآتية:
ليس من اللائق كما أسلفت أن يتوفاه الله في اللحظة التي قرر فيها أعداؤه التخلص منه، فإن في هذا تحقيقا لغاية خسيسة عندهم، وشفاء لأحقادهم، في الوقت الذي ننتظر فيه تبكيتهم وإيلامهم.
تصريح الأناجيل بظهور المسيح لتلاميذه بعد القيام من القبر. ونحن نتفق معها في أنه ظهر لتلاميذه، لأنه كان حيا مختفيا عن الأنظار، ومن ثم نختلف معها في كونه خرج من القبر بعد الصلب. والجدير بالذكر أننا نتعامل هنا مع الأناجيل القانونية عند المسيحيين، على أنها روايات تاريخية في أحد وجوهها - على الأقل -؛ يؤخذ منها ويرد، بموجب القرائن التاريخية والمنطقية المؤيدة أو النافية.
ما يحكيه مؤلفو كتاب "الدم المقدس، الكأس المقدسة"، ميشيل بيجينت، هنري لنكولن، رتشاردلي، من اكتشاف وثيقة سرية تثبت وجود المسيح في العام 45م، فارا من عقوبة الحاكم الروماني، وأن لاهوتياً معاصراً عالماً في اللغات القديمة قد فك شفرتها، ثم اختفت بعد معرفة مكنونها.

تصريح إنجيل توما - وهو إحدى المخطوطات المكتشفة في قرية نجع حماد المصرية عام 1945م، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي في أبعد التقديرات - على لسان المسيح، بأنه لم يصلب وأن شخصاً آخر هو الذي صُلب بدلاً عنه، يدعى سمعان. وهذا نص كلام المسيح في إنجيل توما: " أنا لم أستسلم إليهم كما خططوا...وأنا لم أمت في الحقيقة، فقط بالشكل، خشية أن يتم تعريضي للخزي والعار بواسطتهم...بالنسبة لموتي الذي ظنوا أنه حدث، فقد حدث لهم بخطئهم وغشية عيونهم، منذ أن دقوا المسامير على رجلهم ليقودوه إلى موتهم...كان رجلا آخر، كان أبوهم، الذي شرب المرارة والخل، هو لم يكن أنا. ضربوني بالقصبة وكان رجلا آخر، سمعان الذي حمل الصليب على كتفه. لقد كان رجلا آخر الذي وضعوا على رأسه تاج الأشواك...وأنا كنت أسخر من جهلهم". (الدم المقدس: 533).

وجود طوائف مسيحية قديمة، تعترف الكنيسة بوجودها - كالأبيونية والأريوسية - كانت تنكر صلب المسيح وألوهيته. من شخوصها المعروفين "باسيلديدس"، الذي صرح بأن المسيح لم يمت على الصليب، وإنما استبدل ببديل، قائلا بأنه نبي من الأنبياء، لا أكثر ولا أقل. ومنهم "آيروس" الذي كفرته الكنيسة، وتنتسب إليه طائفة "الأيروسيين"، الموحدين، وقد ورد ذكرهم في رسالة النبي محمد (ص) لهرقل إذ جاء فيها "وإلا فعليك إثم الأريسيين"، ويقصد بهم طائفة الموحدين النصارى. بل إن "ماني" - وتنسب إليه العقيدة المانوية - كان أيضاً من منكري صلب المسيح.
وجود رواية متواترة بين سكان منطقة كشمير، تقول إن رجلا صالحا يدعى (عيسو)، قد نزل عندهم بعد سفر، في القرن الميلادي الأول. وأن قبره موجود في تلك المنطقة منذ ذلك الحين، كما يروي العقاد، وغيره من المهتمين. ولا يستبعد أن يكون عيسو الصالح هو عيسى النبي، الذي خرج من فلسطين هربا من أعدائه، وسائحا في الأرض، للدعوة إلى الله.
تلك بعض القرائن المؤيدة للقول بأن المسيح عيسى ابن مريم قد عاش زمنا بعد نجاته من مؤامرة القتل، وقبل أن يتوفاه الله إليه أياً كانت هذه المدة. ولا يصح الاحتجاج ضد هذا بقوله تعالى "إني متوفيك ورافعك إلي"، لأن واو العطف هنا لا تدل على التعقيب الفوري بين الوفاة والرفع، وإنما تدل على الترتيب فحسب.

السيناريو المحتمل لنهاية المسيح:
 ويمكننا على ضوء المقدمات الماضية، وعلى ضوء ما أوردته الأناجيل القانونية من روايات، أن نتصور السيناريو المحتمل  لنهاية المسيح، ونجاته من مؤامرة الصلب. وقبل ذلك نعرض على القارئ - في إيجاز - رواية إنجيل "متى" لأيام المسيح الأخيرة. بوصفة أول الأناجيل القانونية ترتيبا في العهد الجديد، وأقدمها – أيضاً – عد بعض الدارسين، أمثال الإنجليزي "أينوك باول" صاحب كتاب "تطور الأنجيل". ثم نعقب عليه بسيناريو متخيل للأحداث، يكشف غامضها، ويزيل تناقضها، فماذا تقول الأناجيل؟.
يحكي "متى" في إنجيله: أنه في مساء ذلك اليوم (الخميس)، وبعد اجتماع كهنة الهيكل وشيوخ الشريعة في بيت "قيافا" كبير الكهنة اليهود، واتفاقهم على اعتقال المسيح ومحاكمته، توجهت عصابة من اليهود إلى البستان الذي كان يصلي فيه المسيح مع تلاميذه بعد العشاء الأخير. وحدث ما تنبأ به المسيح من قبل، وما خطط له الكهنة والشيوخ من بعد، وألقي عليه القبض.
وفي ذلك المساء، تمت محاكمته الأولى في بيت قيافا،  أمام حشد الكهنة ومعلمو الشريعة وشيوخ الشعب. وتمت إدانته في وقت قصير بتهمة التجديف، بعد الاعتداء عليه بالضرب والسب. ثم اقتيد صباح اليوم التالي (الجمعة) إلى الحاكم الروماني بيلاطس، حيث تمت محاكمته الشكلية الثانية، بتهمة ادعاء الملك، ومنافسة القيصر. إلا أن بيلاطس لم يقتنع بجرم المسيح، وتعاطف معه، وعرض على اليهود المتجمهرين تسوية سياسية بشأنه، وذلك بأن يطلق لهم سجينا يهوديا مهما (يشوع باراباس) في مقابل العفو عن المسيح. إلا أن جمهور اليهود رفض هذا العرض وظل يهتف مطالبا بصلب المسيح. وهنا رضخ بيلاطس لطلبهم، بعد أن أعلن براءته من دمه. وذهب المسيح إلى الجلجثة (مكان الصلب) ليلقى مصيره المقرر.
وفي المساء ذاته طلب أحد تلاميذ المسيح الأثرياء (يوسف الرامي) من بيلاطس، أن يأذن له بإنزال المسيح من الصليب، ليدفنه في قبر كان قد أعده لنفسه. وقد أذن بيلاطس بذلك. وفي صباح يوم الأحد قام المسيح من قبره، وذهب لزيارة تلاميذه في مدينة الجليل، قبل أن يصعد إلى السماء.

تلك خلاصة مركزة لرواية الأناجيل عن الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة المسيح. وهي رواية للأحداث، مكونة من خمسة مشاهد أساسية:
الأول: مشهد العشاء الأخير مع التلاميذ.
الثاني: مشهد المحاكمة في بيت قيافا.
الثالث: مشهد المحاكمة الثانية بين يدي بيلاطس.
الرابع: مشهد الصلب على الجلجثة.
الخامس: مشهد القيام من القبر وزيارة التلاميذ.

 السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: كيف تم نقل هذه المشاهد المختلفة في رواية واحدة؟.
ليس هناك سوى ثلاثة احتمالات لرواية هذه المشاهد مجتمعة:
الأول: أن يكون أحد التلاميذ قد تابع هذه المشاهد بنفسه، أو نقلها عن شهود عيان في لحظتها ثم نسجها في رواية واحدة.
الثاني: أن يكون أحد اليهود قد رواها لاحقا بعد أن تاب الله عليه وآمن بالمسيح، كما حدث مع بولس، ويسمى عادة بالراوي التواب!.
الثالث: أن يكون المسيح هو الذي رواها بنفسه بعد نجاته من المؤامرة.
وكل واحد من هذه الاحتمالات يواجه عددا من الأسئلة الحرجة. فالاحتمال الأول بعيد لأن الأناجيل تقول لنا إن التلاميذ هربوا أثناء إلقاء القبض على معلمهم في البستان، ولم يتبعه منهم سوى بطرس متخفيا، وإلا يهوذا الإسخريوطي الذي خانه وباعة للكهنة بثلاثين من الفضة، ثم شنق نفسه ندما على ما فعل في الليلة نفسها، فكيف نقل التلاميذ بقية المشاهد التي لم يروها؟ وخاصة المشهد الثاني؟. ولم يبق أمامنا غير بطرس، وهنا نتساءل: هل كان لبطرس التلميذ إنجيل يروي فيه الأحداث؟ أين هو؟ وإذا كان رواها لغيره، فما مدى دقة التحمل عنه؟.. ومثل ذلك ينطبق على بقية التلاميذ.

وأما إذا كان الاحتمال الثاني، وهو أن أحد اليهود، أو بعضهم، قد روى هذه الأحداث لاحقا فهذا يعني أننا أمام راوٍ ينقل عن الإشاعة لا عن شهادة عيان، لأنه على الأقل لم يحضر المشهد الأول (مشهد العشاء الأخير) الخاص بالمسيح وتلاميذه، وفيه من التفاصيل ما فيه.
 فلم يبق أمامنا سوى الاحتمال الثالث، وهو أن المسيح هو الذي روى هذه المشاهد المتصلة لتلاميذه بنفسه بعد نجاته من الصلب، وهؤلاء بدورهم رووها لمدونيها. ولكن هذا الاحتمال أيضا لا يخلو من تساؤلات لا جواب لها: من هم هؤلاء المدونين؟ وكيف نضمن صحة رواية الأناجيل القانونية، ونحن نجهل حقيقة مدونيها الذين نسبت إليهم؟ من هو متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا؟. إن المسيحيين لا يعلمون حقيقة هؤلاء إلا تخمينا وظنا!. ثم أين إنجيل المسيح نفسه؟ ألم يكن أولى بالرواية والتدوين؟.
ثم ضع هذه التساؤلات بجوار حقيقة مدهشة تقول إن كاتبي رسائل العهد الجديد التي يبلغ عددها 23 رسالة، ليس لديهم علم بما كتبه أصحاب الأناجيل القانونية الأربعة!، وأن أصحاب هذه الرسائل الخمسة لم يكن مطلعاً على ما كتبه الآخر، وأن رواياتهم تناقضت حينا وجهلت ما عند الآخرين حينا آخر، مع أنهم حسب زعم الكنيسة قد تلقوا وحيهم من الله جميعا!.

الذي نخلص إليه من هذه الوقفة هو أن الخطوط العريضة، والمشاهد العامة في رواية الأناجيل قد تكون صحيحة، بل من المرجح أنها كذلك لعدد من القرائن أهمها أنها وقعت أمام جيل من بني إسرائيل ومن غيرهم، ومن الصعب الكذب في الأحداث العامة التي وقعت أمام أنظار الناس. إلا أن التفاصيل داخل هذه الأحداث غير مضمونة، ومن حقنا إعادة تركيبها على ضوء الحقائق والدلائل التي لدينا جميعا، مسلمون ومسيحيون. وهذا هو ما سنفعله في السيناريو المفترض الآتي:
علم المسيح عليه السلام - وهو المؤيد بجبريل طوال الوقت - بتآمر الكهنة وشيوخ إسرائيل عليه من وقت مبكر، وقد أخبر التلاميذ بهذا في العشاء الأخير، وربما قبله. وكان بإمكان المسيح على ضوء هذه المعلومات السماوية أن يفلت من بين أيدي المتآمرين، وأن يهرب متخفيا بالظلام خارج اليهودية، إلا أنه لم يفعل، وكان من حقه أن يهرب من أعدائه كما هرب النبي محمد (ص) من مشركي مكة في جنح الظلام. لكنه كان مطمئناً لنجاته (إني متوفيك ورافعك إليّ)، وأراد أن يقف مع قومه جولة أخيرة قبل أن يغادرهم إلى الأبد. ذهب معهم إلى بيت قيافا، وهناك صمد في مواجهة مكرهم، وحاول فضحهم أمام أنفسهم، وقد علم أنهم سيسلمونه إلى الحاكم الروماني، وأن الحاكم الروماني يكره اليهود وكهنتهم. ويعلم أن في قصر الحاكم من يؤيده ويتعاطف معه (زوجة الحاكم مثلا).
وهناك في قصر بيلاطس يحدث ما لم يطّلع عليه اليهود، إذ يخلو بيلاطس الروماني مع المسيح ليتدبر له مخرجا للنجاة من دون إثارة سخط اليهود عليه. ووقع الاتفاق على إيجاد بديل يقوم بدور البطولة. ومن الأفضل أن يكون البديل شخصاً من غير اليهود ومن غير الرومان، لسبب نعرفه بعد قليل. لكن من هو هذا البديل المغامر الذي يرضى بالذهاب إلى الموت في سبيل إنقاذ شخصٍ آخر؟!. هناك شخص واحد يمكنه قبول ذلك. شخص محكوم بالإعدام لسبب من الأسباب، يؤتى به من محبسه، ويتم إبرام صفقة معه على القيام بدور البديل. يحصل فيها على النجاة من الموت، والعودة إلى بلده. فأين هذا الرجل بهذه المواصفات؟.
هنا يدنو أحد مقربي الحاكم من أذن الأخير ويخبره عن "سمعان" القوريني، أحد المحكومين بالإعدام لديهم. فهو قوريني من ليبيا، وليس يهوديا ولا رومانيا. وهو في كل الحالات محكوم بالإعدام، فلن يتردد في قبول صفقة للنجاة إذا اطمأن إليها. وبعد لحظات يمثل سمعان بين يدي الحاكم والمسيح، ويدور الحوار الآتي:
الحاكم: يا سمعان، أنت محكوم بالإعدام صلباً، أليس كذلك؟
سمعان: أجل يا سيدي، وهذه فرصة لطلب العفو والصفح منكم، فلديّ أهل ينتظرون عودتي في قورينه.
الحاكم: سنعفو عنك يا سمعان بشرط أن تقبل ما سنقترحه عليك.
سمعان: قبلت يا سيدي شروطكم دون سماعها، وأنا طوع أمركم.
الحاكم: ستقوم يا سمعان بدور البديل لمحكوم آخر بالإعدام صلباً.
سمعان: (مندهشا) سيدي.. كأنك تريدني أن أصلب نيابة عن غيري، بدلا من أن أصلب نيابة عن نفسي؟! أين العفو إذن يا سيدي؟!.
الحاكم: لا تعجل، واستمع إلى هذا الرجل الصالح (يشير إلى المسيح) وسيخبرك بما تطمئن إليه.
يتدخل المسيح بصوته الحنون: اسمع يا سمعان، لا شك أنك قد سمعت عن المسيح عيسى الذي يحيى الموتى بإذن الله، وينفخ الروح في الطين المشكل على هيئة الطير فيجعله طيرا بإذن الله.
سمعان: أجل يا سيدي، سمعت عن هذا الرجل المبارك، فأخبار معجزاته على كل الألسنة، سمعتها حين وصلت إلى اليهودية، وسمعتها في السجن من المسجونين، ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه؟!
المسيح: أنا هو ذلك الرجل يا سمعان، وقد أيدني الله بروح القدس يصنع على يدي المعجزات بإذن الله، ولو أنك قبلت بما أخبرك به الحاكم، فسوف نتدبر أمر إنزالك من الصليب، ثم سيكون عليّ أن أعيد إليك حياتك بعد الصلب، وبهذا تنجو من العقوبة وتعود إلى بلدك وأهلك متخفيا عن أنظار الجميع هنا، ما رأيك؟!.
سمعان: قبلت الصفقة يا سيدي..!
يقتنع سمعان بدور البديل، مفضلاً أخف الضررين، ضرر الصلب الذي تعقبه النجاة، على الصلب الذي لا حياة بعده. وتتم عملية الصلب عصر الجمعة. ثم يأتي يوسف الرامي أحد تلاميذ المسيح السريين، في مساء الجمعة لينزل سمعان من الصليب، باتفاق مع بيلاطس، على غير عادة الصلب عند الرومان. وهناك، في بيت يوسف، يختبئ المسيح الذي خرج متنكراً من قصر بيلاطس، وتتم عملية إعادة الحياة إلى سمعان حسب الاتفاق، ويتم تهريبه في جنح الظلام خارج المنطقة، بعيداً عن أنظار اليهود المنشغلين بسبتهم. وفي صباح الأحد تذهب مريم المجدلية - تلميذة المسيح كما تقول الأناجيل، وزوجته أو خطيبته كما يقول "دان براون" في روايته الشهيرة "شفرة دافنشي" نقلا عن كتاب "الدم المقدس، الكأس المقدسة" - تذهب إلى بستان يوسف للقاء المسيح، تطمئن عليه وتنقل رسالته إلى تلاميذه.

تأييد السيناريو الافتراضي:
والآن قد يتساءل القارئ: وما مؤيدات هذا السيناريو عند صاحبه؟. وهو سؤال وجيه نجيب عنه من خلال النقاط الآتية:
أولاً- يفترض السيناريو وجود تعاطف من قبل الحاكم الروماني تجاه المسيح، وهو ما دفعه لتدبير عملية إنقاذ المسيح وتهريبه متنكرا من اليهودية. وهذا ليس افتراضاً خيالياً، فقد بنيناه على معطيات الأناجيل نفسها، التي تقول إن الحاكم الروماني كان لا يحب اليهود ولا كهنتهم، وأن زوجته قد بعثت إليه برسالة فور سماعها لخبر تآمر اليهود على قتل المسيح، تقول لزوجها فيها "إياك وهذا الرجل الصالح". ومن المنطقي أن يتعاطف الحاكم الروماني مع من يعاديه اليهود. تقول رواية (متى): "وكان بيلاطس يعرف أنهم من حسدهم أسلموا يسوع."، وأنه "أخذ ماءً وغسل يديه أمام الجموع وقال: أنا بريء من دم هذا الرجل". وأنه سمح ليوسف الرامي بأخذ المصلوب وتكفينه، وهذا أمر غير معهود في تقاليد الصلب الرومانية التي تترك المصلوب حتى تأكله الطيور. هذا إذا لم يكن الحاكم قد تأثر بما يقال عن كرامات المسيح ومعجزاته التي اشتهرت في وقته، وأسرّ إيمانه به.

ثانياً- يفترض السيناريو وجود بديل أجنبي قام بدور المصلوب نيابة عن المسيح. وهذا أيضاً ليس افتراضا خياليا، بل هو استناد إلى معطيات الأناجيل القانونية التي تقول في أحدها "وبينما هم خارجون من المدينة صادفوا رجلا من قيرين اسمه سمعان، فسخّروه ليحمل صليب يسوع." (متى). ولكننا نستبعد أن يكون سمعان قد وجد مصادفة كما تقول الرواية، وأن يحمل صليبا ثقيلا على ظهره نيابة عن محكوم بالصلب هكذا لوجه الله. خاصة وأن التقاليد الرومانية تقضي بأن يحمل المحكوم بالصلب صليبه على ظهره دون مساعدة من أحد. وكذلك استنادا إلى رواية (توما) في إنجيله المكتشف بقرية نجع حماد المصرية، عام 1945م، حيث ينقل رواية على لسان المسيح يصرح فيها بأن سمعان كان هو المصلوب البديل، وأوردناها في السطور السابقة. وأشهر من ذلك، استناداً إلى تراث الفرق المسيحية التي حكمت عليها الكنيسة بالضلال، وهي فرق توحيديه تعتقد في المسيح بمثل ما يعتقد المسلمون اليوم.

ثالثاً- يفترض السيناريو أن اليهود قد تعرضوا لخديعة دون أن يعلموا، حيث تم تهريب المسيح وصلب البديل المزيف. وهذا أيضا افتراض يستند إلى عدد من الحقائق والمعطيات منها أن الجنود قد أخذوا المسيح بعد انتهاء المحاكمة إلى قصر بيلاطس كما يروي "متى" : وهناك " جمعوا الكتيبة كلها، فنزعوا عنه ثيابه وألبسوه ثوبا قرمزيا.."، إلى غير ذلك من التفاصيل.
وهذه الأحداث جرت بعيدا عن أنظار اليهود، وفي مساحة من الوقت متسعة. وهو ما يساعدنا على القول بأن بيلاطس بعد أن أوهم اليهود برضوخه لقرار صلب المسيح قد اتجه إلى قصره، ودبر خلاص المسيح بعيدا عن أنظار أعدائه. خاصة وأن عامل الزمن في صالحه، إذا ما علمنا أن عصر الجمعة هو الوقت الذي يتهيأ فيه اليهود لسبتهم، مما يعني انشغالهم بطقوس السبت عن المسيح، وهي من أهم الطقوس لديهم، وهم من أشد الناس تمسكا بالمظاهر دون الجواهر كما كان ينعتهم المسيح. وإذا افترضنا وجود بعض شهود الصلب من اليهود كمل تقول الأناجيل فقد كانوا على مبعدة من المصلوب بحيث لا يميزون ملامحه، يقول (متى): "وكان هناك كثير من النساء ينظرن من بُعد..".

رابعاً- يفترض السيناريو أن المسيح قد خرج من قصر بيلاطس متنكرا، وأنه زار تلاميذه متنكرا، قبل أن يغادر اليهودية إلى خارجها. وهذا افتراض يستند إلى ما تروية الأناجيل من أن تلاميذه لم يتعرفوا عليه بعد قيامته من القبر، وأنه مشى مع تلميذين منهما على طريق عمواس "ولكن أعينهما عميت عن معرفته" وأن "بعضهم شكوا" فيه، كما يقول (متى). ثم إن هذا هو الافتراض المنطقي في حالة ما إذا قرر الحاكم تهريبه من المكان.

خامساً- يفترض السيناريو أن المسيح قد غادر منطقة اليهودية إلى خارجها، وأنه مات بعيدا عن موطنه، وهو افتراض يستند إلى عدد من المعطيات الإنجيلية والتاريخية والمنطقية التي ذكرنا بعضها من قبل، ولا بأس من إعادة ذكرها، وهي: أولاً: تخبرنا الأناجيل القانونية أن المسيح قد أخبر تلاميذه في العشاء الأخير بأنه سيلتقي بهم لاحقا في الجليل، خارج اليهودية، وأنه بعث إليهم بعد قيامته من القبر رسالة شفوية مع مريم المجدلية تأمرهم أن يلتقوه في الجليل حسب الاتفاق. وهذا يعني أنه لا يستطيع الظهور في اليهودية مرة ثانية. ولا نصدق مقولة الأناجيل بأنه قام من القبر لأن هذا لو حدث لكان وحده مبررا لظهوره مرة أخرى أمام الكهنة وشيوخ وشعب إسرائيل، ليثبت لهم معجزة ربانية أقوى تخضع لها رقابهم، لا أن يهرب منهم إلى الجليل. ثانياً: لا نتصور أن يكون المسيح قد توفي قبل الصلب أو أثنائه أو بعده بقليل للأسباب التي ذكرنا من قبل. ثالثاً: لوجود شواهد تاريخية على وجوده في العام 45م، كما أكد أصحاب كتاب (الدم المقدس) ورواية الأجيال في كشمير عن قبر عيسو الصالح، كما يعرفها الكتاب والمؤرخون.

وأخيرا قد يسأل أحدهم: وما أدرانا أن عملية الصلب برمتها قد وقعت؟. والجواب: إن هذه العملية قد اشتهرت في بني إسرائيل وروتها الأناجيل كلها، بما فيها الأناجيل غير القانونية (الأبوكريفا) المكتشفة حديثا وتعود إلى القرن الثالث الميلادي، وتلك المعروفة من قبل. وأهم من ذلك أن القرآن الكريم قد أكدها بالتضمين في قوله تعالى "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". وعبارة "شبه لهم" تفترض أمرين، الأول أن حادثة الصلب قد وقعت، وإن كان المصلوب شخصا غير المسيح. والآخر أن العملية مدبرة بقرينة أن الفعل "شُبِّه" مبني للمجهول، وفيه إيحاء بأن التشبيه مقصود ومدبر في الخفاء، ولم يكن عفوياً، ولو كان عفويا لناسب أن يقول "اشتبه عليهم"!، أي الأمر.