الأربعاء، 25 مايو 2016

المذاهب الإسلامية في الدولة المدنية

العلمانية الثالثة
المذاهب الإسلامية في الدولة المدنية
عصام صالح القيسي


العلمانية الثالثة
 (خارطة طريق سياسية جديدة)

مقدمة

أعادت الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة إلى طاولة النقاش عدداً من القضايا الإشكالية المزمنة في الفكر السياسي العربي. وفي مقدمتها مفهوم العلمانية والدولة المدنية. بعد أن ارتفعت أسهم هذين المفهومين في الأوساط الشعبية مؤخراً. وهو ما ينذر بارتفاع حدة الصراع بين أطراف الخلاف التقليدي حولهما مستقبلاً. ولا شك عندي أنه سيكون خلافاً مثمراً ما بقي في دائرة الفكر.

إن عودة هذه المفاهيم إلى سطح الحياة السياسية والثقافية أمر لا مفر منه، لأن شروط المرحلة التاريخية التي نمر بها هي التي تقرر ذلك، ولا يستطيع فرد أو جماعة محدودة أن تغير الشروط التاريخية، إلا كما يستطيع أحدهما أن يغير أقداره. والتيار الذي يرفض طرح هذه المفاهيم للتداول المعرفي – فضلاً عن التطبيق السياسي – يعجز عن مقاومة شروط المرحلة، أو بعبارة أخرى يعجز عن تغيير روح العصر. لأنه لا يمتلك القدرة على المبادرة الإيجابية في هذا الصدد ولا الإمكانات. وكل ما تسعفه به خبرته التاريخية هو الوقوف حائط صد أمام كل رياح التغيير القادمة. وهو بطبيعته موقف سلبي. والمواقف السلبية قد تمنع حصول شيء في لحظة ما، لكنها لا تستطيع الصمود في وجه الحاجات والمتغيرات لفترة طويلة. وهذا بالضبط ما يفسر حالات التراجع الكثيرة التي اضطر إليها هذا التيار عن بعض المواقف المتشددة طوال العقود الماضية بدوافع التحول الحضاري القسري.

كانت الديمقراطية كفراً، والحزبية تفرقاً في الدين، والاشتغال بالسياسة منازعة لولي أمر المسلمين في حق من حقوقه الشرعية، والتحاور مع الغرب خيانة. وكانت الموسيقى فسقاً، والغناء تخنثاً، والتصوير الفوتوغرافي مضاهاة لخلق الله. وكاد أحمد لطفي السيد أن يلقى حتفه تحت كراسي القاعة حين صرح في حفله الانتخابي أنه – والعياذ بالله – مؤمن بالديمقراطية!. كل ذلك وغيره كانت قناعات دينية عند تيار كبير من المسلمين. وها هي اليوم تتحول - رويداً رويداً - إلى مقولات متحفيّة تاريخية على يد الجماعات السلفية نفسها.

إذن ما الذي يمنع أن نشهد في المستقبل تحولاً في قناعات هذه الجماعات تجاه مفاهيم العلمانية والدولة المدنية، وغيرها من المفاهيم التي تم شيطنتها في الخطاب المذهبي لهذه الجماعات، طوال العقود الماضية؟.

لقد أصبحت الدولة المدنية - بمضامينها الديمقراطية والعلمانية - حاجة اجتماعية في بعض المجتمعات الإسلامية، وضرورة وجودية في بعضها الآخر. ولو لم يكن معنا سوى قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" لكفتنا إعادة طرح واستدعاء هذه المفاهيم إلى حياتنا السياسية والمعرفية.

لكن يا ترى هل بقي شيء في مفهوم العلمانية يستحق النقاش، بعد كل المداد الذي أريق حولها في الفترات الماضية؟. ألا يصح عليها ما قيل في علم النحو العربي قديماً، من أنه قد نضج حتى احترق؟!.

أيا ما تكن الإجابة فإن بقاء المشكلة العلمانية على المستوى السياسي يعني أن باب الكلام فيها مازال مفتوحاً ومبرراً. وانطلاقاً من هذا المعنى الأخير يتساءل الكاتب: هل العلمانية مشكلة عربية لا تقبل الحل؟. هل تشبه مشكلة الرجل القصير الذي لا يمكن أن يطول مهما حاول؟!.

يتطوع الكاتب بالإجابة عن هذا السؤال بالنفي. مستنداً في ذلك إلى عدد من الحقائق: أولها: أن العلمانية مفهوم مرن غير مستقر، يقبل إعادة التشكيل وفق الخصوصيات الثقافية لكل أمة. وثانيها: أن الخطاب الديني السياسي المناهض للعلمانية، يعاني من عيب خطير، لا يمكن تبريره، ولا مجال للشك فيه، هو عيب الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني. باعتبار أن الدين هو ذلك المنزل السماوي المقدس، وأن الفكر الديني هو ذلك المنتج البشري، الناتج عن دوران العقل حول النص الديني. وهو عيب يفقد الخطاب المعادي لمبدأ العلمانية كثيراً من قوته الحجاجية. وثالثها: بناء على ما تقدم فإن الزعم بوجود تناقض بين العلمانية والإسلام، قبل تحديد المفهومين، بصورة دقيقة وحاسمه، وقبل تخليصهما من الزوائد الطارئة عليهما، هو نوع من الخفة التي لا تليق بأهل الفكر.

وإذا ما حسبتُ أن الحقائق الماضية محل اتفاق بيني وبين القارئ فإن المقام يقتضي طرح هذا السؤال: هل في الإمكان إعادة تعريف الإسلام والعلمانية دون المساس بحقيقتيهما الذاتيتين؟. وبصيغة أخرى: هل في الإمكان اكتشاف العلمانية في الإسلام، أو اكتشاف الإسلام في العلمانية، بدون اعتساف أو تكلف يذهب بحقيقتيهما معاً؟!.

وقبل أن يتطوع الكاتب بالجواب فإنه يود التأكيد على الحقائق الآتية:
1: إن أي مقاربة لهذه المشكلة لا تتسم بالموضوعية هي مقاربة محكوم عليها بالفشل ابتداء، من أي جهة صدرت.
2: إن الموقف الأبستمولوجي (المعرفي) للمشكلة هو الأقرب نسباً إلى الموضوعية العلمية، على عكس الموقف الأيديولوجي (المذهبي) الذي يتسم – من حيث طبيعته - بالتحيز والتلوين.
3: ستظل الأيديولوجيا هي مثار النقع في حياة العرب السياسية، ولا قرار للنظم السياسية، ولا للحياة الاجتماعية، مادامت الأيديولوجيا هي محور الصراع السياسي عندهم.
4: لا أمل مطلقاً في أن تنتهي مشكلة العلمانية بمجرد تجاهل خصومها لها، ولا بمجرد تصلب دعاتها على أشكالها التقليدية العقيمة.

وبناء على المقدمات الماضية يمكننا طرح صيغة ائتلافية جديدة بين الإسلام والعلمانية، تحقق غايتهما الجوهرية (العدالة والسلام والتنمية)، ولا تمس حقائقهما الذاتية. تقوم هذه الصيغة على مبدأ إعادة تعريف المفهومين المشكلين.

أما المفهوم التاريخي للعلمانية فقد حققه الدكتور عبد الوهاب المسيري، بصورة شبه وافية، في كتابه " العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة". وهو الجهد الذي تستند إليه هذه الأطروحة. وقد خلص المسيري إلى وجود طرفين نموذجيين في المتتالية الزمنية العلمانية: طرف العلمانية الجزئية، وهي تلك الحالة التي يتم فيها فصل الدولة عن الدين. (مع ملاحظة التطور التاريخي لمفهوم الدولة). وطرف العلمانية الشاملة، وهي تلك الحالة التي يتم فيها فصل الدين عن الحياة. ثم يكاد المسيري يرشح للمجتمعات العربية العلمانية في صورتها الجزئية.

وإذا كنا نتفق مع د. المسيري في تحليله للعلمانيتين وتفريقه بين نموذجيهما الرئيسين، كما نتفق معه في رفض العلمانية الشاملة، إلا أننا - لمبررات موضوعية - نتحفظ على قبول اقتراحه بجعل "العلمانية الجزئية" مشروعاً سياسياً عربياً. وذلك للاعتبارات الآتية:

1: ليس من منطق الديمقراطية، أن يكون الدين مرجعاً لمجتمع ما، ثم لا يكون مرجعاً لدولة ذلك المجتمع، ما دام هذا الأخير يراه مرجعاً شاملاً. وهذه – على الأقل – حجة الإسلاميين الأكثر وجاهة على خصومهم في هذا الجدل.

2: في الإسلام منظومة قيم عليا وشاملة، ومجموعة مبادئ أساسية للمجتمع المؤمن، ليس في إمكان أحد الزعم بأنها قاصرة عن أن تطال المجتمع السياسي المسلم، والسلوك السياسي للمسلمين. فقيم العدالة والحرية والمساواة والإيثار والتراحم...إلخ. هي قيم إسلامية مرجعية ومهيمنة على كل نشاطات المسلم في السياسة العامة وفي ما سواها. كما أن الله هو المبدأ الأول والأساس في المنظور الإسلامي، وهو المبدأ الذي ينبغي أن يكون نقطة الصفر في سير المجتمع الإسلامي في مختلف اتجاهات سيره.
هذا فضلاً عن وجود نصوص قطعية - من حيث دلالتها الإجمالية على الأقل - لا يمكن فصلها عن الدولة، لأنها تستهدف نشاطات مشتركة بين الأفراد والمؤسسات. مثل نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ومنه تتأصل المعارضة السياسية من الوجهة الدينية)، وتحريم الربا والاحتكار والكنز،...إلخ، ستظل لها قوة حجاجية عالية في وجه الرافضين للمرجعية الإسلامية.

3: التحقيق العملي يدل على أن المشكلة ليست في الدين نفسه، بل في الفكر الديني النابت حوله. وتنحدر – تحديداً - من أربع مشكلات أصولية نوعية: الأولى، نصوص غير قطعية الدلالة. والثانية، نصوص غير قطعية الثبوت. والثالثة، نصوص غير قطعية الحجية. والرابعة، قصور في الجهازين المفاهيمي والفني للمؤسسة الدينية التقليدية المنتجة للخطاب الديني.

ونخلص من ذلك إلى ضرورة تطوير مقولة "العلمانية الجزئية" بحيث لا تتصادم مع الدين نفسه، ولا تبقي على مصادر القلق. ويمكننا فعل ذلك باقتراح صيغة جديدة للعلمانية الجزئية هي صيغة "فصل الدولة عن المذهب". سواء أكان مذهباً فكرياً أو كان مذهباً فقهياً. وسواء أكان مذهباً للفرد أم كان مذهباً للجماعة. وسواء أكان مذهباً تاريخياً قديماً أو كان مذهباً معاصراً.

هذا إذا نظرنا إلى جهدنا المتواضع هذا (العلمانية الثالثة) من زاوية نظر تاريخية. أما إذا نظرنا إليه من زاوية نظر أبستمولوجية (معرفية) بحتة فإنه لا شك يعد عملاً مستقلاً بذاته، نستدل على استقلاليته بحجة واضحة، قابلة للاختبار والفحص، هي أنه لا يعنينا من مفهوم العلمانية وتاريخها سوى تلك الدلالة المعجمية للفظة في القاموس العربي. والعلمانية (بفتح العين) في القاموس العربي الحديث نسبة إلى العالم، أي ما ينتمي إلى هذا العالم المشهود، دون عالم الدين أو عالم الآخرة. وعلى ذلك فإن كل ما ينتمي إلى عالم الدنيا فهو "علماني" حتى تثبت نسبته إلى الدين. لأن الأصل في الأشياء انتسابها إلى العالم / الدنيا، والاستثناء غير ذلك. وهو ما يعبر عنه الفقهاء عادة بقولهم: إن الأصل في الأشياء الإباحة. أو أن الأشياء على أصل البراءة.

 إلا أن من المهم أيضاً إعادة تعريف المذهب هنا، ليشمل كل نص يحتمل التأويل على أكثر من وجه. بحسب قواعد التأويل وشروطه المعتبرة في الأوساط والمؤسسات المختصة. ذلك أن المذهب لا يكون إلا فهماً ظنياً لنص غير قطعي. ولهذا فإن المذاهب لا يكفر بعضها بعضاً. ويكون النص ظنياً في ثبوته إذا لم يرد بطرق متواترة، وظنياً في دلالته إذا احتمل أكثر من تأويل.
 نقول ذلك استناداً إلى:

1: أن المذهب جزء من الفكر الديني لا من الدين. والفكر الديني كما نقول دوماً هو منتج بشري بحت، وما كان من منتجات البشر فهو محل أخذ ورد. وينطبق هذا الحكم على أصول المذهب قبل فروعه. وعلى أصول المذاهب وفروعها مجتمعة أو متفرقة.

2: أن معظم المذاهب الإسلامية المعتبرة لا يكفر بعضها بعضاً على الأصول أو الفروع المختلف حولها. مما يدل على أن الآراء ذات الطابع الخاص في المذاهب لا تعد من الضرورات الدينية التي يكفر منكرها عندهم. وعليه فلا فرق بين أن ينكر مذهب مذهباً آخر، وبين أن تنكر الدولة المدنية المذاهب المختلفة جميعها ما دامت تعترف بالنص الأول (الدين) الذي نشأ حوله الخلاف.

 3: دل الاستقراء على أن جميع المذاهب الإسلامية التقليدية – تقريباً - قد وقعت في الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني. وأظهر مثال على ذلك أن الأصوليين لم يتفقوا إلى الآن على معايير حاسمة في التمييز بين ما صدر عن النبي (ص) في مقام الدين (الرسالة) وما صدر عنه في مقام الاجتهاد. مع غموض شديد في مكانة الاجتهاد النبوي من طبيعة "البلاغ المبين" الذي كلف به النبي (ص). هذا فضلاً عن وجود كثير من المشكلات الأصولية ذات الخطورة النوعية، كحجية الاجتهاد، وحجية الإجماع، ونسخ القرآن للقرآن. وغيرها من القضايا التي يترتب على إعادة النظر فيها تعديلاً بنيوياً في فلسفة الدين نفسه.

هذا – أيضاً – إذا مضينا وراء شيوخ الدين التقليديين في اعتبار مشروعية المذاهب الفقهية الناتجة عن عمليات الاجتهاد. أما إذا مضينا وراء مذهبنا القرآني فإن هذه المذاهب الجمعية كلها تعد مواليد غير شرعية لنكاح باطل عقده الفقهاء، هو نكاح الشريعة بالاجتهاد. وهو النكاح الذي يجعل من العقل البشري منتجاً للدين والقداسة. إلا إذا اعتبرنا مخرجات الاجتهاد المذهبي منتجات دنيوية مدنية (علمانية بلغتنا) كما صرح أبو حامد الغزالي في لحظة وضوح، وكما سيأتي تفصيله في سياق قادم.

وهنا قد يثور تساؤل من نحو: ماذا يتبقى في الدين بعد استبعاد المذاهب؟. وجوابنا واضح: يتبقى الدين الذي اكتمل قبل مجيء المذاهب!. أي مجموع النصوص الثابتة وروداً وحجية بصورة قطعية.

إن استبدال شعار "فصل الدين عن الدولة" بشعار "فصل الدولة عن المذهب" هو حل يتسم بميزات كثيرة منها:

 1: أن هذه الصيغة المعدلة لمفهوم العلمنة تحل العلمانيين من الحرج الذي يقعون فيه عند مطالبتهم باستبعاد الدين من مرجعية الدولة. ويوقع المذهبيين في حرج مماثل حين يصرون على جعل المذهب - وليس الدين - مرجعاً للدولة. وهو ما يعني تحييد أقوى حججهم في الصراع مع العلمانية.

 2: هذه الصيغة كفيلة بطي معظم نقاط الخلاف بين التيارين الديني التقليدي وخصومه بمختلف مشاربهم، وخاصة تلك الخلافات الفقهية والفكرية حول قانوني العقوبات والأحوال الشخصية نحو: قوانين عقوبة الردة وعقوبة الرجم للزاني المحصن، وقوانين الزواج المدني وأنصبة المواريث، وغيرها من المفاهيم المشكلة أمام الحياة المدنية الحديثة.

الفصل الأول


هذه الدراسة تفترض وجود مشكلة، سواء أكانت هذه المشكلة مفتعلة كما نعتقد، أو حقيقية كما يعتقد أصحابها. ومن ثم فإنها تفترض وجود حلٍ لهذه المشكلة، إذ لا مشكلة من دون حل، كما يقول الأثر الدارج. ثم إن هذه الدراسة تتوسل بطريقة منهجية مخصوصة للوصول إلى ذلك الحل. وسواء أكانت المشكلة حقيقية أو مفتعلة فإنها في الحالتين تظل مشكلة. وسواء أحصل الحل على كامل الرضى من أطراف الصراع حولها أو لم يحصل، فإنه لا مناص من البحث عن حل. وليس من شرط الحل الناجع والسديد أن يحصل على رضى جميع الأطراف المتخاصمة. ولا من شرط المنهج المتبع في الحل أن يكون معروفاً للجميع. إذ يكفي أن يكون الحل مزيلاً للخلاف، مبقياً على أصول العقائد المختلف حولها، وإن أدى إلى استبعاد الفروع الظنية التي تسبب النزاع وتفاقم الصراع. كما يكفي أن يكون المنهج قائماً على أسس معتبرة عند الجميع. والأسس المعتبرة هي الأسس التي حظيت باحترام الخصوم وإن لم تحظ بقبولهم، لاختلاف التأويل والاجتهاد. ومن ذلك – مثلاً - قول أهل السنة: إن مذهب المعتزلة من المذاهب الإسلامية المعتبرة، وإن كنا نختلف معها.

أما المشكلة فهي ذلك الصراع المحتدم بين فريقين مسلمين، الأول يؤمن بأن للدين حدوداً في حياة الإنسان لا بد أن يقف عندها ولا يتعداها إلى غيرها من حدود الدنيا. ويطلق على هذا الفريق اسم "العلمانيين". والآخر يؤمن بأن الدين (الإسلام تحديداً) يغطي كامل النشاط الإنساني، ولا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا تعرض لها بالبيان. وغالباً ما يقصد بالتغطية مفهوماً قانونياً (لكل تصرف حكم شرعي)، ويطلق على هذا الفريق اسم "الإسلاميين".

 هذا النزاع – أيا كانت درجة توتره وحضوره – لا بد أنه قد أثمر ويثمر كثيراً من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية على المستويات كافة. والقرائن الظاهرة تدل على أن هذا الصراع مرشح للتفاقم مستقبلاً. خاصة بعد أحداث الربيع العربي الأخيرة، التي أثمرت مزيداً من الوعي السياسي، وأدخلت إلى ساحة الصراع قطاعات جديدة وكبيرة من الجمهور العام، لها تأثيرها المباشر والحاسم في الحياة السياسية. وبعد عودة رايات الصراع المذهبي التقليدي إلى سطح الحياة العربية، عقب أفول نجم المد القومي، وفشل الدولة القومية في تحقيق العدالة والتنمية والاستقلال السياسي.

وأما الحل المقترح فهو مركب نظري جديد من الإسلام العلماني أو العلمانية المسلمة، أطلقنا عليه اسم "العلمانية الثالثة". وهو مركب يحاول الحصول على مناطق صلبة مشتركة بين طرفي النزاع، تبقي على الجوهري والحقيقي من المركبين اللذين يعتقد أنهما في حالة خصام (الإسلام والعلمانية)، وتستبعد الطارئ العارض منهما، دون تكلف أو افتيات أو تلفيق، كما سيتضح في طيات هذه الدراسة. وبلغة أخرى فإن الدراسة تحاول إيجاد صيغة نظرية لحل مشكلة الصراع المفتعل بين الدولة المدنية - كما ينشدها الجميع - وبين المذاهب الدينية. وفي مقدمتها المذاهب السياسية التي تستند في تبرير وجودها على النص الديني. أو بالأصح التي تستند في تبرير وجودها إلى "فهمها" للنص الديني. حلاً يزيل مخاوف الطرفين الرئيسين في هذا الصراع: الطرف العلماني والطرف الإسلامي.

ويجدر التنبيه إلى أننا نستخدم كلمتي "علماني" و"إسلامي" بحذر شديد، وبدلالات قد لا تتطابق مع ما في ذهن القارئ من دلالات. فكلمة علماني – كما نقصدها – لا تعني بالضرورة نقيض المسلم. إذ قد يكون العلماني مسلماً - وهو الاحتمال الأكبر حين يكون الحديث عن العلمانية في البلاد الإسلامية - بل قد يكون مسلماً ملتزماً بالمنظور الإسلامي فلسفة ومنهجاً، دون أن تنقص علمانيته – بمفهومها الخاص الذي سيرد معنا في هذه الدراسة – من التزامه الديني شيئاً.

 وكلمة "إسلامي" لا يشترط أن تتطابق تماماً مع كلمة "مسلم". وإنما نقصد بها ما قصده أصحابها الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية. فالإسلامي - عندنا وعندهم - هو ذلك الشخص، أو ذلك الاتجاه، الذي يعتقد أنه يتبنى المنظور الإسلامي فلسفة ومنهجاً. لكن ليس بالضرورة أن يكون اعتقاده هذا مطابقاً للإسلام، فقد يتبنى المرء شيئاً يعتقد – على سبيل غلبة الظن – أنه الحق، ثم يتبن له أو لغيره من المحققين أن ذلك الاعتقاد – كله أو بعضه - محض خطأ ووهم. وهذا الإجراء في التسمية - وفق غلبة الظن - معروف في التراث الإسلامي. ومثله البارز وصف المحدثين للحديث المنسوب إلى النبي (ص) بـ "الصحيح"، مع قولهم إنه لا يلزم من ذلك أن يكون صحيحاً على وجه القطع، وإنما القصد أن شروطاً وضعية معينة قد توفرت فيه .

وأما منهج الدراسة فهو المنهج التحليلي، الذي يفكك المركبات النظرية إلى أبسط عناصرها، ويميز بين جواهرها وظواهرها، بين أصولها وفروعها. ويتضح ذلك – أكثر ما يتضح - في تحليل المفاهيم البؤرية لهذه الدراسة. ذلك أن  تحليل المصطلحات والمفاهيم هو العتبة التي لا غنى عنها في الدخول على الدراسات ذات الطابع الإنساني، فما بالنا إذا كانت هذه الدراسة تتصل بأمرين خطيرين في حياة الفرد والمجتمع، كأمر الدين وأمر السياسة، كما هو حال دراستنا هذه. والمهتمون بعلم اللسانيات – فضلاً عن المختصين – يدركون إلى أي مدى تصبح التناولات العلمية بلا قيمة إذا خلت من التحديد الدقيق للمصطلحات والمفاهيم. وكان الفلاسفة من قديم – وفي مقدمتهم سقراط – والفقهاء قد نبهوا إلى خطورة استعمال المصطلحات غير المنضبطة دلالياً، لأن الناس قد تختلف على مستوى الألفاظ وهم متفقون على مستوى المضامين، من حيث لا يشعرون. قال ابن حزم "والأصل في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد: اختلاط الأسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال" .

إلا أن ممارسة التحليل منفرداً في مثل هذه الدراسة هو بمثابة نصف خطوة في الطريق. أما النصف الآخر فتحققه عملية التأصيل التي تعيد تركيب العناصر المتحللة في الدراسة. وترد الشوارد إلى مواردها والفروع إلى أصولها. والتأصيل هو المنهج المقرب من الدراسات الفقهية تحديداً. وهو شرط أساس في الخروج بأحكام ملزمة للطرف الإسلامي على وجه الخصوص. ولو لم تحصل منه على الاعتراف الكامل والمصادقة التامة، إذ يكون الاستدلال المعتبر هو حد الكفاية في هذه الحال.

ومن بين مصطلحات كثيرة سترد معنا في هذه الدراسة مصطلحات بؤرية مهمة هي: الدين، والمذهب، والأيديولوجيا، والعلمانية، والديمقراطية، والدولة المدنية. وهي من المصطلحات الأكثر شيوعاً في الخطابين الديني والسياسي. وقد ارتأينا أن نتناول بالتحليل كل مصطلح من هذه المصطلحات، كما نفهمه ونقصده في هذه الدراسة، في سياق الحديث عنه بصورة أساسية، أو عند الحاجة إلى التعريف به. وأول ما نتناول بالتحليل مصطلحات: الدين والمذهب والأيديولوجيا. لكونها مفاتيح هذه الدراسة، ولما بينها من وشائج دلالية عالية.

الدين، المذهب، الأيديولوجيا:

لعل من سوء الطالع أن نبدأ هذه الدراسة بالقول إن تعريف مصطلح "الدين" ليس من المهام السهلة لأي باحث، وذلك لسببين اثنين على الأقل، الأول خلو المعاجم العربية من تعريف واضح دقيق لهذا المصطلح، وهو الأمر الذي اشتكى منه الفقيه الكبير محمد عبد الله دراز حين شرع في دراسته الموسومة بـ "الدين" . والآخر هو تعدد واختلاف المفاهيم حول هذا المصطلح حتى عند الفلاسفة والمفكرين الغربيين أنفسهم. وهو الأمر الذي يدفعنا إلى تبني التعريف الذي استقر عليه الدكتور دراز في كتابه سالف الذكر، لما يتسم به هذا التعريف من دقة ووضوح نسبيين، ناتجين عن جهد نقدي ممتاز.

والدين في هذا التعريف هو "الاعتقاد بوجود ذات – أو ذوات – غيبية – علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد. وبعبارة موجزة، هو: الإيمان بذات إلهية، جديرة بالطاعة والعبادة. هذا إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو حالة نفسية state subjective بمعنى التدين.

 أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجية fait objective فنقول: هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها" . ولفظ "الدين" إذا ورد في دراستنا هذه فإنما ينصرف القصد – غالباً - إلى الحقيقة الخارجية كما يسميها دراز. أي إلى "جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها". ويتكفل السياق بالدلالة على المعاني الأخرى لهذا المصطلح إذا وردت.

والأمر في تعريف "المذهب" لا يختلف كثيراً عن تعريف الدين، فالمشكلات النظرية هناك هي نفسها هنا. غير أنه لا مناص لنا من اختيار أقرب معانيه في المعجم إلى مقاصدنا. والمذهب في "القاموس المحيط" هو " المعتقد الذي يُذهبُ إليه، والطريقة، والأصل " . والمذاهب الإسلامية هي تلك الآراء والمعتقدات السياسية والفكرية والفقهية، التي انبثقت من دوران العقل المسلم حول النص الإسلامي، في ما يسمى بعملية الاجتهاد والتدبر، وفقاً لقواعد أصولية ومنهجية تختلف من مذهب إلى آخر. سواء أكانت مذاهب قديمة أو مذاهب حديثة، فردية كانت أو جماعية. والمذهبية أو التمذهب – عند الفقهاء - هو "أن يقلد العامي أو من لم يبلغ رتبة الاجتهاد مذهب إمام مجتهد، سواء التزم واحداً بعينه أو عاش يتحول من واحد إلى آخر" . والشخص المذهبي – من ثم – هو هذا المقلد الذي يلتزم مذهباً فقهياً أو فكرياً بعينه، على الوصف الذي مر آنفاً.

والدراسة تميز- أيضاً - بين مصطلحين متقاربين كثيراً ما تداخلت حدودهما عند المسلمين، فقهاء ومقلدين، هما مصطلح "الشريعة" ومصطلح "الفقه". على اعتبار أن الشريعة هي مجموعة النظم والأحكام الموحى بها إلى النبي محمد (ص) ضمن رسالته التي كلف بإبلاغها للناس كافة. وأن الفقه هو ثمرة اجتهاد العقل المسلم في تدبر نصوص الوحي، وهو مرادف مصطلح الفكر الديني كما نستعمله في هذه الدراسة. أما إذا وردت كلمة شريعة في سياق الحديث عن المرجعية الدستورية للدولة، في طيات هذه الدراسة، فإنما تشير إلى جانب المعاملات والأحكام العادية، دون الأحكام التي توصف بالتعبدية. لأن هذه الأخيرة تخص الأفراد دون الجماعات، والدستور هو قانون الجماعة لا قانون الفرد.

والفقهاء المحققون – أيضاً – يميزون بين هذين المصطلحين، على اختلافٍ بيننا وبينهم في تصور حدود دائرة الوحي المقصودة. حيث تشمل عندهم نصوص القرآن الكريم والأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص)، في حين تقتصر لدينا هذه الدائرة على القرآن الكريم وحده لأسباب فصلناها في دراسة أخرى . وذلك هو معنى عبارة الفقيه الحجوي الفاسي التي تقول: "بالوفاة النبوية انتهى تاريخ التشريع الإسلامي، ولم يبق بعد إلا تاريخ الفقه" . فعبارة "بالوفاة النبوية" تسمح بدخول كلام النبي (ص) واجتهاداته إلى دائرة الشرع، وتستبعد مخرجات المسلمين العقلية من بعده من هذه الدائرة، وهو ما لا نقره، لأسباب علمية سترد معنا بعد قليل. في حين تتسع دائرة الشريعة عند فقيه آخر معاصر مثل محمود شلتوت لتشمل مخرجات الفقهاء أيضاً، حيث عرف الشريعة بأنها "اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله، أو شرع أصولها، وكلف المسلمين إياها، ليأخذوا أنفسهم بها في علاقتهم بالله، وعلاقتهم بالناس" . فعبارة "أو شرع أصولها" تسمح بدخول اجتهادات النبي واجتهادات غيره من المجتهدين إلى دائرة الشرع أيضاً. وهذا التعريف، أو هذه العبارة تحديداً أولى بالرفض من التي سبقتها. وكلاهما زائدة عن حد الكفاية في تعريف الشريعة، وذلك للأسباب الآتية:

اتفق جمهور علماء المسلمين على أن النبي محمد (ص) كان له مقام الاجتهاد إلى جوار مقام البلاغ، واحتجوا على ذلك بأدلة لا مجال للنزاع فيها إلا على سبيل التكلف . ومن مقتضيات ذلك أن لا ينظر إلى اجتهادات النبي بوصفها جزءاً من الرسالة الموحى بها، لاختلاف طبيعة الوحي الرسالي عن طبيعة الاجتهاد اختلافاً نوعياً. فالرسالة – في إحدى خصائصها - عابرة للزمان والمكان. أما الاجتهاد فهو فهم بشري قصد به تنزيل قيم الرسالة وأحكامها على الوقائع الزمنية. وهو لهذا محكوم بظروف الزمان والمكان كما يقول الفقهاء . وهذا الحكم يصح على اجتهادات النبي كما يصح على اجتهادات غيره من المجتهدين، ما دام بشراً خاضعاً في فهمه لشروط الزمان والمكان.

 أما قول بعضهم إن اجتهادات النبي قد صارت في منزلة الوحي بمجرد سكوت الوحي عنها وقت التنزيل، مما يعد تصحيحاً لها، فهو قول عارٍ عن الحصافة فضلاً عن الفقه. ذلك أن سكوت الوحي لا يدل - بالضرورة - على صلاحية هذه الآراء لكل عصر ومصر، بل يدل فقط على أنها صالحة لزمانها ومكانها. وإلا اطرد الحكم على كل ما سكت عنه الوحي في زمن التنزيل، ومن ذلك أفعال الصحابة واجتهاداتهم. فإذا قيل إن هذا الحكم خاص باجتهادات النبي وحدها وقت التنزيل، سألناهم: وماذا عن اجتهاداته بعد انقطاع التنزيل، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً. (المائدة3)؟. وقد لحظ الفقيه المعاصر محمد رشيد رضا هذا الإشكال وصرح بأن تصويبات القرآن الكريم لاجتهادات النبي (ص) الخاطئة ليست سوى عينة محدودة جاءت للتدليل على بشريته، وليس في القرآن دليل واحد على أنه قد تم تصويب كل اجتهادات النبي لوقائع زمنه. وفي السيرة شواهد كثيرة على صحة ذلك.

إذن فإن هذه الدراسة ستتعرض - بصورة أو بأخرى - للمذاهب التي عرفت في الأدبيات الإسلامية بالمذاهب الإسلامية، وهي ثلاثة أنواع تاريخية: المذاهب السياسية، التي اختلفت حول موضوع الخلافة والإمامة (الرئاسة). والمذاهب الفكرية التي اختلفت في قضايا فلسفية، كقضية الجبر والاختيار وما شابه ذلك من القضايا ذات البعد الفلسفي، في القديم والحديث. والمذاهب الفقهية التي اختلفت في مسائل الأحكام والمعاملات الشرعية ذات الطابع القانوني. لكن صلب حديثنا سيكون موجهاً ناحية المذاهب السياسية، لأنها سيدة الصراع. كما أنها ستتعرض – كذلك – لذكر المذاهب الوضعية الراديكالية ذات الطابع الشمولي، والتي اصطلح على تسميتها في الأدبيات الإنسانية المعاصرة بـ " الأيديولوجيا ". وتعد الماركسية – بتجلياتها التطبيقية المختلفة - هي الممثل التقليدي البارز لهذا النوع من المذاهب. والأيديولوجيا – كما وردت في مستهل مقالة دائرة المعارف البريطانية – : " هي شكل من أشكال الفلسفة السياسية أو الاجتماعية، تظهر فيها العناصر التطبيقية بالأهمية نفسها التي تظهر فيها العناصر النظرية. فهي إذن منظومة فكرية تدعو إلى تفسير الدنيا، وإلى تغييرها في آن واحد " .

وعلى الرغم من أن كلمة "مذهب" هي إحدى ترجمات كلمة "أيديولوجيا" إلا أننا  ارتأينا في هذه الدراسة أن نقصر مصطلح " أيديولوجيا " للدلالة على المذهب الوضعي فحسب. في حين نستعمل كلمة "مذهب" للدلالة على المذاهب الدينية. وذلك من باب الإجراء الذي يسهل علينا عملية التحليل. ومع ذلك فإن هذا التمييز الإجرائي في دلالة هاتين اللفظتين ليس عملا اعتباطيا، وإنما هو توظيف للواقع التداولي لكل منهما في الوسط الثقافي والمعرفي. كما سيرد معنا مصطلح فرعي هو مصطلح "راديكالي"، ونعني به صاحب الاتجاه النظري والتطبيقي الذي يتبنى رؤية شمولية للعالم ورؤية جذرية في التغيير .

ويجدر التنبيه – أيضاً – إلى أننا ننطلق في هذه الدراسة التحليلية من بدهية تقول إن المذاهب الدينية لا تعدو أن تكون محاولات بشرية منظمة لفهم النص الديني، أو ما يعتقد أنه نص ديني. وأن هذه المحاولات تقع في التاريخ. والتاريخ هو ظرف الزمان والمكان الذي  يتسم بالحركة والتطور. مما يعني أن أياً من هذه المذاهب لا يمكن أن يتسم بالثبات والديمومة، فضلاً عن أن يتسم بالقداسة. وأي محاولة باتجاه تثبيت المذهب، فإنما تريد القول بأن ما ينتجه البشر مساوٍ - في القيمة – لما ينزل من السماء وحياً إلى الأنبياء. وهو معنى يدخل في باب الشرك بلا جدال. ومن ثم فإن المذهب الديني لا يعد جزءاً من الدين المقدس، وإنما هو جزء من الفكر الديني. باعتبار أن الدين هو – فقط – ذلك المنزل السماوي الموحى به إلى النبي. وأن الفكر الديني هو ثمرة دوران العقل المتدين حول النص الديني. وهو بطبيعته ناتج مدني صرف. وهذا ما علمه وصرح به الفقهاء المحققون قديماً وحديثاً، كما سنرى ونحقق في طيات هذه الدراسة.

لاشك أن القارئ سيجد بعض الغموض في هذه الدراسة، لكنه ليس غموضاً ناتجاً عن انبهام الحقيقة أو عن ارتباك الفكرة، بل هو غموض ناتج عن تلك الطبيعة التي تتسم بها كل محاولة ترمي لإعادة تعريف وتأصيل المفاهيم، خارج حدود المتعارف عليه. وهو الأمر الذي حرصت عليه هذه الدراسة حرصاً شديداً. تفادياً للوقوع في الخطأ الشائع الذي تقع فيه معظم الدراسات الشبيهة، ألا وهو خطأ الخوض في التنظير قبل البت في تحديد المصطلحات تحديداً دقيقاً واضحاً يمنع اختلاف التصورات حولها قدر الإمكان.
إن هذه الدراسة تطمح إلى وضع نظرية – أو ملامح نظرية - في الفكر السياسي الإسلامي، تقوم على إعادة تعريف المصطلحات وإعادة تحديد المفاهيم المشتبكة في هذا السياق. تعريفاً يتسم بالوضوح والدقة والمقبولية الدينية والعلمية، بشرط أن يفهم كل عنصر من عناصرها داخل النسق الذي وضعت فيه. وأي محاولة لفهم عناصر هذه الدراسة خارج نسقها، سيكون مآلها – في الغالب – سوء الفهم وإساءة الظن.

الدولة والمذاهب:

نقصد بمصطلح الدولة هنا معناه الخاص، أي النظام السياسي السيادي (الجهاز الحاكم)، لا معناه العام الذي يشمل كلاً من الشعب والإقليم والحكومة. والدولة بهذا المعنى الخاص هي "مجموعة المؤسسات السياسية والقانونية السيادية التي تصون سلامة واستقرار المجتمع داخلياً من خلال الدستور والقانون، ولها حق استخدام القوة بشكل قانوني لتطبيق القانون لضبط حركة المجتمع، كما تتولى صيانة الاستقلال والدفاع وحفظ الأمن من أي عدوان خارجي، وتنظم عملية استغلال الموارد الطبيعية، وخدمة مصالح المجتمع، وإدارة العلاقات مع الدول الأخرى. وهي تعبر عن السلطة التنفيذية بشكل عام، ومقيدة بسلطة الدستور والقانون" .

ولسنا هنا بصدد التأريخ للعلاقة الجدلية بين الدولة والمذاهب الدينية على وجه العموم، ولا بصدد التأريخ للدولة والمذاهب الإسلامية، السياسية والفكرية والفقهية، على وجه الخصوص. فقد صار أمر ذلك مشتهراً ولا يحتاج إلى مزيد بيان. وإنما نحن بصدد تأكيد حقيقة صارت من المسلمات في علم الاجتماع السياسي، وإن لم تصبح مسلمة عند المذهبيين الإسلاميين. حقيقة تقول: بأن علاقة المذاهب الدينية – السياسية خاصة – بالدولة، قد جنت على الدولة وعلى المذهب معاً. وهذا يصدق على الحالة الإسلامية كما يصدق على الحالات الأخرى المشابهة في أوروبا وغيرها . يقول الأستاذ جمال البنا: " وأدت بنا دراسة الحكم منذ أن ظهر من أقدم العصور حتى العهد الحديث إلى المبدأ المحوري الذى حكم سياق وروح الكتاب (يعني كتابه)، ألا وهو أن السلطة - التي هي خصيصة الدولة - تفسد الأيديولوجيا (العقيدة) وأن هذا الإفساد هو في طبيعة السلطة ولا يمكن أبداً أن تتحرر منه. وأن أي نظام يقترن بها، بفكرة إصلاحها، لابد وأن تفسده.. وإن أي نظام يحاول تطويعها لا بد وأن تطوعه، وبدلاً من أن يكون سيدها يصبح تابعها" .

وقد وصلت الأمم الحديثة اليوم إلى قناعة بأن تداخل السياسي بالمذهبي مفسد للدين وللدولة معاً، ومن ثم فهو - بالضرورة - مفسد للاستقرار والنماء الاجتماعيين. واهتدت هذه الأمم إلى حل وجدته - بالتجربة - أفضل الحلول الممكنة لتحقيق هذا الاستقرار وذلك النماء المطلوبين، ألا وهو ما نسميه اليوم بـ "حل الدولة المدنية ". ومفهوم "الدولة المدنية" لا يزال يعاني بعض الضبابية والغموض الناتج عن شحة المصادر الشارحة له في المقام الأول. إلا أن صاحب هذه الدراسة كان قد استقر على رأي في مفهوم الدولة المدنية، يظنه الأقرب إلى مراد من يستعمل هذا المصطلح في السنوات الأخيرة، والأكثر حسماً بين دلالاتها العائمة.

فالدولة المدنية – كما نفهمها – هي نقيض الدولتين العسكرية والثيوقراطية. وهذا التعريف بالسلب يتضمن مفهومها الإيجابي. إذ أن نقيض الدولة العسكرية (البوليسية) هو الدولة الديمقراطية، ونقيض الدولة الثيوقراطية (دولة الحق الإلهي) هو الدولة العلمانية. ومن ثم يمكننا القول إن الدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على ركيزتين أساسيتين هما الديمقراطية والعلمانية. الديمقراطية بوصفها حلا لمشكلة الاستبداد، الذي من طبيعته أن يتجلى في حالة عسكرية، والعلمانية بوصفها حلاً لمشكلة تداخل الديني بالدنيوي في شئون الدولة والسياسة.

لكن مهلاً، فنحن نستعمل مصطلحات هذه الدراسة – كما أشرنا من قبل - بدلالات مختلفة لا تتطابق - بالضرورة - مع الدلالات الشائعة في الأوساط المعنية، وإن تقاطعت معها في نقاط كثيرة مشتركة. وفي مقدمة ذلك مصطلح العلمانية، الذي حملناه دلالات خاصة سيرد بيانها في السطور القادمة. ومن ثم فقد لزم تحذير القارئ من أن يعمد إلى تفسير مصطلحات هذه الدراسة وفقاً لما في ذهنه من دلالات وإيحاءات وظلال. لأنه إن فعل ذلك قد يقع في مشكلة إساءة الفهم، وربما إساءة الظن بالبحث وصاحبه، وهو ما لا يحتاجه الطرفان هنا.. فما العلمانية وما دلالتها في هذه الدراسة؟.

يعد لفظ العلمانية من أكثر الألفاظ شيوعاً في الأوساط السياسية والمعرفية العربية المعاصرة، نتيجة لكثرة وروده في السجال الفكري والأيديولوجي بين فرقاء الفكر والسياسة العرب. وقد اكتسبت هذه اللفظة سمعة سيئة في المجتمعات الإسلامية منذ ظهورها، نتيجة للهجمة الواسعة التي شنها عليها الخطاب الديني التقليدي خلال العقود الماضية من القرنين العشرين والحادي والعشرين. كما تم تداولها في هذا السجال بدلالات غامضة ومضطربة في كثير من الأحيان، من قبل مختلف أطراف النزاع حولها. ونظراً لمركزية هذا المصطلح من هذه الدراسة فإن من اللازم علينا بيان حدوده كما نقصدها، وذلك يقتضي التعريج على تاريخ هذا المصطلح في سياقه الغربي الذي أنتجه، بصورة موجزة:

كلمة علمانية هي ترجمة لكلمة "سكيولاريزم" (secularism) المشتقة من اللفظة اللاتينية سَيكولوم (saeculum) والتي تعني العالم أو العصر أو الجيل. وقد سجل المؤرخون أول ظهور لكلمة "سكيولار" (secular) عند توقيع صلح وستفاليا العام 1648م نهاية حرب الثلاثين. وجاءت حينها بدلالة جديدة تعني "نقل أملاك الكنيسة إلى سلطات سياسية غير دينية". ثم استعملت في القرن الثامن عشر من قبل جماعة الفلاسفة الموسوعيين بمعنى المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة، في مقابل معناها عند رجال الكنيسة الذي منحها دلالة المصادرة غير الشرعية لهذه الممتلكات .

 وكان أول من استعمل كلمة سكيولاريزم (secularism) بدلالتها المعاصرة هو الفيلسوف جون هوليوك في القرن التاسع عشر. ومنحها تعريفا يقول: العلمانية هي " محاولة إصلاح حال الإنسان، بالطرق المادية، دون التعرض لمسألة الإيمان بالنفي أو بالإثبات " . لكن معاني هذه اللفظة لم تستقر عند حدود المفهوم الذي وضعه هوليوك، بل أخذت تترحل في السياقات بمعان ودلالات جديدة طوال القرن العشرين، كان أشهرها "فصل الدين عن الدولة" . ونتيجة لكثرة دلالات هذه الكلمة واختلاطها في استعمال الكتاب والمثقفين الغربيين، اقترح بعضهم إسقاطها من الاستعمال كلية، والاستعاضة عنها ببدائل أخرى أكثر وصفية وحياداً . وهو ما حرض المفكر العربي الدكتور عبد الوهاب المسيري لإنجاز دراسة موسعة عن العلمانية ومشكلاتها، اقترح فيها تصوراً جديداً لمفهوم العلمانية، يأخذ بالاعتبار تاريخ هذه اللفظة منذ نشأتها وحتى نهاية القرن العشرين تقريباً.

وخلاصة هذا التصور أن العلمانية ليست شيئاً ثابتاً مستقراً ناجزاً، وإنما هي متتالية نماذجية تأخذ في كل مرحلة من مراحل سيرورتها معنى إضافياً أو مختلفاً بحسب سياق الاستعمال. مع الاحتفاظ بقدر مشترك ثابت من المعنى. هذه المتتالية يمكن النظر إليها باعتبارها خطاً عمودياً، له حد أدنى، تمثله العلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، ويطلق عليها المسيري وصف "العلمانية الجزئية". وحداً أعلى تمثله العلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الحياة، ويطلق عليها وصف "العلمانية الشاملة". كما يمكن النظر إليهما باعتبارهما دائرتين متداخلتين إحداهما كبرى هي العلمانية الشاملة، والأخرى صغرى هي العلمانية الجزئية.

وكان الدكتور المسيري قد رشح العلمانية الجزئية للمجتمعات الإسلامية لحل مشكلة الصراع الديني على السلطة . دون أن يمهد لهذا الترشيح بالمقدمات التفسيرية الكافية. بل أنه لم يضع حدوداً واضحة لمفهوم فصل الدين عن الدولة في صيغة العلمانية الجزئية. ولأن هذا التعريف الفضفاض يسمح باستبعاد الدين (الوحي)، مع ما تشكل حوله من فكر ديني مذهبي، من مرجعية الدولة، فإننا نتحفظ عليه لأسباب ديمقراطية قبل الأسباب الدينية. وهو الأمر الذي دفع صاحب هذه الدراسة للتفكير في صيغة جديدة للعلمانية، تصلح للمجتمعات الإسلامية، أطلق عليها اسم "العلمانية الثالثة". وعبارة " تصلح للمجتمعات الإسلامية " تعني – فيما تعني – الصيغة التي ارتضاها الإسلام نفسه للعلمانية. فهل هذه الصيغة ممكنة الوجود والتحقق؟.

العلمانية الثالثة: مفاهيم وحدود.

إن التفكير في صيغة جديدة لمفهوم العلمانية لا يعد ترفاً فكرياً كما قد يتصور البعض. فقد سبق القول إن العلمانية – باستثناء الشاملة – هي عنصر أساس في مركب الدولة المدنية، وأن الدولة المدنية هي الخيار الذي لا مناص منه لحل مشكلة المجتمعات غير المستقرة بسبب الاستبداد السياسي أو بسبب الصراع على السلطة. كما نبهنا إلى أن العلمانية ليست صيغة واحدة في كل زمان ومكان، ولا هي خصوصية من خصوصيات مجتمع بعينه، وإنما هي حالة مرنة تقبل التشكيل بحسب الشروط الثقافية والضرورات الدينية لكل مجتمع. بشرط أن لا يأتي هذا التشكيل على حساب جوهرها الأصيل. وجوهر العلمانية الأصيل هنا هو فصلها بين ما ينتمي إلى عالم الدنيا وما ينتمي إلى عالم الدين.

ولكي تكون هذه الصيغة الجديدة عملية ومقبولة لدى المجتمعات الإسلامية لا بد أن تلبي بعض الشروط التوافقية، وفي مقدمتها أن لا تأتي هذه الصيغة على حساب جوهر الدين أيضاً. وكلمة "جوهر" التي نستعملها هنا تتضمن اعترافاً بوجود "أعراض" قد تحسب على الدين أو على العلمانية، وهي في الحقيقة لا من هذا ولا من ذاك، وإنما هي من عوارض التاريخ وملابساته. وكل ما تطمح إليه أطروحة "العلمانية الثالثة" هو الكشف – في المقام الأول – عن الحد الحقيقي الفاصل بين ما ينتمي إلى دائرة الدين وما ينتمي إلى دائرة الدنيا، وذلك على المستوى النظري. والدعوة إلى تنحية ما يثبت أنها أعراض تاريخية طارئة على مفهومي الإسلام والعلمانية جانباً، على المستوى التطبيقي.

لكن، ما المعيار الموضوعي للتمييز بين جوهر العلمانية وأعراضها، وبين جوهر الدين وأعراضه يا ترى؟.
ليس أمامنا سوى معيارين اثنين هما معيار "النص"، ومعيار "حد الاتفاق". ونقصد بالنص العبارة التي لا يختلف على دلالتها أصحاب اللسان. وحين يتعلق الأمر بالدين فإن المقصود بالنص العبارة الدينية المتفق على حجيتها وثبوتها ودلالتها، بأي صورة لفظية من صور الدلالة المعروفة عند فقهاء اللغة. وقد أجملها الأصوليون في أربع صور هي: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، ومقتضى النص .

أما معيار "حد الاتفاق" فالمقصود به تلك النسبة المتفق عليها بين أهل الشأن في حد الظاهرة. وعند تنزيل هذا التعريف على موضوعنا الراهن يصبح المقصود بحد الاتفاق هو تلك النسبة المتفق عليها بين جماعة العلمانيين في تعريف العلمانية، والنسبة المتفق عليها بين جماعة المسلمين في تعريف الإسلام. فهل هذا ممكن في مجال الظاهرتين: العلمانية والإسلام؟.

بتطبيق المعيار الأول (النص) على مفهوم العلمانية يتبين أن لا وجود لنص مجمع عليه بين العلمانيين على تعريف العلمانية كما أسلفنا من قبل. ومن ثم فقد أصبح من حق كل مستعمل لهذا اللفظ أن يحده بالحدود التي تناسبه. غير أن معيار حد الاتفاق يضبط المسألة، إذا ما علمنا أن جماعة العلمانيين لم يتفقوا في حد المفهوم سوى على ذلك المستوى العام الذي يشير إلى "عالم الدنيا"، دون عالمي الدين والآخرة. والعلمانية بهذا الحد تعني كل ما ينتمي إلى عالم الدنيا فقط. وهو الحد الذي تشير إليه دلالة اللفظة في أصل وضعها العربي أيضاً. ويظل سقف العلمانية هنا مفتوحاً إلى الحد الذي يسمح به المجتمع، أو لنقل إلى الحد الذي يسمح به الإسلام في المجتمعات العربية، كما ترى أطروحة العلمانية الثالثة. فما سقف العلمانية في الإسلام يا ترى؟. قبل الإجابة على السؤال لا بد من معرفة حدود الإسلام نفسه من حدود الفكر الإسلامي، وفقاُ لمعياري النص وحد الاتفاق.

يمكننا القول باطمئنان أن لا وجود لنص يميز - تمييزاً قاطعاً وصريحاً - بين مفهومي الإسلام والفكر الإسلامي، إلا أن بعض آيات القرآن الكريم تستبعد من دائرة الدين - بمقتضى عبارتها - بعض العناصر المشتبه بانتمائها إلى الدين، وذلك مثل قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. (المائدة 3). فهذه الآية تستبعد - يقيناً - من دائرة الإسلام / الدين كل ما ظهر بعد ذلك من مذاهب وآراء حول النص الديني. لكننا لا نستطيع – إلى حد الآن – القول بأن الآية قد دلت - بمقتضى عبارتها - على أن القرآن الكريم هو النص الوحيد الذي يمثل الإسلام الدين. فما زال لدينا نص وسيط بين القرآن وبين المذاهب الإسلامية، لا نريد الجزم بانتمائه إلى هذه الدائرة أو تلك، إلا على سبيل المذهب والرأي، توخياً للموضوعية العلمية، ألا وهو ذلك النص المنسوب إلى النبي (ص) والمسمى بالحديث النبوي . وهنا يتدخل معيار "حد الاتفاق" لحسم المسألة. فمن المعلوم أن جماعة المسلمين لم تتفق على كون الحديث المنسوب إلى النبي (ص) يعد جزءاً من الدين، لا على مستوى الإجمال ولا على مستوى التفصيل.

وإذا ما اعتبرنا طائفة "القرآنين" - التي تنفي أن يكون كلام الأنبياء خارج الرسالة السماوية من الدين - من الطوائف الإسلامية المعتبرة، ففي ذلك برهان كافٍ على خرق مقولة أن المسلمين قد أجمعوا على اعتبار كلام النبي من الدين الموحى به. وخرق هذا الإجماع ينزل بسقف المتفق عليه بين المسلمين إلى مستوى القرآن الكريم، وحده لا شريك له، وما دل عليه من سنن عملية مفروضة ومتواترة. أما في حال أصر البعض على اعتبار هذه الطائفة من خارج السور الإسلامي، وهو ما لن يحدث، أو لنقل ما لن يحدث بالإجماع ، فإن في مواقف الطوائف الإسلامية الأخرى المعتبرة تاريخياً، الحجة الكافية على حقيقة أن المسلمين لم يتفقوا على اعتبار الحديث المنسوب إلى النبي (ص) جزءاً من الدين / الإسلام. لا لأنهم نفوا حجيته الدينية صراحة، وإنما لأن مواقفهم التفصيلية منه لا تختلف في النتيجة عن نفي حجيته الدينية. وهذا موجز تاريخي لمواقف المذاهب الإسلامية وبعض فقهاء المسلمين في القديم والحديث من هذه المسألة:

اتفقت جميع المذاهب الإسلامية على أن الحديث المنسوب إلى النبي (ص) لم يرد بطرق متواترة كما ورد القرآن الكريم والسنن العملية المفروضة، باستثناء روايات معدودة حولها خلاف بين المختصين . ثم اختلفوا بعد ذلك في حكم الروايات التي وردت عن طريق آحاد الرواة، أو التي لم تبلغ حد التواتر، هل تفيد العلم (اليقين) أم تفيد الظن؟ . فكان رأي أغلبية المذاهب الإسلامية على أن روايات الآحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن. ثم اختلف هؤلاء مجدداً حول ما يترتب على القول بظنية هذه الأحاديث من حيث ثبوتها. فكان رأي المعتزلة عدم جواز العمل بها، لا في الأصول ولا في الفروع. لأن القرآن الكريم نهى عن اتباع الظن في الدين. بينما كان رأي الظاهرية والحنابلة وجوب الأخذ بهذه الروايات في إثبات العقائد والأحكام على السواء، وهو عكس موقف المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والخوارج. وتوسط الأشاعرة بين الفريقين فقالوا: لا يجوز الأخذ بروايات الآحاد الظنية في مجال الأصول، لأن القرآن نهى عن اتباع الظن في هذه المواطن، لكن يجب الأخذ بها في مجال الأحكام الفرعية قياساً على الشهادات التي تقام عليها بعض الأحكام الفرعية، مثل شهادة إثبات الزنا وشهادة إثبات النسب، وما شابه ذلك .

ذلك على مستوى المذاهب الجمعية، أما على مستوى أفراد الفقهاء داخل هذه المذاهب، فقد كان لبعضهم مواقف تفصيلية تطيح بهذا القدر أو ذاك من مجالات الحديث المنسوب إلى النبي، لا من باب عدم الثبوت أو الصحة، وإنما من باب عدم حجيتها الدينية. فابن خلدون – مثلاً - استبعد في مقدمته أن تكون أحاديث "الطب النبوي" من دائرة الوحي، واعتبرها جزءاً من ثقافة عصر النبي (ص)، قال: "والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل, وليس من الوحي في شيء, وإنما هو أمر كان عادياً للعرب وقع في ذكر أحوال النبي عليه الصلاة والسلام, من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة, لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل, فإنه عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليعلمنا الشرائع, ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العادات . ويعتقد الشيخ محمد الغزالي أن ما يسمى بأحاديث الفتن والملاحم وعلامات الساعة ليست من وحي السماء وإنما هي توقعات النبي الاجتهادية إن صحت نسبتها إليه . والمفكر الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان يقول: إن حديث النبي (ص) برمته ليس من "البلاغ" الذي كلف به الرسول صلى الله عليه وسلم, لعدم توفر سمة البلاغ فيه, ومن ثم فهو من اجتهاد النبي الصادر عنه بحكم بشريته . أما المرجع الشيعي المعاصر محمد حسن الأمين فيرى أن الحديث النبوي جزء من التاريخ لا جزءاً من الوحي والرسالة  .

وبغض الطرف عن الموقف النقدي التفصيلي لهذه المواقف الجمعية أو الفردية من الحديث المنسوب للنبي محمد (ص)، إلا أن دلالتها الأكيدة تقول: إن جماعة المسلمين لم تتفق على اعتبار ما بين أيديها من أحاديث منسوبة إلى النبي وصحابته من دائرة الإسلام / الدين. وهذا وحده كاف في اعتبار المسألة جزءاً من مسائل الفكر الإسلامي، التي تخرج بموضوعها من دائرة الدين المقدس إلى دائرة المذهب والاجتهاد. وهذا هو مضمون العبارة التي نقلها الشيخ محمد الغزالي عن شيخه محمد البهي، والتي سترد معنا بعد قليل.
إذن فقد تبين أن المسلمين لم يتفقوا على شيء من معنى الدين سوى القرآن الكريم مجملاً لا مفصلا، وما دل عليه من سنن عملية تسمى الفروض الدينية. كما ثبت أن جماعة العلمانيين لم يتفقوا على شيء من معنى العلمانية سوى ذلك الحد الذي يشير إلى ما ينتمي إلى العالم الدنيوي، دون ما ينتمي إلى الدين أو العالم الآخر. وبناء على ذلك يمكننا القول إن حقيقة العلاقة بين الإسلام والعلمانية لم تتحدد بعد. وأن السجال الذي حدث طوال العقود الماضية لم يكن بين الإسلام الخالص والعلمانية المحضة. بل كان سجالاً بين الفكر الإسلامي وبين مذاهب علمانية معادية للدين في أغلب الأحيان. ومن الصحيح – أيضاً – القول بأنه كان سجالاً بين سوء الفهم هنا وسوء الظن هناك. وهو ما يمنحنا المبرر لإعادة النظر في حقيقة العلاقة بين مفهومي العلمانية والإسلام.

والفصل بين مفهومي الدين والفكر الديني ليس شيئاً نستنبطه وحدنا. بل هو رأي المؤسسة الدينية نفسها، يعلنه بعض رجالها الممتازين، من أمثال الفقيه المعاصر الشيخ محمد الغزالي الذي ينقل عن شيخه محمد البهي جملة ذهبية في هذا الشأن، تقول: "إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه، والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه" . وهذا التعريف يُخرج من دائرة الدين كل ما نسب إلى النبي (ص) من الروايات الحديثية، كما يخرج منها – من باب الأولى – كل منتجات الفقهاء في الماضي والحاضر والمستقبل.

وحين نقول إن هذا الجهد الفقهي أو ذاك، ينتمي إلى دائرة الدنيا لا إلى دائرة الدين، فإنما نعني أنه جهد علماني - بحكم طبيعته لا بحكم مقاصده - وفق تعريفنا للعلمانية الذي ارتضيناه في السطور السابقة. وهذا القول ليس رأياً خاصاً بالباحث، بل هو رأي المؤسسة الدينية نفسها، ينطق به - نيابة عنها - واحدٌ من أهم فقهاء الإسلام في تاريخه، هو أبو حامد الغزالي، إذ يروي عنه الفقيه المالكي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في موسوعته " الفكر السامي " عبارة تقول: " فإن قلت لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وألحقت الفقهاء بعلماء الدنيا فاعلم ]أنه..[ مست الحاجة إلى سلطان يسوسهم به ]أي الناس[ والفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات " .

 فالإمام الغزالي ينظر إلى الفقه باعتباره قانوناً مدنياً للمجتمع السياسي. وينظر إلى الفقهاء باعتبارهم رجال قانون مدني لا علماء دين بالمعنى الثيوقراطي.  وبناء على ما مضى يتضح أن الفكر الديني - متضمناً الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص) وكل منتجات الفقهاء في القديم والحديث والمستقبل – يعد من الأعراض التاريخية للظاهرة الدينية، لا من الدين نفسه.

ولاشك أن هذا الرأي لن يمر على القارئ دون أن يثير بعض الأسئلة، وربما بعض التحفظات. وهذه الدراسة حريصة على الوصول مع القارئ إلى كلمة سواء. وتعتقد أن السبيل الأقصر إلى هذا الهدف هو المزيد من الصدق والوضوح. ولهذا فإنها ستعمل على طرح أهم الأسئلة التي من المتوقع أن توجه لأطروحة العلمانية الثالثة بهدف مناقشتها نقاشاً علمياً هادئاً.

العلمانية الثالثة: أسئلة وردود:

هناك علامات استفهام - وربما استنكار - عديدة لا بد أن تثيرها أطروحة العلمانية الثالثة عند طرفي النزاع التقليديين: العلمانيون الراديكاليون والإسلاميون. بعض هذه الأسئلة، أو الاعتراضات، يتعلق بمفهومي الدين والفكر الديني، وعلاقة الدين بالدولة في الإسلام. وبعضها الثاني يتعلق بمفهوم العلمانية وطبيعته. وبعضها الأخير يتعلق بالجدوى المتوقعة من تطبيق هذه الصيغة الجديدة من العلمانية على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في بلادنا، وإمكانية هذا التطبيق. وبالمخاوف التي تتركها هذه الصيغة الجديدة عند الطرفين. والسطور القادمة هي محل نقاش هذه الأسئلة المتوقعة.

1: أسئلة العلمانية:

من أسئلة العلمانيين الراديكاليين المتوقعة أن يقال: ما الذي قدمته هذه الصيغة النظرية سوى أنها استبعدت نصف المشكلة، ممثلة في المذهب، وأبقت على النصف الآخر، ممثلاً في الدين؟!. ما جدوى ذلك إذا كان الدين نفسه يتبنى بعض الآراء التي تثير القلق حول بعض القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثل حرية الفكر والاعتقاد وحق التعبير وحقوق النساء والأقليات، وما شابه ذلك؟. ثم أليس إبقاء الدين مرجعاً للدولة سيكون ذريعةً لتدخل رجال الدين في شئون الدولة باسم الدين أيضاً؟!.

وفي الجواب على التساؤلات السابقة نقول:
 ليس واضحاً ولا دقيقاً قولكم إن الإسلام / الدين يمثل نصف مشكلة الدولة والاستقرار والتنمية. وحجتنا في هذا الحكم أمران: الأول أنكم لم تقدموا حتى هذه اللحظة أطروحة علمية علمانية تستطيع أن تميز بوضوح بين مفهوم الإسلام / الدين ومفهوم الإسلام / الفكر. وما زال كثير منكم يخلط بين الدائرتين كما يفعل المسلم التقليدي المتعصب. وأكثر المشكلات التي يثيرها الخطاب العلماني حول الدين مصدرها الفكر الديني لا الدين نفسه. والآخر أن كثيراً مما نسمعه في الخطاب العلماني لا يعدو أن يكون مبالغات خطابية لا تختلف عن مثيلاتها في الخطاب الإسلامي المتشدد. بعبارة أخرى فإن معظم تخوفات التيار العلماني الراديكالي تقوم على أسس انطباعية لا على أسس علمية مدروسة. ومن نتائج الخلط بين دائرتي الدين والفكر الديني عند بعض العلمانيين تصورهم أن مشكلات من مثل: عقوبة المرتد وعقوبة الزاني المحصن وعقوبة شارب الخمر، وما شابه ذلك من العقوبات والأحكام التي تثير قلقهم حول حقوق الإنسان في الإسلام، يتحمل مسؤوليتها الإسلام / الدين. بينما هي في الحقيقة من الأحكام التي بنيت على مصادر الفكر الديني لا على مصادر الدين نفسه. إذ لم يرد أي من هذه الأحكام في القرآن الكريم. وهذا التصور الخاطئ يعد تماهياً علمانياً مع المنظور التقليدي المسطح للإسلاميين.

أما قولكم إن الإسلام / الدين نفسه يحوي كثيراً من النصوص الإشكالية في هذا الصدد فهو كلام على قدر كبير من الصحة. لكن سؤالاً منهجياً يتربص بنا وبكم حول هذه المسألة يقول: هل نتجت هذه المشكلات عن فهم دقيق لنصوص الآيات التي ظاهرها الإشكال، أم نتجت عن فهم قاصر لحقيقتها اللغوية والأصولية والفلسفية؟. إن الباحث على يقين من أن أكثر النصوص القرآنية التي تثير قلق التيار المدني عامة والعلماني على وجه الخصوص قد فهمت فهما قاصراً. وأنها – في أسوأ الأحوال – نصوص تحتمل أكثر من دلالة ومعنى. وسأضرب مثلاً واحداً نموذجياً على ذلك، هو عقوبة حد السرقة في القرآن الكريم. الوارد في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (المائدة 38).

إن آية المائدة السابقة صريحة في طلب عقوبة القطع ليد السارق والسارقة، ولا مجال لتأول كلمة قطع بمعنى "الإغناء والإشباع" كما ذهب إليه البعض، أولاً: لأن الآية اعتبرت القطع نوعاً من التنكيل، وهذا عكس ما يحققه الإشباع والإغناء. وثانياً: لأن الإغناء إما أن يكون قبل الوقوع في السرقة، وهذا لا معنى له، وإما أن يكون بعد الوقوع فيها، وفي هذه الحالة سيعد بمثابة مكافأة للمجرم على فعلته!. لكن هل معنى ذلك أن الآية لا تحتمل تأويلاً آخر من أي نوع، وفق القواعد والشروط المعتبرة؟.

الجواب:
إن الآية تحتمل – يقيناً – أكثر من تأويل، وفي ذلك أكثر من مدخل.
المدخل الأول من تأويل كلمة "اقطعوا" التي ترد في القرآن نفسه بمعنى الجرح لا البتر، قال تعالى في سياق الحديث عن نسوة يوسف: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ. (يوسف31). فالإجماع يكاد ينعقد بين المتأولين على أن القطع هنا بمعنى "الجرح" لا بمعنى البتر. وهذا مسوغ قوي لاعتبار القطع في آية المائدة – أيضاً - بمعنى الجرح لا البتر. والجرح عقوبة معقولة في الحس المدني عندما تفهم في نسقها الشرطي. وكل العقوبات في الإسلام جاءت ضمن نسق كلي شامل، يشترط الإشباع والإغناء ثم ينظر بعد ذلك في العقوبة، وذلك معنى "درء الحدود بالشبهات" الذي استنبطه النبي (ص) من فلسفة العقوبة في القرآن الكريم .

 والمدخل الثاني من تأويل عبارة "السارق والسارقة" التي وردت بصيغة الجملة الإسمية لا بصيغة الجملة الفعلية. إذ من المعلوم في فقه العربية أن الجملة الإسمية تفيد الثبوت والجملة الفعلية تفيد الحدوث ، والمعنى أن السارق والسارقة هنا هما من ثبتت لهما صفة السرقة بسبب تكرارهما لفعل السرقة، لا بمجرد وقوعهما في هذا الفعل لمرة واحدة. ومثل ذلك يقال – أيضاً - عن الزانية والزاني في قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. (النور2).

والمدخل الثالث في تأويل هذه الآية هو مدخل الفلسفة الأصولية. ويقرب مفهومها سؤال يقول: هل الأحكام القرآنية بعللها أم بمقاصدها؟. فإن كانت الأحكام بعللها فهذا يعني أن القطع عقوبة ثابتة للسرقة لا تتغير ولا تتبدل. أما إذا كانت الأحكام بمقاصدها فإن بالإمكان تغيير عقوبة السرقة إلى أي صورة أخرى تضمن المقصد وهو الردع، كالحبس أو الغرامة أو الأشغال الشاقة، أو أي عمل منتج يعوض فيه السارق المسروق تعويضاً إيجابياً، بحسب نظرية التعادلية عند توفيق الحكيم . ويمكن لأصحاب نظرية المقاصد - عندئذ - أن يبرروا وجود عقوبة القطع في القرآن الكريم بغياب الصور الأخرى الممكنة للردع في زمن تنزل الآية، كانعدام السجون، وغياب الدولة، في العصر النبوي.

وليس يعنينا هنا الانتصار لرأي على آخر، ولا بيان مشكلات هذه التخريجة أو تلك، وإنما يعنينا تأكيد حقيقة أن النص الذي كان يثير قلق العلمانيين ليس نصاً قطعي الدلالة عند التفصيل، وإنما هو نص مجمل يحتمل أكثر من تأويل، مما يعني أنه - وإن كان نصاً ديناً على مستوى الإجمال إلا أنه - لا بد أن يتحول عند التأويل إلى حالة مذهبية لا تلزم غير صاحبها. والمقنن مخير بعد ذلك في اختيار ما يشاء من التأويلات، لجعلها قانوناً مدنياً محضاً كما سيرد معنا في تفصيل لاحق. وهذا مجرد مثال نموذجي على ما قد يعتبره العلمانيون أحكاماً مثيرة للقلق في القرآن الكريم.

أما قولهم إن بقاء الدين / الوحي مرجعاً للدولة سيعد ذريعة لتدخل رجال الدين في شئون هذه الأخيرة فهو تخوف مبرر ووجيه أيضاً. غير أن حل هذا المشكل يكمن في العلمانية الثالثة نفسها. لأنها من ناحية قد فصلت تماماً بين دائرتي الدين والفكر الديني، ومن ناحية ثانية قد جعلت وظيفة رجل الدين من الوظائف المدنية لا من الوظائف الدينية، كما دللنا على ذلك بعبارة الإمام الغزالي التي أوردها الحجوي.
ومعنى أن وظيفة رجل الدين مدنية لا دينية هو أنها وظيفة علمانية مثلها مثل وظيفة رجل الفيزياء ورجل التاريخ ورجل الفضاء. ولا يجوز لأي صاحب تخصص من هذه التخصصات المدنية أن يزعم لنفسه مكانة فوق الناس، يحصل بموجبها على امتيازات من أي نوع، ومن يفعل ذلك فإنما يقول - بلسان حاله - أنه معين من قبل الله، وأنه يزاحم الأنبياء والرسل في اختصاصهم.

ومما يترتب على قولنا إن وظيفة الفقه مدنية، وأن الفقهاء رجال دنيا بالمعنى المعرفي لا رجال دين - كما يصفهم الإمام الغزالي - أن يعاد النظر في وظيفة المفتي التقليدي من جذورها. إذ لا مبرر لوجودها من عقل أو من دين. وبلغة هذه الدراسة: لا يوجد نص من الدين قطعي الدلالة على وجوب وظيفة المفتي التي نعرفها. ولك أن تطلع على أهم موسوعة تراثية تختص بوظيفة الفتوى والمفتي، هي موسوعة "أعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم، لتجد أنها خلت من آية واحدة للاحتجاج على وظيفة المفتي. وإعادة النظر في وظيفة المفتي والفتوى الدينيين تعني إزالة الوسائط المفتعلة بين المسلم وبين كتابه المقدس (القرآن الكريم). بحيث لا يكلف المسلم بغير ما يسعه فهمه من النص، ولا يعود إلى عالم النص الديني إلا من باب الزيادة في المعرفة لا من باب الزيادة في التكليف. وبهذا الفهم لدور عالم الدين المسلم لا يصبح من اختصاصه حراسة الدين بالمعنى الكنسي الذي يحمله رجال المؤسسة الدينية.

قد يحتج بعضهم بقول الله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. (النحل 43). أو بقوله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة 122). وليس في أي من الآيتين ما يدل على وظيفة المفتي التقليدية. وقبل البدء في مناقشة هاتين الآيتين لا بد من التذكير مجدداً بأن ما يهم هذه الدراسة هو التدليل على أن بعض الشواهد القرآنية التي يستدل بها على حجية هذا الفعل أو ذاك قد تكون غير قاطعة الدلالة على ما ذهبوا إليه. فإذا ثبت ذلك أخرجنا الخلاف من منطقة الدين إلى منطقة المذهب، وأصبح من حق كل مسلم أن يدلي بدلوه فيه. والأهم من ذلك، أن يصبح محرماً - بحكم الدين والقانون - تحويل الرأي المذهبي إلى عقيدة دينية يمتحن الناس بها، وتذهب ريحهم واستقرارهم.

قلنا إن آيتي النحل والتوبة السالفتان لا تدلان على وظيفة المفتي التقليدية، وفي أضعف الأحوال فإنهما لا تدلان على ذلك دلالة قطعية، وهو ما سيثبته التحليل الآتي: أما آية النحل فقد وردت في سياق الحديث عن إرسال الرسل من قبل النبي محمد، وعن مجاهداتهم مع أقوامهم، وفيها طلب - على سبيل التخيير لا الوجوب – لمن أراد زيادة في البيان حول هذه المسألة بأن يسأل أهل الذكر، أي أهل الكتب السابقة عن ذلك، لأنهم أدرى الناس به. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. (النحل 43-44).

 وأما آية التوبة السابقة فهي تتحدث مع الجيل الإسلامي الأول الذي كادت حروب الدفاع أن تشغل بعض أفراده عن واجب الدعوة إلى الإسلام في أقوامهم. وليس في الآية تأسيس لوظيفة المفتي التقليدية، ولا عرف ذلك في زمن النبي وصحابته.

من الواضح أن وظيفة المفتي الديني في المجتمعات الإسلامية لا تجد مستنداً دينياً قطعي الدلالة. وأنها وظيفة طارئة على الإسلام وأهله. وغياب هذه الوظيفة عن النصوص الدينية ينسجم تماماً مع طبيعة القرآن الكريم وطبيعة وظيفته. فالقرآن الكريم يصنف نفسه إلى نوعين من النصوص، نص محكم الدلالة يفهمه المكلف أيا كان مستواه المعرفي. ونص متشابه الدلالة لا يعلمه إلا الراسخون في العلم (في أحد التأويلات) قال تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ. (آل عمران7). وقد جاءت العقائد الضرورية وبعض الأحكام القانونية ضمن النص المحكم، مما يعني أنها تمثل المستوى الذي ينبغي أن يتفق عليه الجميع، وأنها تمثل المستوى الذي سيحاسب عليه المكلف في الآخرة. لأن المكلف لا يحاسب إلا على وسعه في الفهم والعمل. وأما ما تجاوز مستوى المحكم فهو من المتشابه الذي لا يؤاخذ في فهمه المكلف البسيط ولا يلزم به، وإنما يلزم العالم الذي أوتي من المقدرة العلمية ما يمكنه من الكشف عن أسراره.

وبناء على ذلك نخلص إلى نتيجة منطقية في أمر المفتي والفتوى تقول: بما أن وظيفة المفتي لم ترد بنص قطعي من الدين، وبما أن الإنسان لا يكلف فوق وسعه الذهني والمعرفي، فلا حاجة للمسلمين بوظيفة المفتي. لأن الناس إما عالم وإما جاهل. فإن كان جاهلاً فهو غير مكلف بما وصل إليه فهم العالم من آراء وأحكام. وإن كان عالماً فهو في غنى عن المفتي، وسيحاسب على فهمه وحده. والاجتهاد في فهم النص المتشابه مطلوب من المسلمين جميعاً لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب، وبحسب الوسع العقلي والطاقة. ولعل هذا هو مراد فقيه الظاهرية محمد بن حزم الذي منع التقليد. فالتقليد عنده "حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدرة، والراعي في شغف الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر و لا فرق" .

لكن، هل يعني هذا أن الدين / الإسلام لا يحتاج إلى دارسين متخصصين، وإلى مرجعيات علمية تجيب السائلين والباحثين في الشئون الدينية؟. الجواب بالنفي. فما دام الدين – في أحد وجوهه – يعد حالة معرفية، فإنه ولا شك بحاجة إلى تنظيم هذه المعرفة وتقنينها. وحين نتحدث عن التنظيم والتقنين المعرفيين فإنما نتحدث عن العلم، إذ أن العلم هو المعرفة المقننة، كما يقول المختصون. ومن ثم فإن من المنطقي والبدهي أن يوجد متخصصون في الشئون الدينية. إلا أن وظيفة هؤلاء - كما قلنا - وظيفة مدنية لا دينية، لا يجوز أن تتميز بشكل أو طقس يوحي بالقداسة. وحين نقول إن فلاناً من علماء الدين فإنما نقصد أنه مثقف مدني لديه معرفة واسعة بالنص القرآني، وبالنظريات المستنبطة منه، وبأدوات ومناهج الاستنباط المناسبة، مثل معرفة عالم التاريخ بمجال اختصاصه. ومن ثم فإن هذه الوظيفة – وفق منظورنا - ستختلف اختلافاً بنيوياً عن حالتها الراهنة. وستستجد فيها مجالات للدراسة لم تكن مألوفة عند المؤسسة الدينية التقليدية. وهو ما يعني أننا أمام حالة ثورية في مجال الشئون الدينية بكل ما في العبارة من معنى.

والآن، هل بقي من حجة للعلماني الراديكالي في رفض الدين مرجعاً للدولة، إذا أرادت ذلك الأغلبية الاجتماعية صاحبة الدولة؟!. ربما بقيت نصوص تثير مخاوف هذا الطرف بصورة أو بأخرى، وتتسم بكونها قطعية الدلالة في القرآن الكريم، لكننا نسأل: كم تمثل هذه النصوص من نسبة  يا ترى؟. نكاد نجزم بأنها نصوص محدودة للغاية، وتكاد نسبتها تساوي نسبة القوانين التي تثير قلق العلمانيين أنفسهم في الدساتير والقوانين الوضعية نفسها، في أكثر الدول ديمقراطية في العالم . وحديثنا هنا مع العلماني الذي يؤمن بصيغة العلمانية الجزئية، أما ذلك الذي يتبنى العلمانية الشاملة فيكفيه من الدين / الإسلام أنه يضمن حقوقه المدنية والسياسية، وعليه أن يتحمل بعد ذلك تبعات انتمائه إلى أقلية ملحدة في مجتمع مؤمن، وهي تبعات معقولة، تتحمل مثلها الأقليات المؤمنة في المجتمعات الملحدة. والأمر قبل ذلك وبعده مرهون بارتفاع نسبة الوعي المدني في الأوساط الاجتماعية، وهو ما ينبغي التركيز عليه من قبل الحريصين على الحقوق المدنية والسياسية في مجتمع ما.

ذلك فيما يخص أبرز التساؤلات أو الاعتراضات التي من المتوقع أن تصدر عن الجانب العلماني. أما تلك التي من المتوقع عن تصدر عن جانب المتدين الإسلامي التقليدي فهي موضوع السطور القادمة.

2: أسئلة الإسلاميين:

من المتوقع أن يطرح الإسلامي الأسئلة الآتية: ما قيمة هذه الأطروحة، وما قيمة التمييز بين الإسلام والفكر الإسلامي، إذا كان الإسلام / الدين يعتبر نفسه أطروحة شاملة تهيمن على مختلف نشاطات الإنسان المسلم في الحياة؟. وبرهان ذلك قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (الأنعام162). وقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. (النحل89)؟. وما الذي يتبقى من الدين بعد استبعاد المذاهب؟. ثم أليست الدولة في الإسلام من خطط الدين وغاياته؟ وأليس منصب الرئاسة من المناصب الدينية؟ ألم يكن النبي محمداً (ص) نبياً وزعيماً على المجتمع النبوي في عصره؟. وأخيراً: لماذا تحرصون على استبعاد المذاهب الدينية من مرجعية الدولة ولا تحرصون على استبعاد الأيديولوجيات الوضعية، التي أثبتت التجارب أنها أشد تطرفاً وأعظم ضرراً بالإنسان إذا حكمت، وما الاشتراكية عنكم ببعيد؟!.

وجواباً على السؤال الأول نقول: سنسلم لكم بذلك إذا صح فهمكم للآيات التي استشهدتم بها. أما إذا لم يصح هذا الفهم، أو لنقل إذا تبين أن فهمكم لهذه الآيات ليس الفهم المحتمل الوحيد، فليس لكم علينا حجة. ولنتذكر القاعدة التي ارتضينا الاحتكام إليها في مثل هذه النزاعات، ألا وهي أن النص الذي يحتمل أكثر من دلالة - وفق قواعد التأويل المعتبرة - لا يصح اعتباره دليلاً قطعياً يحسم الخلاف، ومن ثم لا يصح اعتبار فهومه الممكنة جزءاً من الدين، لأنها صارت مذهباً عند التفصيل وإن كانت ديناً عند الإجمال. فما التأويلات المحتملة لآيتي الأنعام والنحل السابقتين؟.

توحي آية الأنعام (162) بمبدأ شمولية الإسلام وهيمنته على مختلف نشاطات المسلم، إذ تطلب من المكلف أن يجعل جميع تصرفاته الدينية وغير الدينية متجهة إلى الله سبحانه وتعالى. لكن الآية تسكت بعد ذلك عن بيان الكيفية التي تكون بها حياة المسلم ومماته متجهة إلى الله. إلا أن الأمر ليس غامضاً بالطبع، لأن الاحتمالات الممكنة لمعنى الآية محدودة لا تكاد تتجاوز احتمالات ثلاثة، الأول: أن يكون المقصود خضوع جميع نشاطات الإنسان لـ "مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية". والثاني: أن يكون المقصود خضوعها لأحكام الشريعة والفقه الإسلامييين. والثالث: أن يكون المقصود خضوع جميع نشاطات المسلم لـ"قيم" الإسلام العامة، ولأحكام الشريعة القطعية في القرآن الكريم دون أحكام الفقه الاجتهادية. والباحث يرجح هذا الاحتمال الأخير للأسباب الآتية:

أولاً: لا تستطيع أحكام الشريعة وحدها أن تغطي كامل مساحة النشاط الإنساني بالتقنين، لأن نصوص الشريعة متناهية وأفعال الإنسان وأحواله غير متناهية. وليس هناك دليل قطعي على وجوب استنباط أحكام فقهية تغطي المساحة المتروكة من قبل الشريعة، بحيث تصبح في مقام الشريعة نفسها. وحتى لو سلمنا جدلاً بوجوب تلك الأحكام الخمسة العامة التي أنجبها الفقهاء فإنها عاجزة بطبيعتها عن تحقيق هذا الطموح. ونقصد بالأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. فهذا الحكم الأخير – على الأقل - مختلف بينهم على كونه من الأحكام الشرعية، وإن كان جمهورهم يعده حكماً شرعياً . فإذا علمنا أن معظم نشاطات المسلم تدخل في دائرة المباح فقد تبين لنا أن معظم تصرفات الإنسان لا تخضع لأحكام النص الديني ولا للأحكام العامة المستنبطة منه، وإنما تخضع لأحكام الاجتهاد المذهبي.

ثانياً: هناك حقيقة أخرى صريحة في القرآن الكريم تعلن الفصل بين ظاهرتين مختلفتين إحداهما تسمى الدين والأخرى تسمى الدنيا. ولا مجال للخلط بينهما. ومن شواهدها قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. (القصص77). وعلى الرغم من عدم وجود دراسات علمية تفصل بين ما ينتمي إلى دائرة الدنيا وما ينتمي إلى دائرة الدين، وذلك أثر من آثار غياب العقل التحليلي عند المسلمين، إلا أن العقل الإسلامي – في مستواه غير الواعي - كان يفرق بين الدائرتين ولو على مستوى الإجمال. ومن دلائل ذلك ما سبق الاستشهاد به من كلام الفقهاء أبي حامد الغزالي ومحمد الغزالي ومحمد البهي.

ويبقى السؤال مشرعاً: كيف يمكن أن تكون حياة الإنسان ومماته ضمن النسق الإسلامي كما تريد آية الأنعام؟. والجواب ببساطة: إن ذلك ممكن فقط عندما تصبح القيم الإسلامية – وليس الأحكام الفقهية – هي المظلة التي تغطي كامل النشاط الحيوي للمسلم. ومظلة القيم بطبيعتها واسعة ومتعالية ولا تثير مخاوف أحد، سوى أولئك المتربصين بالإنسان نفسه. وإذا كان لصاحب العلمانية الشاملة أي موقف من القيم الإسلامية نفسها، فعليه أن يقدم بيانه الواضح المقنع، وأن يجاهد في سبيل فكرته حتى يحصل على تأييد الأغلبية التي كانت مسلمة، وعندئذ فقط يمكن لهذه الأغلبية أن تصنع مرجعية الدولة، وليس في الإسلام الحق ما يمنع ارتداد المسلمين عن إسلامهم إذا أرادوا، وحسابهم على الله يوم الحساب .

أما آية النحل (89) - وهي الآية التي يحتج بها المسلم الراديكالي للدلالة على شمولية الإسلام لكل زمان ومكان - حسب تعبيره – فإن من اليسير على من أوتي المعارف الضرورية في فقه اللسان العربي أن يدرك دلالتها المقصودة. لأنه لا شك قد علم أن عبارة " كل شيء " الواردة في الآية لا تفيد الشمول المطلق، وإنما تفيد الكثرة في حدود الاختصاص. أي أن الكتاب قد نزل ليبين أموراً كثيرة يحتاج إليها الإنسان في مجال الدين لا في مجال الدنيا. ووفق هذه القاعدة وردت عبارة "كل شيء" في كل سياقات القرآن الكريم، كما وردت في لسان العرب. ومن ذلك قوله تعالى في شأن ملكة سبأ: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. (النمل23). كما وردت في شأن النبي المعاصر لها سليمان عليه السلام: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. (النمل16).

هذا هو منطق اللسان العربي، الذي حرص القرآن على الالتزام بقوانينه، والتنبيه إلى ضرورة اتخاذه مرجعاً في التأويل، أما ذلكم الفهم الذي قدمتموه للآية فهو ينتمي إلى لسان المنطق اليوناني لا إلى منطق اللسان العربي. وبين المنطقين فروق شاسعة. فالمنطق الصوري – كما هو معروف – منطق رياضي بكل ما في الرياضيات من معاني التسوير والإطلاق والشمول. أما اللسان العربي فله منطقه الخاص، الذي يحيل – للتخصيص والتقييد - إلى الثقافة حيناً، وإلى العقل حيناً، وإلى السياق حيناً، وإلى أي شفرة تؤدي غرض البيان. ولعل هذه الملامح الفارقة بين اللسانين هي التي تفصل بوضوح بين نظامين معرفيين كبيرين هما النظام المعرفي البرهاني الذي تستند إليه الفلسفة والمنطق، والنظام المعرفي البياني الذي تستند إليه علوم الفقه والتفسير واللغة في التراث العربي .

وجواباً على سؤال: ما الذي يتبقى من الإسلام بعد استبعاد المذاهب الإسلامية من مرجعية الدولة؟. نقول: يتبقى أمران أساسيان في غاية الأهمية سبق وأشرنا إليهما، هما: منظومة القيم الإسلامية الشاملة، ومجموع القوانين (الأحكام) التشريعية في المعاملات والعاديات (دون العبادات) المذكورة في القرآن الكريم. وهذه القوانين بدورها تنقسم في القرآن – من حيث دلالتها - على قسمين، الأول قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً، والآخر ظني الدلالة يحتمل أكثر من تأويل. أما القسم الأول فهو قانون ملزم بنصه وعبارته، وأما القسم الآخر فالمعنى الإجمالي منه فقط هو الملزم دون المعاني التفصيلية لأنها اجتهادية. وفي هذه الحالة يصبح المشرع مخيراً بين الدلالات التفصيلية المحتملة للنصوص المجملة، لا يخرج عنها من ناحية، ولا ينظر إليها كدين مقدس من ناحية أخرى، كما ألمحنا من قبل مراراً. مع ملاحظة أن نسبة نصوص الأحكام الشرعية محدودة في القرآن الكريم.
أما أسئلتكم: أليست الدولة من خطط الدين وغاياته؟. وأليست الرئاسة منصباً دينياً؟. فإن الجواب عليها يسير للغاية، يكفي فيه أن نعيد السؤال عليكم بالصيغة الآتية: وهل زعم أحد من المسلمين بوجود دليل واحد من القرآن الكريم على ذلك؟!. فمن المعلوم لطلاب التراث الديني أن أنصار فكرتي الخلافة والإمامة لم يقدموا دليلاً قرآنياً واحداً لإثبات نظرياتهم السياسية في الخلافة والإمامة والدولة الدينية. وكل الذي يبارزون به خصومهم دليل هش يسمونه دليل "الإجماع". وبالرغم من أن دليل الإجماع في ذاته محاط بالعلل والمشكلات التي تطيح به من منصة الأدلة الشرعية، كما فعل به أكثر من فقيه، وكما هي حقيقته الموضوعية، إلا أنه – مع ذلك – لم يتحقق لهم في هذه المسألة، بعد أن خرمه الأصم من المعتزلة والنجدات من الخوارج على الأقل. وهو في أضعف الحالات دليل اجتهادي، ينتمي إلى دائرة المقولات المذهبية لا إلى دائرة المقولات الدينية، ومن ثم فهو دليل محكوم عليه بالوفاة حتى قبل مناقشته ونقده التفصيليين .

لكننا سنتوقف ملياً مع سؤال وجيه من أسئلتكم السابقة يحتاج إلى تحليل هاديء يكشف عن حقيقته، ألا وهو: ألم يؤسس النبي دولة في المدينة، ألم يكن زعيماً سياسياً في جماعته ؟. وسبب توقفنا أمام هذا السؤال هو يقين البعض من أن سيرة النبي (ص)، وإيحاءات بعض الآيات القرآنية، تدل على كونه صاحب مقام رئاسي ملوكي إلى جوار مقام النبوة والرسالة. وهو ما سنفنده تماماً، ويكفينا في أضعف الأحوال – كما أسلفت – أن ندلل على كونها مجرد أفهام ذاتية واجتهادات شخصية ومقولات مذهبية لا تلزم أحداً من المسلمين إلزام الدين المبين. ما دامت لم ترتفع إلى مستوى الدليل القطعي الذي لا يختلف عليه مسلمان. وتفصيل ذلك في السطور الآتية:

لا شك أن حدث الهجرة النبوية قد أوجد مجتمعاً سياسياً للمسلمين في المدينة المنورة في زمن النبي وصحابته. ولا شك أن النبي محمد (ص) كان له مقام ولاية الأمر على صحابته آنذاك، وكان زعيماً للمسلمين يمتلك أوسع السلطات الممكنة، لا بحكم قوته وجبروته، بل بحكم محبة أصحابه له كما قال علي عبد الرازق في كتابة الشهير "الإسلام وأصول الحكم". ثم لا شك أيضاً أن النبي قد مارس – بحكم ولايته لأمر المسلمين آنذاك – أشكالاً كثيرة من الأعمال السياسية، مثل إعداد الجيش وجمع الضرائب ومخاطبة الملوك وعقد المعاهدات. لكن، من قال إن وجود مجتمع سياسي يعني وجود دولة، أو أن كل زعامة على جماعة تعد رئاسة ملوكية، أو أن مثل تلك التصرفات السياسية تدل على وجود دولة؟!.

إن للدولة حدوداً ومظاهر لا تخطئها العين، سواء في الأزمنة الحديثة أو في الأزمنة القديمة. وحين يختلف المثقفون على وجود تلك المظاهر في حالة من الحالات، فإنما يقدمون الدليل العملي على أن تلك الحالة المختلف عليها لا تنتمي إلى مفهوم الدولة. فمن المظاهر الأساسية للدولة - في القديم والحديث - وجود دواوين (وزارات)، وسجلات، تنظم شئون الجيش والمرتبات، وتحتفظ بالوثائق والمقتنيات المهمة، وتنظم علاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة الدولة بالدول الأخرى. وكذلك وجود عملة محلية تمثل سيادة الدولة وقوتها الاقتصادية. ووجود جيش محترف مخصص للمهام القتالية. وأخيراً وجود صرح مؤسسي يظم اجتماعات القيادة السياسية واستقبال الوفود، كما كان الحال في عهد الفراعنة وعهد نبي الله سليمان وغيرهم. فأين هذه المظاهر من دولة النبي محمد عليه الصلاة والسلام؟! .

أما ما أثر عن النبي من ممارسات وتصرفات تشبه تصرفات الملوك والرؤساء فهي مما يصدر عن أي زعيم جماعة أو رئيس قبيلة في عصره، فإذا ركبنا الشطط وأصررنا على اعتبار تلك المظاهر دليلاً على وجود دولة ورئيس في المدينة المنورة، دون اعتبار للمعايير اللازمة في مثل هذه الحالات، فإننا بذلك نمنح كل أشكال الزعامة في عصر النبي وفي غير عصره صفة الرئاسة والملك، وبهذا يصبح كل مشائخ القبائل وزعماء الجماعات ملوكاً لدول.. فهل هذا مقبول؟!.

ثم إننا نتساءل: إذا كان منصب الإمامة – بمفهوميه السني والشيعي – من المناصب الدينية فلماذا أهمل القرآن والرسول تفاصيله؟. لماذا ترك النبي محمد (ص) صحابته ودولته في حالة فراغ دستوري أودى بهم إلى حالة من الخلاف الشديد، ما زال غبارها ثائراً حتى اليوم؟. ألم يكن من الأولى – وهو الملك – أن ينظم مسألة انتقال السلطة من بعده بصورة واضحة وقاطعة تمنع الخلاف، كما فعل بعض الخلفاء من بعده؟. ثم لماذا لم يطلق القرآن على زعامة النبي محمد وصف الملك كما فعل مع نبي الله داود ونبي الله سليمان؟. بل لماذا لم يطلق هذه التسمية على نبي الله موسى، مع أنه أعلى مقاماً - في القرآن وعند بني إسرائيل - من داود وسليمان؟. ومع أنه مارس من التصرفات السياسية ما يكاد يتطابق مع تصرفات النبي محمد؟. فكلاهما كان راعي غنم، وكلاهما خرج بقومه مهاجراً وناجياً من بطش خصومه، وكلاهما أسس مجتمعاً جديداً، وكلاهما صاحب شريعة مكتوبة. ومع ذلك فلم يقل أحد من بني إسرائيل إن موسى كان رسولاً ملكاً، كما كان داود وسليمان نبيين ملكين؟. فإذا كان القرآن نفسه يميز بين صور متعددة للزعامة النبوية فلماذا نتعمد نحن الخلط؟!.

مهما تكن إجابة المتخاصمين على الأسئلة الماضية فلن تخرج عن كونها اجتهادات بشرية تدخل في دائرة المذهب لا في دائرة الدين، وكفانا بهذا حجة لاستبعاد المسألة برمتها من دائرة الخلاف السياسي، واستبعاد ما يترتب عليها من مرجعية الدولة، نزولاً عند القاعدة التي لا مفر من الاتفاق عليها في المجتمع السياسي الذي يريد الاستقرار، ألا وهي قاعدة: فلنجعل مرجعية الدولة المتفق عليه من الدين، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه من الآراء والمذاهب.

والآن، نأت إلى آخر الأسئلة الإسلامية الراديكالية المتوقعة، وهو سؤال وجيه يقول: لماذا أنتم حريصون على استبعاد المذاهب الدينية من مرجعية الدولة ولستم بهذا الحرص على استبعاد المذاهب الوضعية الراديكالية (الأيديولوجيا) من هذه الوظيفة، وهي التي أثبتت التجارب أنها كانت وبالاً على الناس عندما حكمت؟.

والجواب عند العلمانية الثالثة نفسها إذ أنها تستبعد - ضمنياً - مثل هذه المذاهب الوضعية الراديكالية، باستبعادها لكل أشكال الصيغ الشمولية في الحكم. فما إن تحل الديمقراطية في أرض حتى تخرج منها كل الصيغ الشمولية المتعصبة. ومن المعلوم أن الأيديولوجيا الوضعية لا تؤمن بالشراكة الديمقراطية، حتى وإن وصلت إلى السلطة من باب الديمقراطية، كما فعلت النازية الهتلرية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن قياس الأيديولوجيا الوضعية على المذاهب الدينية في هذا السياق غير دقيق، لما بين الحالتين من فروق في الطبيعة الجدلية لكل منهما. منها أن بوسع الإنسان أن يختلف مع الأيديولوجيا ويظل مع ذلك في نظر صاحبها شخصاً مكافئاً له في الحقوق والقيمة، في حين أن الاختلاف مع المذهب الديني يضع المختلف في خانة المتمرد على الله والحق عند أكثر المذهبيين. مع ما يترتب على هذا الاعتقاد من مخاطر، من بينها استحلال دمه وكرامته.

ربما يقال إن النظم السياسية ذات الطابع الشمولي – أيضاً – قد ترفع شعار الديمقراطية، كما كان الحال في الديمقراطيات الشعبية داخل المنظومة الاشتراكية. أو كتلك الديمقراطية التي نظر لها أحدهم في العهد الناصري وأطلق عليها وصف "ديمقراطية التحسس". ومفادها أن الزعيم الملهم المستبد "يتحسس" هموم الجماهير واحتياجاتها ثم يسارع إلى ترجمتها بإصدار القوانين والقرارات! .. فعن أي ديمقراطية نتحدث؟.

والحقيقة أن هذه الدراسة لا تستثني مصطلح الديمقراطية من إعادة التعريف، كما فعلت مع غيره من المصطلحات. ومن المعلوم أن الديمقراطية السياسية قد عرفت بأكثر من تعريف، كان – ولا يزال – أشهرها "حكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه"، لكن التجارب أثبتت أنه تعريف فضفاض وغير دقيق، بدليل أنه سمح لبعض الأنظمة الشمولية أن ترفعه شعاراً لها بعد أن تفرغه من مضمونه. وكان لا بد من البحث عن تعريف جديد لهذا المصطلح يؤدي الغرض ويحقق شرطي الوضوح والدقة. وقد وجدنا بغيتنا عند مفكرين كبيرين هما فيلسوف العلم الأمريكي كارل بوبر، ومحامي الديمقراطية العربي الأشهر خالد محمد خالد. حيث اكتشفنا تطابقاً كبيراً في تعريفهما للديمقراطية، ربما دون قصد منهما أو إدراك.

 فالديمقراطية لدى بوبر هي: قدرة شعب على منع الديكتاتورية من الوصول إلى الحكم . والديمقراطية عند خالد هي: "قدرة الشعب على التغيير.. تغيير حكامه، وتغيير قوانينه عن طريق "الاقتراع الحر" وبواسطة نوابه وممثليه في برلمان أثمرته انتخابات حرة نزيهة" . وبهذا التعريف للديمقراطية يصبح من الصعب على أي حاكم أو أي نظام سياسي تفريغ الديمقراطية من حقيقتها تحت أي مبرر. فلا ديمقراطية إلا حيث يوجد تغيير سلمي للحكام والقوانين، عن طريق المؤسسات الديمقراطية المنتخبة بالاقتراع الحر النزيه. وما عدا ذلك من أشكال الديمقراطية ومظاهرها فإنه لا يمت إلى الديمقراطية بصلة. .

وهنا نصل إلى سؤال جديد يتعلق بالمذاهب الدينية والأيديولوجيا الوضعية من زاوية النظر الاجتماعية، يقول: إذا كان هذا هو موقف العلمانية الثالثة من علاقة المذاهب الدينية بالمرجعية الدستورية للدولة، فما موقفها من هذه المذاهب في الحياة الاجتماعية وفي مجال التربية والتعليم؟.

والجواب: إذا كان هدف العلمانية الثالثة على المستوى السياسي العام هو إيجاد الدولة المدنية، بمفهومها الذي فصلناه من قبل، فإن هدفها على المستوى الاجتماعي هو إيجاد المجتمع المدني نفسه، وتمكينه، وتقوية دعائمه. والمجتمع المدني " ليس هو المجتمع العام، بل هو أضيق نطاقاً منه، إنه ببساطة: النقابات، واتحادات العمال، والمؤسسات والهيئات، والجمعيات الخيرية، والنوادي، ومجموعة المنظمات غير الحكومية، والغرف التجارية، والاتحادات المهنية، ..إلخ، التي يربط بين أعضائها رباط اجتماعي ليس قائماً على القرابة أو الدين.. أي ليس قائماً على أساس وراثي مثل العائلة أو القبيلة أو رابطة الدم، ولا على أساس العقيدة الدينية الواحدة" .
والسؤال الذي يطفو على السطح هو: ما علاقة المجتمع المدني بالمذاهب الدينية، خاصة وأن التعريف السابق للمجتمع المدني قد استبعد من دائرته كل ما يقوم على أساس الروابط الدينية؟. وهو سؤال وجيه، لكنه ينسي ما ذهبنا إليه في شأن المذاهب الدينية، وأنها منتجات مدنية علمانية في ذاتها، وإن كانت مقاصدها دينية. كما يجهل أن الانتساب لهذه المذاهب لم يعد أمراً ممكناً على الصورة التقليدية بعد استبعاد وظيفة المفتي، واستبعاد فكرة أن المسلم مكلف بما في وسع العالم من الفهم. لأن الفرد المسلم في هذه الحالة سيقف عند حدود ما يفهمه من نصوص الدين، ويترك بقية المستويات لمن شاء أن يرتقي في درجات المعرفة بالدين في الدنيا ودرجات الجنة في الآخرة. ولا يحتاج المسلم البسيط لأكثر من أن يعرف الواجبات المفروضة والقيم الإسلامية العامة. وهذه لا تحتاج إلى مفتٍ يُسأل آناء الليل وأطراف النهار، وإنما يكفي أن يعرفها المكلف مرة واحدة في العمر، كما يعرف الطريق إلى بيته.

وثمرة هذا الرأي أن تصبح المذاهب التقليدية جزءاً من تراثنا الفكري، الذي مكانه الطبيعي هو المتحف، متحف الفكر البشري. ولا بأس - مع ذلك - أن تصبح جزءاً من الدرس العلمي في المعاهد والجامعات للمتخصصين بهذا الاعتبار. أما أن يمنح الناس هذه المذاهب البشرية سمة الثبات والديمومة فإنما يقعون – علموا ذلك أم لم يعلموا – في مظنة الشرك بالله. لأن الثبات والديمومة صفات إلهية لا يجوز أن ينازعه فيها أحد. وحين نزعم لمجتهد من المجتهدين – حتى لو كان نبياً من الأنبياء – بقاء آرائه وديمومتها مدى الدهر، فإنما نزعم أن كلامه ككلام الله وعلمه كعلم الله، وذلك ذنب هو أكبر – عند الله - من الشرك، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (الأعراف33). ويعلق ابن القيم على هذه الآية تحت عنوان "المحرمات على أربع مراتب" بقوله: " فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم" .

خاتمة:

1 . قامت المذاهب الفقهية الإسلامية على فرضيتين اثنتين ليس لهما أساس شرعي متين. الفرضية الأولى تقول: إن الشريعة الإسلامية منظومة شمولية تغطي – بواسطة الأحكام الفقهية الخمسة: الوجوب، الحرمة، الندب، الاستحباب، الإباحة – كامل نشاط الإنسان المسلم والجماعة المسلمة. والفرضية الأخرى تقول: إن الفرد المسلم والجماعة المسلمة مكلفان بتقصي الأحكام الفقهية الخمسة في كل حركة وسكنة يقومان بها، مع التسليم بما يتبع ذلك من أحكام الصحة والبطلان الشرعيين المترتبة على الأحكام الفقهية الخمسة.

2 .  كانت هاتان الفرضيتان بمثابة مقدمتين منطقيتين لنتيجة منطقية تقول:  بالنظر إلى كون معظم الأحكام الشرعية غير منصوص عليها في نصوص الوحي صراحة فقد وجب استنباطها من نصوص الوحي بواسطة آليات الاجتهاد والقياس. وبالنظر أيضاً إلى كون معظم الأفراد المسلمين المكلفين غير قادرين على عمليات الاستنباط هذه بمفردهم، لافتقارهم إلى أدوات الاجتهاد والاستنباط، فقد وجب على الجاهل تقليد العالم. على خلاف يسير بين بعضهم في طبيعة هذا التقليد كيف يكون: هل يلتزم المقلد مذهبا محدداً من المذاهب المعروفة، أم يلتزم الفتوى التي يطمئن إليها من أي مذهب جاءت؟. وبهذا ينقسم المسلمون على فئتين في التكليف، فئة العلماء المجتهدين، وفئة المقلدين، ولكل فئة درجاتها التفصيلية المختلفة.

3 . بما أن صحة النتيجة الأخيرة رهن بصحة مقدماتها، وبما أن مقدماتها لا تقوم على أساس علمي متين، فقد لزم القول إن البناء المذهبي الإسلامي باطل من الناحية الشرعية. وأن المذهبية في الإسلام حالة فردية لا حالة جماعية. لأن الفرد مكلف بفهم النص حسب وسعه العقلي والمعرفي، لا حسب وسع المفتي العالم. وحين يتبنى المقلد رأي شيخه أو مذهب جماعته فكأنما يقول إن الله قد كلفني بطاعته في حدود معرفة الشيخ أو المذهب، وهذا يناقض منطق العقل ومنطق القرآن الكريم " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".

،،، انتهى ،،،،