الخميس، 19 ديسمبر 2013

أطروحة: العلمانية الثالثة

العلمانية الثالثة

عصام القيسي

نشرت الأطروحة لأول مرة على صفحات صحيفة الجمهورية بتاريخ:19 إبريل-نيسان 2012

الجزء الأول
في عدد سابق من “الجمهورية” نشر صاحب هذه السطور مقالاً بعنوان “العلمانية.. خارطة طريق جديدة”؛ اقترح فيه صيغة جديدة لمفهوم العلمانية، تتفق مع الخصوصية الدينية للمجتمع الإسلامي، وتزيل نقاط التوتر والاشتباك المفتعلة بينهما.
قامت هذه الصيغة على أساس إعادة تعريف كل من المفهومين الإشكاليين: العلمانية والإسلام، وبيان عناصر الاتفاق والافتراق بينهما، من خلال استبعاد الزوائد التاريخية الطارئة عليهما.
 وتلك هي الخطوة المنهجية الأساسية في إنتاج الصيغة الجديدة لمفهوم العلمانية.
وخلصنا من عملية التأصيل تلك إلى نتيجة أساسية، تقضي باستبعاد مفهوم العلمانية الشاملة، كما بينه الدكتور عبدالوهاب المسيري، في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، والتحفظ على مفهوم العلمانية الجزئية، التي اقترحها المسيري للمجتمعات الإسلامية.
ذلك أن العلمانية الشاملة تعني فصل القيم الدينية عن الحياة، وأن العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة، وكلاهما غير قابل للتطبيق في المجتمعات الإسلامية، لاعتبارات ديمقراطية، قبل الاعتبارات الدينية والثقافية.
ثم اقترحنا صيغة ثالثة للعلمانية هي الأكثر ملاءمة للحالة الإسلامية - من وجهة نظرنا - هي صيغة فصل الدولة عن المذهب؛ ونقصد بالدولة الكيان السياسي السيادي، أي نظام الحكم، كما نقصد بالمذهب: الأيديولوجيا السياسية، سواء أكانت نابعة من مصادر دينية أو كانت نابعة من مصادر مدنية، فالتشيع مذهب، والتسنن مذهب، والنازية مذهب، والشيوعية مذهب، كما أن كل فهم شخصي لنص ديني غير قطعي يدخل في باب المذهب لا في باب الدين، كما سيأتي تفصيله في مناسبات قادمة.
وكان بعض الإخوة المهتمين قد اطلع على المقال، وأشاد به إشادة مصحوبة بملاحظة نقدية أساسية، هي أن المقال المشار إليه جاء بلغة مكثفة مضغوطة، مع أن طبيعة الموضوع وأهميته كانتا تقتضيان البسط والاسترسال.
 وهي ملاحظة صحيحة، لها عند الكاتب ما يبررها، من تلك المبررات ظن الكاتب أن الفكرة ستخلق جدلاً علمياً لدى القراء المهتمين؛ باعتبار طرافتها وأهمية الموضوع في اللحظة السياسية الراهنة، ليس على مستوى الساحة اليمنية فحسب، وإنما على مستوى الساحة الإسلامية برمتها.
وكان هذا الجدل - لو حصل - كفيلاً بإثراء الموضوع، والكشف عن غوامضه، من قبل الكاتب نفسه، ومن قبل الأطراف الأخرى.
لكن سرعان ما تبين للكاتب أن الناس في حفلة “زار” سياسي طويلة، وأن الظروف غير مواتية للحديث في الفكر السياسي، إلا بعد انتهاء الحفلة!؛ لأن حفلات “الزار” بطبيعتها لا تحتمل التأمل والتفكر العميقين، كما يتطلب الفكر.
ومن هنا فقد قنع الكاتب بتحويل الموضوع إلى مشروع كتاب موسع، يصدره لاحقاً، عندما تسمح الظروف، لعل قارئاً عابراً يجد فيه ضالته يوماً ما.
إلا أن رغبة هؤلاء الإخوة، في إعادة طرح الموضوع على شكل مقال صحفي، بصورة أكثر تبسيطاً، لابد أن تحترم. وهو ما ننوي فعله في هذا المقال المسلسل؛ الذي نتوقع أن يجيب عن الأسئلة الآتية: هل العلمانية ضرورة سياسية أم ترف فكري؟ هل تتناقض مع الإسلام حقاً، أم أن الخصومة بينهما مفتعلة؟، هل المشكلة في العلمانية أم في الإسلام أم في فهمنا لهما؟.
وبما أن طرف العلمانية هو أبسط طرفي هذه الجدلية، فإن البدء بمناقشته هو أسلم الخيارات، حتى يتسنى لنا التفرغ لمناقشة المفهوم الأكثر إشكالاً، وهو مفهوم الدين/ الإسلام.
يرى الدكتور المسيري أن العلمانية ليست مفهوماً استاتيكياً ثابتاً، وإنما هي متتالية زمنية، أخذت في كل عصر صورة مختلفة عن الأخرى، والاختلاف هنا لا يعني بالضرورة التناقض والتعارض، وإنما قد يعني أن حدود هذا المفهوم كانت تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر، فالعلمانية في البداية ظهرت كنقيض للسلطة السياسية الدينية، سلطة الكنيسة تحديداً.
 ومن هنا جاء شعار “فصل الدين عن الدولة”، إلا أن المسيري ينبه - في ملاحظة ذكية - إلى أن الدولة نفسها، وقت صك الشعار، لم تكن قد توسعت إلى الحد الذي نراه الآن، ومن ثم فإن حدود العلمانية في ذلك الشعار كانت أضيق بكثير مما لو طبقناها على الدولة في شكلها الأحدث.
إلا أن كثيراً من المثقفين الغربيين ثم العرب، قد استعملوا لفظ العلمانية بعد ذلك للدلالة على ظواهر أخرى أكثر اتساعاً وشمولاً، حتى صارت تعني في معظم الأحيان نقيض الديني.
 وقد أطلق بعض المفكرين الإسلاميين اسم العلمانية “الدهرية” على الشكل المتطرف من العلمانية؛ استنباطاً من قوله تعالى على لسان بعض الملحدين القدامى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الجاثية24، وهي كما ترى علمانية إلحادية تفصل القيم الدينية عن الحياة برمتها.
وقد أطلق المسيري على العلمانية في صورتها الأولى اسم “العلمانية الجزئية”، وعلى العلمانية في صورتها المتطرفة اسم “العلمانية الشاملة”، واعتبر هاتين العلمانيتين هما الطرفان النموذجيان للمتتالية العلمانية الزمنية، ثم رشح العلمانية في صورتها الجزئية، لتكون هي خيار العالم الإسلامي.
ويمكننا أن نخرج من كلام المسيري بنتيجتين، الأولى: أن الحديث عن العلمانية دون تبيين حدودها الدلالية المقصودة هو عمل تنقصه الدقة والموضوعية، ومن ثم فإنه أشبه باللغو، ومن حق الناس جميعاً أن يلغوا لكن ليس من حق أحد أن يلزم الناس بلغْوه.
والأخرى أن من حقنا نحن المسلمين اختيار القدر الذي يلائمنا من العلمنة، إذا دعت الضرورة أو الحاجة السياسية لذلك، بشرط أن لا يأتي هذا القدر على حساب الحقيقة العلمانية نفسها، بوصفها فضاء إنسانياً ديمقراطياً، ثبت بالتجربة التاريخية أنه الحل الأمثل لكثير من مشكلات السياسة وشرورها.
وبشرط آخر أهم، هو أن لا يأتي هذا المنتج العلماني الجديد على حساب الحقيقة الدينية، التي اختارها المجتمع نفسه، وفق مبدأ الحق الطبيعي للإنسان.
والحقيقة الدينية المقصودة هنا، بالنسبة لنا نحن المسلمين، هي الوحي السماوي، المتفق على ثبوته وحجيته، فقط لا غير، وماعدا ذلك فإنه يدخل في باب المذهب، كما سنبين لاحقاً.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل هذا ممكن؟.. هل هناك صورة تحقق المعادلة الصعبة بين الإسلام والعلمانية، دون أن تفرط في حقيقة أي منهما؟.
 هذا المقال المسلسل هو محاولة للجواب عن هذه الأسئلة وعن غيرها، وقد حققنا نصف الإجابة في السطور السابقة؛ فيما يخص الجانب المتعلق بالعلمانية، أما النصف المتعلق بالإسلام فهو موضوع الحلقات القادمة من هذا المقال.


العلمانية الثالثة (الجزء الثاني)

لا يمكن أن يكون الحديث عن علاقة الإسلام بالعلمانية، حديثاً منهجياً، ما لم نبدأ بوضع حدود واضحة لهذين المفهومين. وكان الجزء الأول من هذا المقال قد تكفل ببيان حدود العلمانية التي نعنيها في صف العلمانيات المعروضة. ونتوقع من هذا الجزء أن يتناول الحد الثاني في هذه الجدلية، وهو الإسلام، فما هو الإسلام يا ترى؟!.
إنه لشيء مؤسف حقاً أن يضطر كاتب اليوم إلى إعادة طرح هذا السؤال، بعد أربعة عشر قرناً من مجيء الإسلام. وما كنا لنطرحه لو كان هناك إجابة ناجزة. وكأن المسلمين لم يجدوا فرصة كافية خلال هذه القرون المتطاولة لتحرير أشهر مصطلح في حياتهم. وليس الأمر سهلاً كما قد يظن البعض، فإن غموض المصطلحات له عواقب وخيمة على الحياة العقلية، ومن ثم على مختلف وجوه الحياة. لأن المصطلحات الغامضة والفضفاضة كالعملة النقدية الزائفة، تمحق الاقتصاد/ الفكر بالتضخم.
وإذا قمنا بمحاولة عاجلة لتحقيق هذا المصطلح، فسنكون بإزاء ثلاثة معانٍ رئيسية على الأقل: الأول يشير إلى الإسلام في معناه التاريخي، أي الإسلام كما عرف في التاريخ. وقد عرف الإسلام في التاريخ بوصفه نقيض الديانات الأخرى، اليهودية والمسيحية والبوذية والمجوسية وغيرها. وهذا هو المعنى الشعبي والتقليدي لكلمة الإسلام، عند المسلمين وعند غيرهم.
والثاني يشير إلى المعنى القانوني للإسلام، وهو مستنبط من قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. (الحجرات14). فالإسلام في هذه الآية هو إسلام الظاهر، أي الإسلام الذي يحاسب عليه القانون، أما الإسلام الحق، فهو مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله.
أما المعنى الثالث للإسلام فهو الإسلام من المنظور الإلهي، أي الإسلام الذي عند الله، والذي جاء في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ. (آل عمران19). وهذا يشمل ما جاءت به كل النبوات وكل الرسالات السماوية، ويمثله الآن القرآن الكريم، باعتباره خلاصة الكتب السماوية جميعاً، منذ أن بدأت الرسالات مع إبراهيم (عليه السلام)، إلى أن ختمت بمحمد (صلى الله عليه وسلم): إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. (الأعلى 18-19). وهذا المعنى الأخير هو الذي ننطلق منه في حديثنا عن الإسلام.
هل اتضح الأمر تماماً؟.. بالطبع، لا. فما زال أمامنا صفاً طويلاً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة، منها هذا السؤال العاجل: إذا كان الدين عند الله الإسلام، والإسلام عند الله هو القرآن، فماذا عن الكتب السماوية الموجودة اليوم بين أيدينا، والتي اعترف بها القرآن من حيث المبدأ، كالتوراة والأناجيل، أو ما يسمى بالعهد القديم والعهد الجديد عند المسيحيين؟. وماذا عن الحديث النبوي؟ وماذا عن كتب المذاهب الفقهية والفكرية؟. ما موقع هذه الكتب من الدين؟!.
والسؤال الأول في مصفوفة الأسئلة السابقة، ليس ملحاً لنا نحن المسلمين اليوم، ولا يترتب عليه في موضوع العلمانية أثر يذكر، ما دام القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على الكتب كلها “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. (المائدة48). والهيمنة هنا مفهوم شمولي، يجعل النص القرآني هو “المعتمد” الأول والأخير في مجال الدين، وهو النص الذي لا يقبل النقاش لمن آمن به، أما ما عداه من النصوص فهو خاضع له خضوع القانون للدستور.
أما الجواب على سؤال الحديث النبوي، فقد فصلنا فيه القول في مناسبات أخرى سابقة ومعروفة لدى المتابعين، ومجمل القول فيه أن الحديث النبوي - حتى لو صحت نسبته إلى النبي - لا يعد جزءاً من الرسالة التي كلف النبي (صلى الله عليه وسلم) بإبلاغها للناس، وأنه - في حال ثبوته - يعد جزءاً من السيرة النبوية لا غير. وسيرة أي نبي تتضمن فهمه الشخصي للدين والحياة، لكن هذا الفهم - مهما كان فذاً - يظل محكوماً بشروط الزمان والمكان لا يخرج عنها، وهي شروط متغيرة بتغير العصور، على عكس الدين الذي يختص بسمة الثبات.
ولا مجال هنا لمزيد من تفصيل هذه المسألة ولا إيراد براهينها، فقد أفردنا لذلك دراسة وافية بعنوان “ هذا بيان للناس، حديث النبي من التاريخ لا من الدين”، منشورة قبل سنوات، في بعض المواقع الإلكترونية، وفي صفحة الكاتب على الفيس بوك، لمن شاء المزيد من التفصيل. إلا أننا معنيون هنا بالإشارة إلى حقيقتين لهما شأن بموضوع هذا المقال.
الحقيقة الأولى: أن القول بحجية الحديث، أو بعدم حجيته الدينية، هي _ في أدنى الاعتبارات _ مسألة خلافية بين مسلمين. بدليل أن أحداً من طرفي النزاع فيها لا يجرؤ على إخراج الآخر من الملة الإسلامية. وحتى إذا وجد في هذا الطرف أو في ذاك من يجرؤ على التكفير، فإنه سيظل حالة شاذة، أو محصورة داخل مذهبه، مما يعني أننا أمام حالة مذهبية بامتياز. وهذا ينقلنا إلى الحقيقة الثانية:
وهي أن الخلاف في المذهب ليس خلافاً في الدين، بل هو خلاف في فهم الدين. وعليه فإن من يزعم بأن مذهبه هو الدين، وأنه وحده جماعة المسلمين، فإنما يفتري على الله وعلى الناس الكذب. أما إذا تجاوز حد الزعم إلى حد الفعل، وذهب يرغم المخالفين على تبني مذهبه، بأي صورة من صور الإرغام، فإنه بذلك يعد خارجاً على حدود الدين نفسه، الذي ينهى عن الإكراه في الدين، بأي صورة من صور الإكراه، بنص قطعي الدلالة والثبوت: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة256).
وسيأتي معنا لاحقاً الجواب عن شبهة تقول: ماذا لو أن الأغلبية المذهبية _ بحكم الديمقراطية العلمانية _ أرادت أن تجعل مذهبها مرجعاً للدولة والقانون؟!. أما الآن، فلا بد أن نستكمل الجواب على سؤال المذاهب الفقهية والفكرية الإسلامية، ما موقعها من الدين؟. والإجابة عن هذا السؤال _ لحسن الحظ _ ليست معضلة، لأننا لم نجد قولاً معتبراً عند المذاهب المعتبرة يزعم أن مذهبه هو الدين نفسه، وأنه وحده جماعة المسلمين.
وحتى إذا وجد مثل هذا التهريج، فإنه سيظل رأياً شاذاً يتوارى خلف حجب التأويل من شدة الخجل، ويكفي في بيان زيفه أن نعلم أن الدين قد اكتمل قبل مجيء المذاهب جميعاً، مع قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً. (المائدة3).
نخلص من السطور الماضية إلى إقرار الشرط الأول من شروط تعريف الإسلام، وهو شرط الفصل والتمييز بين الدين / الإسلام، والفكر الديني / الإسلامي، باعتبار أن الدين / الإسلام هو ذلك المنزل السماوي المتفق على حجيته وثبوته، وأن الفكر الديني / الإسلامي هو ناتج دوران العقل حول النص الديني، فيما يسمى بعملية الاجتهاد والتدبر. وهذا الناتج بطبيعته لا يكون إلا بشرياً.
وقد بينا سلفاً أن المذاهب جميعاً تعد جزءاً من بنية الفكر الديني لا من بنية الدين نفسه. سواء أكانت مذاهب فقهية أو كانت مذاهب فكرية، وسواء أكانت مذاهب فردية أم جماعية، وسواء أكانت مذاهب تاريخية أم معاصرة. ويدخل فيها بالطبع المذهب القائل بعدم حجية الحديث النبوي، لقيامه على نفس الأصول والقواعد المعتبرة لدى المذاهب الأخرى، على الأقل.
وهذا الفصل المبدئي بين الإسلام والفكر الإسلامي ليس جديداً، فقد تعارف عليه المفكرون الإسلاميون منذ بدايات القرن العشرين تقريباً، وهاهو شيخ الإسلاميين محمد الغزالي يؤكد هذه الحقيقة في واحد من أقدم كتبه، هو كتاب “ ليس من الإسلام”، وينقلها بدوره عن واحد من كبار علماء الدين آنذاك هو الشيخ محمد البهي، الذي يقول بالنص: “إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه”.
ليس هذا فحسب، بل يذهب الشيخان خطوة أخرى أكثر جرأة وأكثر تحديداً، في بيان الحدود الفاصلة بين الإسلام والفكر الإسلامي، فيقولان: “والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه منه”!.
وهذا التعريف للوحي يتطابق تماماً مع تعريفنا له، وهو التعريف الذي يؤاخذنا عليه المشائخ والدعاة منذ أن طرحنا قضية حجية الحديث النبوي في الصحافة قبل سنوات. والفرق بين موقفنا وموقف الشيخ الغزالي، بعد ذلك، هو أننا ذهبنا وراء هذا التعريف إلى نهايته المنطقية، بينما تذبذب موقف الشيخ الغزالي منه في مواضع عديدة من كتبه.
وتكمن أهمية التعريف السابق للوحي في أنه استبعد تماماً الحديث النبوي من مجال الرسالة، واعترف فقط بالسنن التي ثبتت بالتواتر العملي، بنقل الكافة عن الكافة، وثبت أصلها الديني في نص القرآن الكريم. وهذه السنن كما يعلم المختصون محدودة للغاية، ولا تثير في الفكر الإسلامي أي معضلة حقيقية، فما بالك بالفكر السياسي.
أما ما يسمى بالحديث النبوي _ ومثله الآراء الفقهية _ فإنه لا يدخل ابتداء تحت مسمى السنن عند الأصوليين واللغويين، فضلاً عن اتفاقهم الصريح على كونه لم يثبت بطرق متواترة، كما ثبت القرآن والسنن العملية. وهذا وحده كافٍ في حسم المسألة، وإخراج محل النزاع من دائرة الدين المتفق على حجيته وثبوته، إلى دائرة الفكر الديني المتنازع عليه اجتهاداً.
والحسم هنا لا يعني _ بالضرورة _ اقتناع الطرف المخالف بهذه الحقيقة، لأن المذاهب عادة لا تسلم لخصومها بإصابة الحقيقة، وإنما يعني أن هذه التخريجة الأصولية لموقع الحديث من الدين، قد جاءت وفق القواعد والأصول المعتبرة لدى الطرف المخالف، وما دام الأمر كذلك فليس في استطاعته استبعاد الطرف الآخر من دائرة الإيمان، إلا إذا تناقض مع أصوله وقواعده المذهبية!.
ذلك هو الشرط الأول في فهم الإسلام، شرط الفصل والتمييز بين ما هو إسلام وما هو فكر إسلامي. والخلط بينهما ليس فقط خطأ في المنهج، بل إنه خطأ في العقيدة نفسها، لأنه يوقع صاحبه في مظنة الشرك بالله، ما دام هذا الاعتقاد قائماً على أسس ظنية غير محكمة، و” إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً. (النساء48). أما الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، فهو موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال، وهو شرط معرفة حدود النشاط الديني..!.



العلمانية الثالثة.. (الجزء الثالث)

هناك سؤال أولي وبسيط، لكنه على الرغم من أوليته وبساطته لم يطرح للنقاش العلمي، بصورة جدية حتى الآن، فيما أعلم.
 هذا السؤال يقول: ما هي الحدود الفاصلة بين الدين والدنيا؟ متى نستطيع القول: إننا الآن في دائرة الدين أو في دائرة الدنيا؟ ما هي نقاط الاشتباك والتداخل بين هذين المفهومين؟.
 وموضوع هذا السؤال هو الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، التي بدأنا الحديث عنها في الحلقة الماضية.
قد تغري بساطة هذا السؤال القارئ بالإجابة الفورية الواثقة، لكني أنصحه بالتأني؛ لأن بساطة هذا السؤال الظاهرية تخفي وراءها غموضاً شديداً، كما تخفي الأوراق الزاهية، في الزهرة القاتلة، حقيقتها الدموية.
وهو غموض ناشئ عن دقة وتداخل الحدود المشتركة بينهما، إلى حد يصعب على العين المجردة ملاحظة ذلك للوهلات الأولى.
وقبل البدء في مناقشة هذا السؤال، والبحث عن إجابة شافية له، ينبغي أن نجيب على سؤال استباقي يقول: ما الذي يترتب على معرفة الحدود الفاصلة بين هذين المفهومين؟!.
 والحقيقة أن ما يترتب على إجابة هذا السؤال خطير جداً، يكفي في خطورته أن تعلم أن وظيفة المفتي الديني في الحياة الإسلامية مرهونة به، وجوداً وعدماً، كما سنبين في سياق قادم.. فهل تتخيل معي كيف ستكون حياة المسلم من دون الفتوى والمفتي مثلاً؟!.
إننا إذا عرفنا حدود الدين من حدود الدنيا، وأثبتنا لكل منهما صورة مستقلة في الذهن والواقع، وعرفنا طبيعة التداخل والتشبيك الحاصل بينهما، فإنما نضع بذلك الحدود الفاصلة لوظيفة المفتي فلا يتجاوزها.
هذا على فرض أنها وظيفة دينية، وعلى فرض أنها تخدم الإسلام والمسلمين، وهي فروض غير صحيحة من وجهة نظرنا.
وسنكتشف في نهاية المطاف العلمي بأنه لا وجود لوظيفة المفتي في الإسلام أصلاً، وأنها كانت خطأ من الأخطاء الكثيرة التي اقترفناها في سيرنا الحضاري، دون دراسة وتحقيق!.
واستبعاد وظيفة المفتي من حياتنا سيكون ثورة لا مثيل لها في حياتنا العقلية والاجتماعية، إلا ثورة استبعاد الحديث النبوي من دائرة الدين، بوصفه جزءاً من تاريخ النبوة، لا من رسالة النبي.
 وبهاتين الثورتين يمكن القول: إننا قد تجاوزنا أكثر من نصف مشكلاتنا الحضارية المزمنة، المشكلات التي تعود في جذورها الأولى إلى علل في الخطاب الديني الزائف.
كما يترتب على التمييز بين هذين المفهومين - من الناحية السياسية - معرفة حدود الدولة من حدود الدين، وهو شرط الحديث عن العلمانية الأول.
والكاتب يدرك جيداً طبيعة الأسئلة والمشكلات التي قد تثار في وجه هذه الفكرة، وهو حريص على مناقشتها أكثر من غيره، لكنه يؤجلها إلى مكانها المناسب، بعد استكمال الإجابة عن سؤال الدين والدنيا: أين يجتمعان وأين يفترقان؟.
وسوف نستعرض الفروض المحتملة للإجابة على هذا السؤال، ثم نناقشها فرضاً فرضاً، وفقاً لنظرية كارل بوبر في استبعاد الخطأ، بوصفها أفضل طريقة نقدية في البحث العلمي، والفرض الذي يصمد أمام الامتحان هو الذي يستحق البقاء.
لكن قبل استعراض الفروض، دعني أذكرك بالقضية المبدئية في هذا السياق، وهي أن القرآن الكريم هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وفي مقامه ما دل عليه من سنن نبوية ثابتة، لها أصل ديني في القرآن الكريم نفسه؛ كما نقلنا عن الشيخين محمد البهي الخولي ومحمد الغزالي في الحلقة الماضية من هذا المقال.
 وهو الرأي الثابت أيضاً عن الإمام محمد عبده، والإمام الأكبر محمود شلتوت، وغيرهم من علماء المسلمين المعاصرين.
والقرآن الكريم كتاب يحتوي تشكيلة واسعة من القضايا والموضوعات، ما بين قصص وأحكام وتعليمات ومواعظ وحكم، تطال عوالم مختلفة، وأزمنة متعددة، ومخاطبين شتى.
 وقد حاول الفقهاء من قديم توزيع هذه التشكيلة النصية على “أنواع”؛ فنوع أطلقوا عليه اسم “العبادات”، وآخر أطلقوا عليه اسم “المعاملات”، وثالث أطلقوا عليه اسم “العقائد”.
على اعتبار أن “العبادات” في الأصل هي تلك الأعمال ذات الطابع الطقوسي الفردي، مثل الصلاة والصوم والحج وما شابهها، وأن “المعاملات” هي تلك الأعمال ذات الطابع الاجتماعي القانوني، مثل البيع والشراء، والطلاق والزواج، إلخ.. أما العقائد فهي تلك الأخبار التي ساقها الوحي عن عالم الغيب، باختلاف صوره، ومستوياته.
ولا شك أن لدى بعض النقاد ما يقوله على هذا التقسيم، مثل عدم وضوح الفرق - من الناحية اللفظية - بين العبادات والمعاملات، ما دامت المعاملات نفسها في نهاية الأمر تعد جزءاً من الأمور التعبدية، وكذلك تداخل العلاقة بين شعبة الأخلاق والشعب السابقة.
 لكننا مع ذلك لا نجد - في هذه الوقفة النقدية - مانعاً حقيقياً من اعتماد هذا التقسيم التقليدي لمجالات الدين النوعية، مادامت قدرتها الإجرائية كافية في تحقيق المسألة قيد البحث.
وأمر آخر نلفت الانتباه إليه، قبل انتهاء هذه الوقفة التحليلية، هو طرق إنتاج الدلالة في القرآن الكريم، فمن المعلوم أن القرآن الكريم ينتج دلالاته بطرق متعددة، ومختلفة في درجة البيان والإلزام، وهو في ذلك يسير على منهاج اللسان العربي، كما حدد لنفسه من البداية، وإن كانت له خصوصيته في استعمال قوانين اللغة وطاقاتها الكامنة، هذه الخصوصية هي التي منحته سرّ التفوق اللغوي على النصوص الأخرى، ذلك أنه النص الوحيد الذي وظف قوانين اللسان العربي في طاقتها القصوى.
وقد حاول الفقهاء الأصوليون من قديم حصر طرق الدلالة القرآنية، وخلصوا إلى نتائج قيمة في هذا السياق، يلخصها عبدالوهاب خلاف في الجملة الآتية: “النص الشرعي - أو القانوني - يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارتهِ، أو دلالته، أو اقتضائه؛ لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه. وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة”.
إن جملة خلاّف السابقة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لنا في هذا المقال؛ لأننا بعد أن حددنا صورة الوحي في القرآن الكريم، وحده لا شريك له، كان لابد أن نحدد الطرق المعتبرة في فهم هذا الكتاب؛ لأن ذلك هو الأساس في معرفة ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة فيه، ومعرفة القطعي من الظني هو الأساس الأول في معرفة الفرق بين الدين والمذهب؛ إذ إن المذهب الديني هو كل فهم بشري لنص ديني غير قطعي الدلالة أو الثبوت.
ومن المعلوم أن أكثر النص القرآني غير قطعي الدلالة، إما بسبب الخفاء، أو الإشكال، أو الإجمال، أو التشابه، في بعض نصوصه، ومن ثم فإنه لا يلزم المخالف منه إلا القدر المتفق عليه من المعنى، أما القدر المختلف فيه، فهو مما يلزم صاحبه أمام نفسه وأمام الله فقط، وهذا هو مقتضى رأي جمهور الأصوليين لحسن حظنا..!.
وحين يترجم هذا الكلام إلى مبدأ قانوني دستوري، فإننا نكون بإزاء أول خطوة في الطريق إلى العلمانية من منظور ديني.
 وخلاصة هذه الترجمة القانونية تقول: إن كل ما ينتجه العقل المسلم من أحكام مستنبطة من نص ديني غير قطعي الدلالة، فهو داخل في دائرة المذهب والفكر الديني لا في دائرة الدين، وكل ما كانت هذه طبيعته فهو منتج مدني علماني، حتى وإن جاء من أصول دينية..!. وهذا هو الذي سيقودنا في نهاية المطاف إلى إلغاء دور المفتي الديني برمته، كما سنبين في تفصيل لاحق.
إلى هنا نكون قد وضعنا العتبة الأساسية للدخول في مناقشة الفروض المحتملة لعلاقة الدين بالدنيا، وحدود هذه من تلك، ابتداء من الحلقة القادمة.




العلمانية الثالثة (الجزء الرابع)


الآن، وقد ميزنا بين الإسلام والفكر الإسلامي، وقلنا: إن القرآن هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وما في حكمه من سنن ثابتة دل عليها القرآن دلالة صريحة، وإن الفكر الإسلامي هو كل فهم بشري لنص غير صريح من القرآن الكريم، مثل ذلك الفهم الذي جعل الحديث النبوي، وما يسمى بالإجماع، وغيرهما، من مصادر الشريعة..!.
وبعد أن ميزنا بين ثلاثة أنواع من مجالات النصوص القرآنية، هي العقائد والعبادات والمعاملات، حسب التقسيم التقليدي للفقهاء، فقد أصبح من حقنا أن نسأل: ما هي المساحة التي يشغلها الدين من حياة الإنسان المسلم؟ هل يشغل كامل النشاط الإنساني، أم يشغل نشاطات بعينها دون أخرى؟ كيف؟.
هناك عدد من الفروض المحتملة في هذا الشأن؛ أولها أن يكون الدين مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة قانونية، وثانيها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية فقط، وثالثها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية وعلى بعض جوانبها هيمنة قانونية.
لكي تكون الإجابة وجيهة ومقبولة لابد من استنطاق القرآن الكريم نفسه؛ فهل في القرآن نص يحسم هذه المسألة؟. والجواب: ليس في القرآن الكريم نص قطعي في تفصيل هذه المسألة، لكن فيه نصوص موهمة يفيد ظاهرها الشمول والإحاطة، مثل قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.(النحل89). وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(الأنعام162).
وقد اعتقد كثير من الناس أن عبارة “تبياناً لكل شيء” في آية النحل السابقة، تعني الإحاطة والشمول، وهو فهم قاصر نتج عن ضعف معرفة بلسان العرب، الذي هو المرجع في لغة القرآن الكريم. بينما هي في هذا اللسان كناية عن الكثرة والاتساع، ضمن مجال الاختصاص. هكذا وردت في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى على لسان الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. وعن سليمان: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16]. وعن موسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145].
ولم يقل أحد أن ملكة سبأ أو النبي سليمان قد أوتيا من كل شيء بالمعنى الرياضي أو الفلسفي للعبارة، ولا أن ألواح التوراة قد شملت كل صغيرة وكبيرة في الحياة.
 وأظهر دليل على ذلك أن ظاهر العبارة يدل على أن ملك ملكة سبأ يساوي ملك نبي الله سليمان عليه السلام، وهذا خطأ لا شك فيه، ولا جدال، وكذلك فإن ألواح موسى - بعددها المحدود - لا يمكن أن تتناول كل صغيرة وكبيرة في الحياة، بحيث لا يفوتها علم من العلوم إلا خاضت فيه، وإلا لما احتجنا إلى نيوتن وإنشتاين وأحمد زويل!.
خلاصة الأمر هي أن عبارة كل شيء الواردة في القرآن الكريم لا تفيد الشمول المطلق كما يتبادر إلى أذهان العامة ومن في حكمهم من المفسرين، باستثناء ما جاء في حق الله تعالى مثل قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. (الزمر62)؛ لأن اختصاص الله هنا يشمل كل شيء في الوجود، على سبيل الحقيقة لا على سبيل الكناية والمجاز.
أما آية “الأنعام” السابقة فهي لا تفيد بعبارتها أن حياة المسلم ومماته يخضعان للتشريع والتقنين، وإلا فليقولوا لنا كيف يمكن تقنين الموت؟!. ودلالة العبارة هي الخضوع الباطني لله تعالى، والاعتراف بسلطانه الشامل على الوجود، لكن الله تعالى لم يرد أن يكون سلطانه الشامل تشريعياً على الناس، بل سلطان أخلاقي في المقام الأول، وإن غطى بالتشريع بعض أوجه نشاط الإنسان.
يبدو أننا قد حسمنا خياراتنا مبكراً، وقررنا اختيار الفرض الذي يقول: إن الدين - الإسلام - يغطي مختلف جوانب الحياة بمبادئه الأخلاقية العامة، لكنه لا يغطيها كاملة بتشريعاته القانونية.
وسنعرف لاحقاً ما الذي يترتب على هذا الاختيار، بعد أن نستكمل تأكيد هذه الفرضية وتفنيد الفروض الأخرى المقابلة؟.
إن الفرض الذي يقول بأن الدين هو علاقة بين العبد وربه، يعني في نهاية المطاف أن الدين – الإسلام - هو فقط مجموعة العقائد والعبادات، بالإضافة إلى بعض الأخلاق اللازمة للفرد، غير المتعدية للمجتمع.
 ومن معاني هذه العبارة - بقصد أو بدون قصد - أن شعبة “المعاملات” لا تدخل في نطاق الدين، وهذا أمر ترده النظرة الأولى في القرآن الكريم.
لكن الشيء الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن الأحكام التشريعية التي تطال العلاقات الاجتماعية - ومنها أحكام السياسة - لا تغطي كامل المساحة الاجتماعية، إذا ما اعتبرنا أن الأحكام الشرعية هي تلك التي نص عليها القرآن، بأية صورة من صور الدلالة الأربع، التي نقلنا عن عبدالوهاب خلاف من قبل، ولهذا تحديداً اضطر الفقهاء لصناعة أصول الفقه، حتى يستنبطوا على ضوئها ما يلزم من الأحكام المتجددة.
والشيء الذي لا نقره هنا هو اعتقادهم بأن ما ينتجونه على ضوء هذه الأصول، ووفق هذا المنهج يعد جزءاً من الإسلام (الدين)، بينما كان ينبغي القول: إنها جزء من بنية الفكر الإسلامي، التي هي بطبيعتها بنية مدنية، مادامت أثراً من آثار العقل الإنساني.
 والقول بأنها جزء من الدين، يعني - بالتضمين - أن الإنسان قد ينتج القداسة، مثل الإله تماماً، وهذا هو الشرك بعينه..!.
إن الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية الإسلامية، هو أنها حاولت تقنين كل أوجه النشاط الإنساني، ثم إضافة مخرجات هذا التقنين إلى دائرة الدين المقدس الذي يأثم منكره ومخالفه.
ولأن عملية التقنين هذه بطبيعتها واسعة النطاق، فقد كان لابد من وظيفة المفتي الشرعي؛ لأن المسلم العادي لا يستطيع أن يتعرف على كل الأحكام من تلقاء نفسه؛ إما بسبب كثرتها، وإما بسبب غموضها.
وإذا سلمنا بكون الفكر الديني هو جزء من بنية النشاط المدني للإنسان، فإن وظيفة المفتي تكون حينئذ وظيفة مدنية لا وظيفة دينية، مثلها مثل وظيفة المعلم، في أي مجال من مجالات التعليم الأخرى، مع فارق بسيط بين الوظيفتين هو أن وظيفة المعلم ضرورة اجتماعية، ووظيفة المفتي ضرر اجتماعي كبير، لا حاجة لنا به..!.
أما كيف تكون وظيفة المفتي خطأ إسلامياً وضرراً إنسانياً، وما علاقة ذلك بما نحن فيه من حديث عن العلمانية الثالثة، وغيرها من الأسئلة، فهي موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال.


العلمانية الثالثة (الجزء الخامس)


هل وظيفة المفتي الشرعي وظيفة دينية يقرها الإسلام، أم أنها اختراع بشري، من اختراعات كثيرة قدمها المسلمون للبشرية؟!.
 هل يحتاج المجتمع المسلم إلى وظيفة المفتي حقاً أم أنها زائدة دودية لا حاجة له بها؟.
هذه هي الأسئلة التي أثرناها في سطور سابقة من هذا المقال، ووعدنا بالإجابة عنها بصورة مفصلة قدر ما نستطيع.
من المعلوم في الأوساط العلمية الإسلامية أن الأحكام لا تثبت وجوباً إلا بأدلة قطعية في الحجية والثبوت والدلالة. وهذه الشروط مجتمعة لا تتوفر إلا في بعض نصوص القرآن الكريم فقط. فهل هناك نص بهذا المستوى في القرآن، يحث على وظيفة المفتي الشرعي في الإسلام، ويحدد طبيعتها يا ترى؟.
المتابع لخطاب المؤسسة الدينية الإسلامية يجد أن لديها أدلتها وحججها في التشريع لوظيفة الإفتاء، إلا أنها أدلة واهية لا تثبت أمام النقد العلمي الفاحص. ومن ذلك احتجاجهم بآيات قرآنية من مثل قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة122).
إذ يعتقدون أن الآية تحرض على تأسيس طبقة من رجال الدين، يكون من مهامهم إفتاء الناس في كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين. وأمور الدين عندهم تشمل كل وجوه النشاط الإنساني، بما فيها طريقة الجلوس على مرحاض “التواليت” كما يزعمون، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يجتهد حتى في كيفية قضاء الحاجة..!.
بينما منطوق الآية لا يفيد سوى الحض على التفقه في الدين، وقد عرفنا معنى الدين فيما مضى، والفقه هو المعرفة الدقيقة بالدين، ومن هذه المعرفة الدقيقة أن يميز المسلم بين الدين والفكر الديني، وبين حدود الدين من حدود الدنيا. وليس في الآية ما يتجاوز حدود العلم بالنصوص المنزلة ودلالاتها العامة.
وهناك فرق بين أن يتعلم الناس الدين، على التفصيل السابق، وبين وظيفة الإفتاء المعروفة، ففي الحالة الأولى سيكتفي العامي بمعرفة ما هو في الدين بالضرورة، أي ذلك القدر من الدين الذي يعفيه من العقاب يوم الحساب، ويدخله الجنة، كما فعل عوام الصحابة ومن في عصرهم. بينما سيحاول المسلم المثقف التقدم إلى مناطق أخرى أكثر غموضاً ودقة، فيرتقي عند الله بقدر ما ارتقى في سلم العلم بها.
وفي الحالة الأخرى، سيضطر العامي والمثقف إلى معرفة ما فوق الضرورة الدينية، لا عن طريق التعلم الذي سيربي فيهما ملكة الفقه، وإنما عن طريق التلقين، الذي يحول صاحبه، بمرور الوقت، إلى مجرد كائن بليد ينفذ دون أن يعرف حقيقة ما يفعل.
بينما الحقيقة أنه لا المسلم العامي ولا المسلم المثقف يحتاجان إلى المفتي والفتوى؛ لأن المسلم العامي لا يمكن أن يكلف أمام الله، بما فوق وسعه من الفهم، وفقاً لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة286). وليس في وسع العامي أن يفهم طرق الفقهاء في الاستنباط والقياس، حتى يكون ملزماً بنتائج هذه الطقوس العلمية المعقدة.
أما المسلم المثقف فإنه لا يحتاج إلى المفتي؛ لأنه إما يمتلك القدرة على فهم النصوص بنفسه دون معونة المفتي، وإما أنه لا يمتلكها، ومن ثم فهو ملزم فقط بما وصلت إليه مداركه، لا بما وصلت إليه مدارك غيره.
وهذا المنطق الذي نقول به ليس غريباً تماماً عن الفكر الإسلامي، فمن المعروف أن بعض الفقهاء، مثل ابن حزم، قد حرّم التقليد في الدين جملة وتفصيلاً، مطالباً جميع المسلمين بالاجتهاد، بما فيهم العوام والجهلة؛ لأن اجتهادهم لن يكون إلا بقدر وسعهم، ووسعهم لن يقل عن مستوى المحكم، الذي هو معلوم لكل الناس بالضرورة. ومن حسن حظنا أن جمهور الفقهاء قد حرم التقليد على المجتهد القادر على النظر والاستنباط.
كما أن المؤسسة الدينية تحتج بمثل قوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (النساء83). معتقدين أن الآية تدعو المسلم إلى الرجوع بكل ما يلمه من المسائل إلى حضرة المفتي، الذي كلف باستنباط الأحكام الشرعية من مظانها، على ضوء القواعد والأصول التي وضعوها لأنفسهم.
بينما منطوق الآية يتحدث عن “الأمن” و”الخوف”، وهي شؤون سياسية بحتة لا دخل للدين بها، يدخل فيها اليوم ما يسمى بالأمن القومي للدول. ورد هذه الأمور إلى الرسول، يعني إرجاعها إلى شخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بوصفه ولي أمر المسلمين الأول آنذاك، لا بوصفه النبي الرسول كما يعتقد بعض الفقهاء والمشائخ.
ومن القرائن الدالة على صحة ما نقول: إن الآية لم تطالب بإرجاع الأمر إلى الله والرسول كما تعودنا في آيات أخرى شبيهة، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. (النساء59).
ذلك أن عبارة “تنازعتم في شيء” تشمل النزاع في الدين والدنيا، كما تشمل نزاع القلوب ونزاع العقول، وهذه الأنواع من الاختلاف بحاجة إلى مرجعية إلهية، تلتقي عندها قلوب المتنازعين قبل عقولهم، أما مسائل الأمن والخوف، وغيرها من مسائل الاجتماع السياسي، فلا تحتاج لأكثر من أهل الاختصاص في الدولة والجماعة.
إن آية (النساء83) هي واحدة من الآيات القرآنية التي تفتح باباً للعلمانية بمفهومها الإسلامي، حيث تجعل مرجعية القضايا السياسية مرجعية مدنية لا دينية، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الآية - كما قلنا - كان في مقام ولي الأمر لا في مقام المبلغ، ومقام الولاية السياسية هو مقام مدني لا ديني، كما هي طبيعته، وكما أثبتنا في مقال سابق نشر على صفحات (الجمهورية) بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”.
ومما يلفت الانتباه أن شمس الدين بن قيم الجوزية، في كتابه الموسوعي والمرجعي المسمى “أعلام الموقعين عن رب العالمين” لم يذكر آية واحدة في التشريع لوظيفة الإفتاء بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع حرصه الشديد على تأصيل كل شاردة وواردة في مجال الإفتاء، مما يدل على أن هذه الوظيفة قد تكونت بمحض الخلط وتقليد أهل الكتاب، لا استجابة لمطلب قرآني.
لكن، هل معنى ذلك أن لا يكون للإسلام (القرآن) علماء متخصصون يكشفون غامضه ويجلون أسراره؟!. بالطبع لا، فنحن لا نقصد ذلك؛ فالقرآن الكريم خطاب عام شامل، يقوم على شبكة نصية لغوية واسعة ومتنوعة، فيها الواضح الجلي وفيها الغامض الخفي، وما كان هذه صفاته فهو يحتاج إلى علماء متخصصين ولا شك.
غير أننا نؤكد مع ذلك على أمور، أولها: أن وظيفة هؤلاء العلماء والدارسين، ليست وظيفة دينية، بل وظيفة مدنية، مثلها مثل بقية وظائف العلم والمعرفة الأخرى. ومن ثم فإن الاختلاف معهم كالاختلاف مع علماء الأدب والفيزياء، لا فرق.
وثانيها: أن العلم بهذا الخطاب لا يشترط فيه أن يكون العالم مؤمناً زاهداً عابداً يمشي على الماء من فرط كراماته، بل يشترط فيه أن يكون مدركاً لطبيعة الخطاب ومرجعيته المعرفية وقوانين اللسان الذي نزل به، حتى لو كان من الكافرين بحجيته..!.
وآخرها: أن ما يلزم الفرد المسلم من هذا الخطاب أمام الله، هو فقط ما بلغه وسعه من الفهم، لا ما بلغ وسع العالم منه، ومن ثم فإن الفتوى والمفتي عملان لا معنى لهما في ظل هذه الحقيقة.. وللحديث بقية.



العلمانية الثالثة (الجزء السادس)

إذا كنا نقول: إن وظيفة الإفتاء ليست وظيفة دينية، وإنما هي وظيفة مدنية، وإن الدين والمجتمع الإسلاميين ليسا بحاجة إليها، وإن المسلم لا يكلف أمام ربه إلا بما يطيقه وسعه في المعرفة، وإن المسلم العادي لا يمكن أن يطيق فهم الوسائل العلمية التي يتوسل بها الفقهاء في استنباط الأحكام، ومن ثم فإنه غير ملزم بمخرجات هذه الوسائل من الأحكام، فضلاً عن كونها منتجات مدنية لا دينية؛ باعتبارها أثراً من آثار العقل البشري، والعقل لا ينتج القداسة والدين، وإنما ينتج فكراً دينياً.
إذا كنا نقول ذلك، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ هو: ما موقف المسلم من الأوامر والنواهي المجملة أو المبهمة في القرآن الكريم؟ كيف نفهم - مثلاً - قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ. (المائدة6)، ونحن لا نعرف أين تبدأ حدود الوجه وأين تنتهي؟، هل يدخل الأنف والأذن في معنى الوجه أم لا؟!.
وجوابنا: إن هذه الطريقة من الاستقصاء والتفصيل، هي طريقة المغضوب عليهم من أهل الكتاب، التي حذر القرآن منها، وما قصة البقرة في سورة البقرة إلا نموذج ساقه القرآن؛ لكي نحذر من هذا السلوك النفسي المشين، فقد كان يكفي بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة - أي بقرة - وستفي بالغرض، لولا ادعاء الحرص والتكلف الزائدين.
وكذلك الحال مع غسل الوجه في الوضوء، وغيره من الأحكام، لا تحتاج إلى كل هذا العناء والنصب، فالعربي يعرف - على وجه الإجمال - معنى الوجه، وهذا يكفيه في تحقيق الغرض، فمن ظن أن الأنف والأذن والحنجرة داخلة في معنى الوجه، فذلك شأنه، ومن اعتقد أن ظاهر الوجه هو الوجه، فذلك يكفيه، وكلاهما في الوضوء سواء..!.
ومن المعلوم أن الأحكام التعبدية والاعتقادية الواجبة، قد وردت في القرآن بلغة واضحة ميسرة: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. (القمر17). لغة يفهما أدنى مستوى من العقل.
 وهذا هو سرّ وجوب أحكامها على الناس كافة، وإن جاء بعضها مجملاً فإن ذلك من عادات اللسان العربي، يمارسها بصورة يومية، ويفهم أصحاب اللسان المقاصد والأغراض، دون حاجة إلى مفتٍ.
ولا يحتاج المسلم لأن يتعرف على هذه الأحكام كل يوم وكل شهر وكل سنة، من فم المفتي، كما يفعل العاطلون عن العمل، والعاطلون من العقل، وإنما يكفيه أن يعلمها مرة واحدة في العمر، كما يعلم الطريق إلى بيته، ليمضي فيه بقية عمره.
وإذا ساقته نفسه الأمّارة بالفضول إلى طرح الأسئلة التفصيلية، فإنه في هذه الحالة لن يحتاج إلى المفتي، بل يكفيه ما وصل إليه عقله من قناعات فيها؛ لأن الإنسان مسؤول عن قناعاته أمام الله، لا عن قناعات المفتي..!.
قد يقول أحد المتطيرين: إن هذه الطريقة ستضيع الدين وتجعله عرضة للعبث.. وهذا كلام هلامي لا يعرف رأسه من رجليه؛ لأنه لم يضع لنفسه ولنا، حدود هذا الدين الذي سنضيعه.
ومن الواضح أنه يخلط بين الدين المنزل من السماء، وبين الفكر الديني النابت من الأرض. ونحن بدورنا نحب أن نؤكد له أن هذه الطريقة هي التي ستحفظ تدين الناس من الزيف والرياء، وستعيد إلى الدين حقيقته التي دثرها تراب الفكر الإسلامي التقليدي..!.
ذلك أن للحقيقة مظهران، أحدهما فردي والآخر اجتماعي، والمظهر الفردي هو الركيزة الأساس في التدين، بمعنى أن الله سبحانه يطلب الاستجابة من الفرد أولاً ثم من المجتمع، ولهذا فإنه يخاطب الفرد أولاً، ويشرع للفرد أولاً، وفي نهاية المطاف فإن الفرد وحده هو الذي يحاسب.
كما أن الإسلام قد ركز على المستوى النفسي الباطني، داخل البعد الفردي للخطاب، وجعله الأساس في التدين والاستجابة. وأعطى المستوى الخارجي للفرد أهمية ثانوية بعد المستوى النفسي.
 يلحظ المتابع ذلك في أكثر من مظهر؛ منه - على سبيل المثال - ترتيب مستوى الذنوب من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يكون مستوى الذنب صاعداً من الحسي (الخارجي) إلى المعنوي (الباطني)، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (الأعراف33).
“فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه، وهم الإثم، والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم”. حسب عبارة ابن قيم الجوزية.
والشاهد فيما مضى هو أن النص القرآني قد تعمد ترك مساحات مجهولة في مجال التدين؛ لأن هذه المساحات هي مجال اختبار الإرادة وصدق التوجه؛ لأن المسلم إذا صدق في عبادته فإنه لا يحتاج إلى مفتٍ يبين له طريق الحق من طريق الباطل؛ إذ يكفيه أن يسأل ضميره الحيّ: هل هذا مما يتفق مع روح الإسلام أم لا؟ ولابد أن يهديه ضميره إلى الجواب الأمثل، وبهذا يظل ضميره حياً يقظاً طوال الوقت.
وإن للإسلام خصائص عامة، يدركها أي مسلم، مهما كان مستوى عقله. يدركها لكثرة تعرضه للخطاب القرآني، ومعرفة اتجاهاته العامة، كما يعرف الاتجاهات العامة لسياسة الدولة، دون أن يكون خبيراً في العلوم السياسية. مثل تلك الخصائص التي تحدث عنها سيد قطب في كتابه: “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”.
فالربانية والتوازن والإيجابية والواقعية، معاني يستطيع إدراكها أي مسلم بسيط، حتى لو عجز عن التعبير عنها. وإذا حدث وعجز الفرد المسلم عن إدراكها، فإن المسؤول الأول عن ذلك هو الخطاب الديني الزائف الذي شوّش الفطرة وشوّه الدين.
يكفي أن يسأل المسلم نفسه، أمام أي عمل من الأعمال: هل هذا العمل رباني، إيجابي، متوازن، واقعي؟. فإذا أجاب ضميره بـ”نعم”، فذلك مما يحبه الله ويرضاه، وإن أجابه بـ”لا” فهو مما ينبغي تركه، هكذا بمنطق الفطرة البسيط، دون حاجة إلى فضيلة المفتي وفضلاته..!.
أما إذا كان المسلم سيء الطوية، فإنه - خوفاً من المجتمع لا خوفاً من الله - سيبحث عن الفتوى التي تعفيه من ملامة الناس، في بعض الأحيان، فإذا قال له المفتي: إن زواج التحليل شرط في صحة زواجه بعد الطلقة الثالثة، فإنه قد يكتفي بعقد زواج المحلل، وسند الطلاق، لكي يعود إلى زوجه، سواء صح هذا الفعل عند الله أم لم يصح.
إن وظيفة المفتي تترك آثاراً سلبية على الحياة الإسلامية برمتها؛ لأن هذه الوظيفة تأتي على حساب الرقابة الذاتية للفرد المسلم، المستهدف الأساسي بالخطاب القرآني.
كما أنها تبرر في الحس الإسلامي - بوعي أو بدون وعي - وجود طبقة من الوسطاء الكهنة، بين المكلفين وبين ربهم، وهو الخطأ الذي وقعت فيه المجتمعات الكتابية السابقة.
ومما يجدر ذكره أن وظيفة المفتي هذه لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي الأول، بعد انقطاع الوحي. وكل ما جمعه المسلمون من آراء للصحابة، لم يكن في حقيقته من باب الفتوى، بل من باب الاجتهاد الذاتي التلقائي، الذي لا يلزم أحداً.
وإن الناظر في المواقف المنسوبة إلى شخصية كعمر بن الخطاب مثلاً، يلحظ بجلاء أن الرجل لم يكن يعتمد في استنباطه للأحكام السياسية على الآلة الأصولية الصورية، التي رسم أصولها لاحقاً الإمام الشافعي، متأثراً بالمنطق الأرسطي. بل كان يعتمد نوعاً من النظر العقلي الإجمالي للنص القرآني. قريباً من الطريقة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أي النظر إلى الخصائص العامة للإسلام، لا إلى الأحكام التفصيلية.
فهو حين أوقف توزيع الفيء على فاتحي العراق بما يخالف ظاهر النص القرآني، لم يعتمد طريقة الأصوليين في استخراج النتائج بعد استقصاء المقدمات، وإنما نظر بعين بصيرته، مستنداً إلى خبرته الإجمالية بالإسلام، فوجد أن هذا هو الأنسب، والأكثر اتفاقاً مع ربانية الإسلام وإيجابيته وتوازنه وواقعيته. هذه الخصائص التي تجلت في فلسفة القرآن تجاه المال في قوله تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ. (الحشر7).
إن هذا التصور لطبيعة الدين، سيخلق مجتمعاً راقياً، متسامحاً، بسيطاً. وقبل ذلك سيخلق مجتمعاً مؤمناً، يعرف أن الدين ضميرٌ حيٌ، قبل أن يكون طقساً اجتماعياً محفوفاً بالنفاق. كما أنه يكشف عن مساحات العلمنة الواسعة في الدين الإسلامي. وهي المساحات التي حاولت المؤسسة الدينية “البسط” عليها وضمها إلى أوقاف الفقهاء..!.


العلمانية الثالثة (الجزء السابع)

 في نهاية هذه الجولة النقدية التحليلية لمفهومي العلمانية والإسلام، أجد من المناسب استعادة ذلك السؤال الذي بدأنا به سلسلة هذا المقال، وهو: هل بالإمكان حقاً إيجاد صيغة علمانية تتفق مع روح الإسلام ومقاصده، دون أن تأتي على حساب حقيقتي الإسلام والعلمانية؟.
 والجواب بـ”نعم” هو خلاصة هذه السلسلة المقالية، بالنسبة للكاتب ومن يتفق معه في الرأي.
إلا أن الكاتب يفترض وجود قارئ معارض لهذه الأطروحة، لن يعترف ببعض مقدماتها، ولا بالنتائج المترتبة عليها، بدوافع مختلفة ستأخذ عند بعضهم مظهراً علمياً، أو مظهراً تقوياً (من التقوى).
 والكاتب لا يطمع في إقناع كل أصناف المعارضين لهذه الأطروحة، فذلك أمر يعجز عنه حتى الأنبياء، لكنه يطمح في تحقيق عدد من الأهداف البسيطة، ذات الأثر القوي، في حياتنا السياسية والعقلية.
من بين تلك الأهداف، نزع أقوى أسلحة المتخاصمين على العلمانية والإسلام، وذلك بنزع أقوى حججهم في الرفض؛ إذ لم يعد للعلماني حجة قوية في رفض مرجعيةً الإسلام للدولة ذات الأغلبية الإسلامية، ما دمنا قد استبعدنا من هذه المرجعية كل منتج بشري ذي صبغة دينية، مكتفين بالنص السماوي القطعي، وهو بطبيعته نص محدود للغاية، ولا يشكل تهديداً حقيقياً لجوهر العلمانية.
وكذلك فإنه لم يعد للإسلامي الراديكالي حجة صلبة في رفض العلمانية المذهبية، مادمنا لم نستبعد الدين من مرجعية الدولة، إلا إذا شاء أن يقتحم العقبة، ويزعم أن المذهب هو الدين، وأن الدين هو المذهب، وفي هذه الحالة يكون قد حفر قبره بيده، وأعطى خصمه السكين التي ستجهز عليه.
وبقي أمامنا سؤال مركزي، هو: هل الفصل بين الدين والمذهب ممكن فعلاً، أم أنه مجرد طموح؟.
والجواب أن الفصل ليس ممكناً فقط، بل هو قائم بالفعل؛ بدليل أن الناس يقبلون - من حيث المبدأ - بالخلاف في المذهب، لكنهم لا يتسامحون أبداً في المساس بالدين.
 وإذا كان العلماء يستطيعون تفسير ذلك وتبريره بلغة علمية، فإن العوام يشعرون بهذه القسمة في عقلهم الباطن، دون قدرة على التعبير.
وقد قدمنا فيما مضى بعض نصوص رجال المؤسسة الدينية التقليدية المعتبرين، التي تصرح بالتمييز بين الدين والفكر الديني، وأن الدين مجسد في نص القرآن الكريم، وحده لا شريك له.
مما يعني خروج كافة النصوص المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة، والفقهاء، من دائرة الدين إلى دائرة الفكر الديني (المذهب).
فإذا أضفنا إلى هذا التصريح اعترافاً آخر من جميع الفقهاء، بأن معظم النص القرآني ليس قطعي الدلالة، وأن كل فهم لنص ظني الدلالة لا يلزم إلا صاحبه، فقد وصلنا إلى أخطر النتائج على الإطلاق.
 وهي النتيجة التي تقول: إن النص القرآني ملزم للمؤمنين به، على وجه الإجمال فقط، أما عند التفصيل فإن النسبة الأقل من نصوصه هي الملزمة للجميع.
ونعني بها ذلك المستوى القرآني المحكم، الذي لا يقبل التأويل، وفق المرجعية البيانية للقرآن الكريم.
إن هذا المستوى المحكم من القرآن الكريم هو على وجه التحديد القدر المتفق على مرجعيته للدولة والمجتمع، أما الآيات التي تقبل التأويل والفهم على أكثر من وجه، فهي مرجعية ملزمة لأفراد المجتمع دون المجتمع نفسه.
 على اعتبار أن كل فرد مسلم ملزم أمام الله بما فهمه من هذه النصوص، حسب وسعه العقلي، وأن الدولة هي الكيان الذي يعبر عن مصالح الجميع ورغباتهم، دون تمييز بين أفرادها على أي أساس غير موضوعي.
أما إذا علمنا أن النص التشريعي هو جزء من النص المحكم المحدود، وليس كل النص المحكم، وأن الجزء العقائدي من هذا النص المحكم لا يعد مشكلاً سياسياً حقيقياً عند العلمانية نفسها، فقد ضاقت دائرة المرجعية الدينية للدولة إلى أضيق الحدود، بحيث لا يبقى منها إلا النصوص القانونية الصريحة، وإلا المبادئ الأخلاقية العامة، المتوافقة مع المقاصد العامة للدين، وهي مبادئ ومقاصد إنسانية لا تجد العلمانية في رفضها حجة متينة.
وإن معظم النصوص القانونية القرآنية التي تثير النزاع بين العلمانية التقليدية والإسلام، هي من تلك النصوص التي تقبل التأويل وإعادة التفسير، وفق القواعد اللسانية المعتبرة لدى الجميع.
 وهو ما يعني أنها ستعد على الإجمال من قوانين الدولة، أما على التفصيل فإنها ستفضي إلى آراء مذهبية لا تلزم الدولة، إلا في حالة واحدة، إذا قررت الأغلبية المذهبية أن تجعل مذهبها - بحكم الديمقراطية - مرجعاً للدولة.
لكن هذا الاحتمال الأخير إذا حدث سيكون بشرط واحد متفق عليه، هو أن ينظر إلى هذه الآراء المذهبية على أنها قوانين مدنية لا أحكام دينية، بوصفها أثراً من آثار العقل البشري الذي لا ينتج القداسة. مما يعني أنها خاضعة - بحكم الديمقراطية أيضاً - للنقد والمراجعة والرفض، من قبل المعارضين على الأقل.
 وهنا سيكون الفصل بين الجيد والرديء من القوانين والمرجعيات مرهوناً بمستوى وعي الجماهير الناخبة، وعلى هذا سيجري الصراع الفكري بين النخب التنويرية والقوى الظلامية.
ومن بين تلك الخلافات التقليدية التي نقدر أن تختفي بين العلمانيين، والإسلاميين الراديكاليين، تلك الخلافات الناشبة حول بعض التشريعات الدينية التي تمس حقوق الإنسان، مثل: عقوبة المرتد، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق؛ لأن بعض هذه العقوبات (الردة ورجم الزاني المحصن) لم تقم على أساس علمي متين، ولم ترد بنص قطعي الدلالة والحجية والثبوت، ومن ثم فإنها - وفق الاعتبارات التي قدمنا - لا تعد جزءاً من الدين، وإنما هي جزء من التراث المذهبي الذي لا يلزم الدولة في شيء.
أما عقوبة قطع يد السارق، فهي - على الإجمال - عقوبة ملزمة؛ لكونها وردت بدليل قطعي الحجية والثبوت، هو النص القرآني.
 إلا أنها عند التفصيل ستفضي بنا إلى رأي مذهبي، إذا ما تبين لنا أن نص هذه العقوبة يقبل التأويل والتخريج على أكثر من وجه، وهو ما أثبته كاتب هذه السطور - على الأقل - في مناسبات سابقة قبل سنوات.
 مما يعني أن الآراء المختلفة في تأويل هذا النص لن تكون جزءاً من الدين، ومن ثم فلن تكون جزءاً من المرجعية الدينية للدولة الإسلامية، ومن حق المشرع في هذه الحالة أن يختار ما يراه مناسباً من الآراء عند التقنين لعقوبة السرقة، بشرط أن يعترف بكون الرأي الذي سيتحول إلى قانون جماعي، جزءاً من القانون المدني، لا جزءاً من الدين.
نخلص من كل ما مضى إلى تقرير حقيقة واضحة يشعر بها الجميع، وإن كان البعض يعجز عن التعبير عنها في بعض الأحيان.. هذه الحقيقة تقول: إن الدين هو النص السماوي المتفق على حجيته وثبوته فقط، وإن التدين هو الحالة الفردية لتطبيق هذا الدين، أما الدولة فهي كيان اعتباري لا دين له، لكنه كيان قانوني، من حق الأغلبية الثابتة أن تشكله بما لا يتعارض مع الحقوق الطبيعية للإنسان.
وهذا ليس منطق الديمقراطية وحسب، ولكنه منطق الإسلام نفسه؛ لأن الإسلام - بعد استبعاد خرافة حد الردة - لن يختلف عن الديمقراطية في أية مسألة جوهرية؛ إذ إن حرية الاعتقاد والتدين المكفولة بنص قطعي في القرآن الكريم تعطي الفرد والجماعة كامل الحقوق التي تعطيها له الديمقراطية، بل وترتفع بها إلى مستوى الواجبات.. هذا على مستوى الحياة الدنيا، أما على مستوى الحياة الأخرى فإن الحساب سيكون فردياً على قدر وسع الإنسان من الفهم والصدق.
تلك هي الصيغة الإجمالية لمفهوم العلمانية الثالثة كما نقترحها للمجتمعات الإسلامية، نضمها إلى رأينا في حقيقة موقف الإسلام من منصبي الخلافة والإمامة، الذي نشرناه على صفحات (الجمهورية) في وقت سابق، في مقال بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”، وأثبتنا فيه بأدلة واضحة أن منصب الإمامة أو الخلافة ليس منصباً دينياً، وأنه لا القرآن ولا رسول القرآن أعطيا منصب الرياسة ونظام الحكم اهتماماً يذكر.
 مما يعني أننا أمام حالة من العلمانية الإسلامية لا يستطيع المتنطعون إنكارها إلا على سبيل المكابرة والتمحل.
إن سرّ قوة هذه الأطروحة أمام رجل الدين، المعارض الافتراضي، هو في أنها جاءت وفق التقاليد الأصولية المعتبرة لديه، وفي مذهبه، وأي إنكار لها هو إنكار لتك التقاليد، أو إنكار لصحة تطبيقها، وهو في الحالة الأولى مغامر متهور، وفي الحالة الأخرى مجرد مخالف في تطبيق المنهج، وما أكثر الخلاف والمخالفين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق