الاثنين، 28 ديسمبر 2015

فلسفة الاصطفاء والوسطية


(فقرة من كتاب تحت الطبع بعنوان "الإنجيل الخامس").
عصام القيسي

................... ............. ......... ........... ......... ....... ..........
لم يكن في وسع اللغة ولا في وسع بني إسرائيل آنذاك، استيعاب الفلسفة التي تقف وراء اختيارهم لهذه المهمة من دون الناس، ووراء هذه العناية الإلهية التي رافقتهم منذ ظهور موسى. وكل ما يستطيع عقل بسيط كالعقل الإسرائيلي آنذاك أن يستوعبه هو أن شيئاً ما مميزاً في جيناتهم هو الذي جعلهم أهلاً لهذا الشرف، فلا بد أنهم عرق خاص بين الأعراق، له – بالضرورة – أقداره الخاصة.

ولو أن موسى كان أستاذاً في الفلسفة الحديثة لحدثهم عن الخصائص التاريخية الموضوعية التي جعلتهم – دون غيرهم – محل اختيار الله لهذه المهمة. الخصائص التي كان من السهل أن تتوفر في شعب آخر سواهم لو أنه مر بنفس الظروف والملابسات التي مروا بها. لأخبرهم - مثلاً - أن حكمة الله الحكيم الخبير قد اقتضت أن يصطفي من بين مناطق الجغرافيا منطقة محددة، هي الشرق الأوسط، ومن بين قبائلها قبيلة إبراهيم بن آزر الكلداني، لسبب يتعلق بوسطية هذه القبيلة كما سنبين بعد قليل، وليس لأن سلالة إبراهيم ذات خصوصية عرقية، كما يتصور العقل الساذج، والضمير الشيطاني.

إنها "الوسطية" بأبعادها الجغرافية والنفسية والذهنية والحضارية. وسطية الجغرافيا التي لا بد أن تفرض أنماطاً وسيطة في الحياة العقلية والروحية لقاطنيها. فكما أن لسكان المناطق الباردة خصائصهم النفسية والذهنية المميزة عن خصائص سكان المناطق الحارة، كذلك لسكان المناطق الوسيطة خصائصهم الذهنية والنفسية والثقافية، التي رأى العليم الخبير أنها أصلح لحمل رسالة التوحيد من غيرها و"الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الأنعام 124). وعلى سبيل الاختزال يمكننا القول إن الإنسان الوسيط بين الحضارة والبداءة يمتص أحسن ما في هذين النقيضين، ويدع أسوأ ما فيهما.

 لقد كانت الأقوام السامية في شمال الجزيرة العربية تتمتع بموقع جغرافي متوسط بين عدد من الحضارات المحيطة بها من جهة، وبين قبائل الأعراب البدائيين المنقطعين في مجاهل الصحراء العربية من جهة أخرى. فسومر وبابل والفرس في الشرق، والآشوريون والحثيون في الشمال، والمصريون في الغرب والدويلات اليمنية في الجنوب والبدو والأعراب في الوسط. وفي مقدمة هذه القبائل الوسيطة قبيلة إبراهيم بن آزر الكلداني، التي استوطنت أور كلدان جنوب بلاد الرافدين قرابة العام 1800 ق.م. ويبدو أن الأصول الأولى لهذه القبيلة تعود إلى حران في جنوب تركيا، بدليل رحلاتهم المتكررة إليها من أجل الزواج كما تدل شواهد التوراة. والتوراة نفسها دليل كاف على أن هذه القبيلة لم تستقر طويلاً في أي منطقة سكنتها، ولم تندمج اندماجاً كاملاً في أي مجتمع حضاري نزلت عليه.

لكن على الرغم من كونها قبيلة مترحلة، عابرة للحدود والمجتمعات، إلا أنها لم تكن قبيلة بدائية غارقة في البداوة والسذاجة، فقد ساعدتها الظروف والملابسات على الاحتكاك بالمجتمعين النقيضين من حولها، مجتمع الحضارة ومجتمع البداءة (الأعراب). ولعل اشتغال هذه القبيلة بالتجارة ومرورها بطريق القوافل هو الذي ساعدها على ذلك. ولعله السبب نفسه الذي هيأ مكة فيما بعد لاستقبال الرسالة الخاتمة، ولعل هذا أيضاً هو أحد معاني "لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف". وهنا يحضر السؤال المركزي لهذه الفقرة: ما الخصائص التي تجعل من القبائل الوسيطة أكثر أهلية لحمل رسالة التوحيد من غيرها؟ ولماذا؟.

 إن التحليل المقارن للعقول الثلاثة (المتحضر والوسيط والبدائي) يمكنه أن يضعنا أمام صورة تقريبية لما نريد قوله. فعلى مستوى العقل: يبدو العقل المتحضر آنذاك واقعاً تحت سلطان الأسطورة. والأسطورة بناء ذهني فني ورمزي مركب، لا يقدر على إنتاجه العقل البدائي ولا العقل الوسيط. وفي المقابل هناك العقل البدائي الواقع تحت سلطان الخرافة، وهي بناء ذهني ساذج بسيط، لا يليق بسمو العقل المتحضر، ولا يهيمن على العقل الوسيط هيمنة تفقده اتزانه. ويبدو العقل الوسيط بينهما متحرراً من سلطة هاتين الآفتين اللتين تمنعانه من تصور مفهوم الوحدانية النقي.

وعلى المستوى النفسي والأخلاقي: تبدو السيكولوجيا الوسطية ملائمة أكثر من غيرها لمهمة ثقيلة كمهمة حمل رسالة التوحيد، في عالم يكتظ بالأديان والعقائد الشركية والوثنية. إذ يبدو الإنسان الوسيط أطول نفساً من الإنسان البدائي المتصحر، الذي يتسم بالنزق واستعجال الثمار قبل أوانها. كما أنه يبدو أكثر صلابة في الحفاظ على ميراثه من الإنسان المتحضر، الذي يميل إلى المهادنة والتفاوض والحلول الوسطى بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ويقدم التسعة والتسعين ليكسب المائة.

وقد أشار القرآن إلى مفهوم الوسطية هذا إشارة سريعة لم يلتقطها من مثقفينا – حسب علمي – سوى الأستاذ العقاد. فقد توقف في كتابه الثري "إبراهيم أبو الأنبياء" عند هذا السؤال المهم: "لم اختص الله الأمم السامية بالرسالات النبوية؟ لم لم تظهر هذه الرسالات في الهند أو في الصين أو في القارة الأوروبية؟ لم كانت هذه الرسالات هي الدور الذي تهيأت له أمة واحدة في وسط العالم: أمة وسطا كما نعتها القرآن؟".

ثم شرع العقاد في الإجابة على هذا السؤال في سطور عديدة بدأها بالقول: "تلك أسئلة غامضة تظل على غموضها، حتى ننظر في الأحوال النفسية التي يكون عليها الإنسان بين الحضارة والبداوة، ولا تهيئة لهذه الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد، بل لا بد فيها من التقاء الشعورين وامتزاج المجتمعين، ولم يحدث قط أنهما التقيا وامتزجا على هذا النحو في غير البلاد التي قامت عليها الحضارات الأولى، وظلت زمناً طويلاً جامعة بين الصحراء والمدنية والأقطار المتحضرة، كأنها خلقت للنهوض بهذه الأمانة، ثم نهضت بها ونشرتها في جميع أنحاء العالم، فهي دورها الأكبر بين سائر الأدوار التي توزعتها الأمم والعصور".

ثم يربط العقاد بين الوسطية والاشتغال في التجارة بسؤال أكثر تحديداً هو: لماذا كانت مدن القوافل أو المدن القريبة من الصحراء، أصلح البلاد للرسالة النبوية؟" ويقدم بين يدي الإجابة المفصلة إجابة مختصرة تقول: "إنها صلحت لذلك لأن الأحوال النفسية التي تتوافر فيها لا تتوافر في في حضارة العمران المتصل ولا تتوافر في الصحراء المنعزلة، ولا تتم أسبابها الحسنة ولا أسبابها السيئة في بيئة أخرى كما تتم في المدينة حولها الصحراء".

ويفصل العقاد رأيه هذا في سطور طويلة مفادها أن البلدان التي اتصلت حضارتها (لم تنقطع) تعطينا المشرعين والكهان ولا تعطينا الأنبياء والرسل. ذلك أن سريان العرف، وترقي العادات الاجتماعية، واستقرار نظام القانون والمعاملة، تؤهل أهل هذه البلدان لاستيعاب العقائد بصورة أفضل، وفي مقدمتها عقيدة التوحيد التي من المتوقع أن تكون هذه الحضارات قد عرفتها منذ أن كانت في طور البداوة، إلا أن الدين في هذه المجتمعات يؤول إلى سلطة الكهنة. إذ أن سلطة الكهنة – والكلام للكاتب – يكون راسخاً فيه أكثر من سلطان الملوك أنفسهم في كثير من الأحيان. وما تجربة أخناتون إلا مثال نموذجي لهذه الحقيقة، فقد أراد هذا الملك أن يفرض عقيدة التوحيد التي آمن بها فرضاً على الناس، وأن يجعلها دين الدولة الرسمي، وكانت النتيجة فشلاً ذريعاً، دفع ثمنه بقية الموحدين في مصر لمئات من السنين بعده. لقد وقف في وجه كهنة آمون بسيف الدولة فوقف له الكهنة بسيف الشعب.. والشعب غالب لا محالة في مثل هذه المواجهات!.

فليس من السهل على الأنبياء مواجهة سلطان الكهنة في البلاد المتقدمة – ومثلهم الفلاسفة - بخبراتهم العريقة في توجيه العوام والتشويش على الحقيقة وإثارة الشغب وحماية مصالحهم من تهديد المتطفلين!. ولك أن تتخيل أن نبياً قد بعث في اليونان في عصر السفسطائيين مثلاً، كيف سيكون حاله؟!. إنه بالتأكيد سيقضي معظم الوقت، لا في الدعوة إلى رسالته، وإنما في الإجابة عن الأسئلة والمعضلات المطروحة عليه!. وحتى لو أجاد الطريقة الفلسفية في الجدل فإنه سيقضي معظم وقته في محاولة إزاحة ركام الشبهات الذي غيب الحقيقة البسيطة تحته. وتلك كلفة كبيرة وجدوى قليلة.

والتاريخ يضرب لنا الأمثال في كيفية تأثير الثقافة المركبة للمجتمعات المتحضرة على عقيدة التوحيد البسيطة الواضحة. من أوضحها لدينا نحن المسلمين تأثير العقل الفارسي في الفكر الإسلامي. فقد خرج الإسلام من جزيرة العرب عقيدة واضحة بسيطة كوضوح الصحراء وبساطتها، وعاد من فارس عقيدة مركبة مشوشة، مكونة من عناصر أسطورية تختبئ في يرقاتها عبادة الملوك وتقديس السلالة التي عرفتها الثقافة الفارسية. خرج من مكة إسلاماً ليبرالياً يعطي الفرد مساحة واسعة من حرية العقل والضمير، وعاد من فارس إسلاماً غنوصياً مقيداً بذيل الإمام والمرجع والطائفة. خرج من مكة وهو قانون في الضمير والأخلاق وعاد من فارس وهو قانون في السياسة والصراع الاجتماعي والنفسي.

ذلك بالنسبة للمجتمعات المتحضرة فماذا عن المجتمعات البدائية (يسميها العقاد بدوية)؟.
تبدو المجتمعات البدائية القاطنة في مجاهل الغابات والصحاري، المنقطعة عن التواصل الحضاري والثقافي، فاقدة للحد الضروري من الاستعدادات الذهنية والنفسية والمادية للقيام بدور الشهادة على الناس. فالأعرابي الجهول النزق الباحث عن ما يسد رمقه، المتصف باللؤم والانتهازية، ليس مهيئاً ولا جديراً بالقيام بمثل هذا الدور الكبير. ولعل هذا معنى الآية: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم" (التوبة 97). ومثل هذا الأعرابي - بل أبعد منه - ذلك الإنسان البدائي في غياهب الغابات الأفريقية، حيث تعيش الخرافة في أدنى أشكالها البدائية. وهذا لا يعني - بالطبع - أن هذه الأمم عاجزة تماماً عن استيعاب فكرة الدين والتوحيد، أو أنها ظلت طوال الوقت منقطعة عن الاتصال بالسماء، كما توحي بذلك الدراسات الأنثروبولوجية البدائية، التي على شاكلة "الغصن الذهبي" لـ جيمس فريزر. وإنما نعني أنها غير مؤهلة للقيام بدور الوسيط الناجح في نشر الرسالة ذات الطابع الحضاري والثقافي الأكثر رقياً وتركيباً، وهو ما يسميه القرآن بـ "الشهادة على الناس": "لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة 143).

إذن فقد كان موسى يدرك – بحكمة النبي أو بخبر الوحي – أن لدى العقل الإسرائيلي قابلية كبيرة للوقوع في فخ التفسير العنصري للمسألة، وليس مستبعداً أن يأتي اليوم الذي يقول فيه الإسرائيليون لأنفسهم ولغيرهم "نحن شعب الله المختار، نحن أبناء الله وأحباؤه"!. وقطعاً لدابر هذه النتيجة ألقى عليهم موسى منذ البداية النبأ الذي سيؤرقهم ويعكر حياتهم لمئات من السنين القادمة. النبأ الذي سيكون سبب اجتثاثهم من الأرض المقدسة وتدمير هيكلهم الثالث والأخير كما سيتضح في سطور قادمة. لقد أخبرهم موسى أن الله العليم قد اطلع على أحوالهم في المستقبل فعلم أنهم سيخذلون عقيدة التوحيد وسيتورطون في الشرك وعبادة الأصنام ويقعون في خطيئة الكذب على الله، وأنه سيجازيهم على هذه الخطايا بأن ينزع عنهم شرف رسالة التوحيد ويعطيه لقوم آخرين وصفهم سفر التثنية بأنهم "قوم جهلاء" (التثنية: 32: 21) وأن الله سيبعث من هؤلاء الجهلة (الأميين) نبياً بمواصفات موسى يكون "حجر الزاوية" في بناء النبوة (أي خاتم الأنبياء)!. ................... ............. ......... ........... ......... ....... .......... 

هناك 3 تعليقات:

  1. رائع جداً استاذ عصام
    ننتظر الكتاب او ننتظر الانجيل الخامس
    معلومات قيمة جداً جداً .
    بالتوفيق

    ردحذف
  2. جميل جدا جدا.. وبالتوفيق لك في جميع كتاباتك ومدوناتك..
    ننتطر منك المزيد.. فتحت لنا أبواب فلسفية وفكرية مغلقة. .
    الآن عرفت بمعنا انتمائي لهذا الدين الحنيف والذي افتخر به. .
    والله اليوم عرفت معنى وسطية الدين ووسيطه في التبليغ..

    ردحذف
  3. بحث قيّم جداً. نتطلع لقراءة الكتاب كاملاً. كل الشكر لك استاذ عصام ع الجهد التنويري الجبار الذي تقوم به. فهناك، من دون شك، آلاف العقول المتعطشة لمحتوى عميق وهادف كالذي تطرحه.

    كل التحية والتقدير.

    ردحذف