الاثنين، 30 يونيو 2014

الخلافة والإمامة والوهم (2/3)

نشر في صحيفة الجمهورية - عدد الثلاثاء 14 فبراير-شباط 2012

قلنا إن القائلين بوجوب منصب الإمامة / الخلافة يحتجون بدليل الإجماع، بعد أن افتقدوا دليل النص. وكان الشيخ عبد الرازق قد بدد هذا الدليل بسهولة حين ذكرهم بأن فرقة من الخوارج (النجدات) والأصم من علماء المعتزلة، قد خرموا هذا الإجماع المزعوم. وهذا وحده كاف لاستبعاده من دائرة الاحتجاج عند من يؤمن بحجية الإجماع. وقد كان عبد الرازق لينا مع خصومه إلى حد كبير، إذ اعترف لهم بحجية الإجماع كدليل شرعي، واكتفى بنفي وقوعه في هذه المسألة، مع أنه سيد العارفين بأن مقولة الإجماع برمتها تعد واحدة من أشهر خرافات الوسط العلمي. وما كان ينبغي لعبد الرازق ولا لغيره، أن يسلموا ابتداء بحجية مثل هذا الدليل، وإدراجه ضمن الأدلة الشرعية الكبرى. وذلك لاعتبارات كثيرة، أبرزها عدم وجود نص قطعي من الكتاب في اعتبار الإجماع حجة شرعية ملزمة. وكل ما ورد في هذا الباب من استدلالات لا يصلح لشيء، بدليل أنه لا توجد آية واحدة اتفق الأصوليون والمفسرون على كونها قاطعة في حجية الإجماع.

وإن أشهر ما يستدلون به قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. وكان أول من استدل بها على حجية الإجماع هو الإمام الشافعي كما يقول السبكي، وهو استدلال رده عليه كثير من الأصوليين، بمن فيهم الإمام الغزالي، والسبكي نفسه، وهما من أئمة المذهب الشافعي!، على اعتبار أن المقصود بعبارة “سبيل المؤمنين” في الآية هو الإيمان نفسه لا الإجماع. ومما يجدر التوقف عنده رواية السبكي التي أشرنا إليها سلفا، إذ وردت فيها معلومتان ذواتا دلالات خطيرة. تقول الرواية إن الشافعي هو أول من استدل على حجية الإجماع بهذه الآية، وإن الشافعي عكف على المصحف ثلاثة أيام للبحث عن دليل في حجية الإجماع حتى استخرجها. ومن معاني ذلك أن مسألة الإجماع قبل الشافعي لم تكن مطروحة، أو أنها لم تكن ذات أهمية خاصة، وإلا فما معنى أن يكون هو أول من استخرج لها دليلا من القرآن؟!. كما أن من معانيها أن الشافعي كان يدخل على القرآن بمقررات مسبقة يبحث لها عن مؤيدات، لا أنه يأخذ مقرراته من القرآن ابتداء!. والحقيقة أن هذه العادة ليست غريبة على الإمام الشافعي فقد لمسناها عنده في أكثر من مسألة.

ومن المعلوم في الدرس الأصولي أن مسألة الإجماع من المسائل التي اختلف الفقهاء في كل تفصيلة من تفصيلاتها، فلم يجمعوا على أمر واحد من أمورها، حتى صح عليها القول: إن الإجماع نفسه بحاجة إلى إجماع. ولمن أراد تفصيل هذه الحقيقة والتأكد منها أن يرجع إلى كتاب “الإجماع في الشريعة الإسلامية” للشيخ علي عبد الرازق نفسه، أو إلى الخلاصة المركزة التي سجلها شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت في كتابه الشهير “الإسلام عقيدة وشريعة”. وإن من يطلع على هذه المراجع ليعجب أشد العجب كيف أن الفقهاء، أو غالبيتهم، ما زالوا يؤمنون بحجية الإجماع، بدلا من الدعوة إلى استبعاد هذا الدليل من دائرة التشريع برمته!. لولا غياب الحساسية المنهجية عند أغلب من يتصدى لأمور الدين والعلم في القديم والحديث. فما بالك بحساسية التوحيد التي كان ينبغي أن تستيقظ فيهم، إذا ما علمنا أن مقولة الإجماع تفتح بابا خفيا للشرك، حين تسمح للبشر أن يضيفوا إلى دائرة الدين المقدس ما أجمعوا عليه بفهمهم!. ومع كل إجماع جديد يضاف إلى الشرع، تتهاوى في الأذهان مقاصد قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. [المائدة: 3].. إذ كيف يكون الدين قد اكتمل بوجود الرسول (ص) وباب الإضافة ما زال مفتوحا باسم حجية الإجماع؟!.

أما ما لم يتنبه له الخائضون في مسألة وجوب منصب الإمامة / الرئاسة _ بما فيهم عبد الرازق نفسه _ فهو الخلط بين الإجماع بوصفه حالة دينية والإجماع بوصفه ضرورة اجتماعية. فمن البدهي أن الدولة والحكومة والرياسة من الضرورات الاجتماعية التي لا تقوم حياة الناس إلا بها على وجه العموم. وما كانت هذه حالته فلا يحتاج إلى نص ديني أصلا. وهاهي أمم الأرض جميعا، بمختلف أديانها وأعراقها وظروفها، تقيم الدول والحكومات والرؤساء بدافع ضرورات الاجتماع، لا بدافع الدين. وهذا تحديدا هو دافع الصحابة بعد وفاة النبي (ص) من تنصيب خليفة له. وما كان حديثهم في السقيفة وما بعدها إلا حديث سياسة مدنية بحتة. وما ظهرت أحاديث الإمامة والسياسة إلا في وقت لاحق، عندما احتاج إليها أمراء السوء. وإلا فليخبرونا لماذا لم نسمع “حديث الأئمة في قريش” على لسان أحدهم في السقيفة؟!.

ذلك هو دليل الإجماع الذي احتجوا به في وجوب منصب الإمامة السياسية، ومن ثم وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. وهو كما ترى في غاية الضعف والهزال، عند من صحت عقولهم، ونظفت سرائرهم. فإذا كان هذا هو دليلهم الأكبر فكيف بأدلتهم الصغرى يا ترى؟!.. ولعلك تتساءل الآن: هل بقي لهم من حجة؟!.. والجواب: لم يتبق لهم سوى دليل هش يسمونه دليل العقل. وهذا الدليل يختلف مقامه عند الفرق الإسلامية، فهو لدى السنة دليل ثانوي، أما عند الشيعة فهو أكبر الأدلة وأعظمها، ولهذا فضلنا إرجاء مناقشته إلى الحلقة المقبلة، لنتعرف من خلاله على عقيدة الشيعة في موضوع الإمامة السياسية. بل لنتعرف من خلاله على مدى غيبة العقل عند المسلمين..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق