الخميس، 7 فبراير 2013

العلمانية الثاثة - الجزء الخامس

هل وظيفة المفتي الشرعي وظيفة دينية يقرها الإسلام، أم أنها اختراع بشري، من اختراعات كثيرة قدمها المسلمون للبشرية؟!.
 هل يحتاج المجتمع المسلم إلى وظيفة المفتي حقاً أم أنها زائدة دودية لا حاجة له بها؟.

هذه هي الأسئلة التي أثرناها في سطور سابقة من هذا المقال، ووعدنا بالإجابة عنها بصورة مفصلة قدر ما نستطيع.
من المعلوم في الأوساط العلمية الإسلامية أن الأحكام لا تثبت وجوباً إلا بأدلة قطعية في الحجية والثبوت والدلالة. وهذه الشروط مجتمعة لا تتوفر إلا في بعض نصوص القرآن الكريم فقط. فهل هناك نص بهذا المستوى في القرآن، يحث على وظيفة المفتي الشرعي في الإسلام، ويحدد طبيعتها يا ترى؟.
المتابع لخطاب المؤسسة الدينية الإسلامية يجد أن لديها أدلتها وحججها في التشريع لوظيفة الإفتاء، إلا أنها أدلة واهية لا تثبت أمام النقد العلمي الفاحص. ومن ذلك احتجاجهم بآيات قرآنية من مثل قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. (التوبة122).
إذ يعتقدون أن الآية تحرض على تأسيس طبقة من رجال الدين، يكون من مهامهم إفتاء الناس في كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين. وأمور الدين عندهم تشمل كل وجوه النشاط الإنساني، بما فيها طريقة الجلوس على مرحاض “التواليت” كما يزعمون، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يجتهد حتى في كيفية قضاء الحاجة..!.
بينما منطوق الآية لا يفيد سوى الحض على التفقه في الدين، وقد عرفنا معنى الدين فيما مضى، والفقه هو المعرفة الدقيقة بالدين، ومن هذه المعرفة الدقيقة أن يميز المسلم بين الدين والفكر الديني، وبين حدود الدين من حدود الدنيا. وليس في الآية ما يتجاوز حدود العلم بالنصوص المنزلة ودلالاتها العامة.
وهناك فرق بين أن يتعلم الناس الدين، على التفصيل السابق، وبين وظيفة الإفتاء المعروفة، ففي الحالة الأولى سيكتفي العامي بمعرفة ما هو في الدين بالضرورة، أي ذلك القدر من الدين الذي يعفيه من العقاب يوم الحساب، ويدخله الجنة، كما فعل عوام الصحابة ومن في عصرهم. بينما سيحاول المسلم المثقف التقدم إلى مناطق أخرى أكثر غموضاً ودقة، فيرتقي عند الله بقدر ما ارتقى في سلم العلم بها.
وفي الحالة الأخرى، سيضطر العامي والمثقف إلى معرفة ما فوق الضرورة الدينية، لا عن طريق التعلم الذي سيربي فيهما ملكة الفقه، وإنما عن طريق التلقين، الذي يحول صاحبه، بمرور الوقت، إلى مجرد كائن بليد ينفذ دون أن يعرف حقيقة ما يفعل.
بينما الحقيقة أنه لا المسلم العامي ولا المسلم المثقف يحتاجان إلى المفتي والفتوى؛ لأن المسلم العامي لا يمكن أن يكلف أمام الله، بما فوق وسعه من الفهم، وفقاً لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة286). وليس في وسع العامي أن يفهم طرق الفقهاء في الاستنباط والقياس، حتى يكون ملزماً بنتائج هذه الطقوس العلمية المعقدة.
أما المسلم المثقف فإنه لا يحتاج إلى المفتي؛ لأنه إما يمتلك القدرة على فهم النصوص بنفسه دون معونة المفتي، وإما أنه لا يمتلكها، ومن ثم فهو ملزم فقط بما وصلت إليه مداركه، لا بما وصلت إليه مدارك غيره.
وهذا المنطق الذي نقول به ليس غريباً تماماً عن الفكر الإسلامي، فمن المعروف أن بعض الفقهاء، مثل ابن حزم، قد حرّم التقليد في الدين جملة وتفصيلاً، مطالباً جميع المسلمين بالاجتهاد، بما فيهم العوام والجهلة؛ لأن اجتهادهم لن يكون إلا بقدر وسعهم، ووسعهم لن يقل عن مستوى المحكم، الذي هو معلوم لكل الناس بالضرورة. ومن حسن حظنا أن جمهور الفقهاء قد حرم التقليد على المجتهد القادر على النظر والاستنباط.
كما أن المؤسسة الدينية تحتج بمثل قوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (النساء83). معتقدين أن الآية تدعو المسلم إلى الرجوع بكل ما يلمه من المسائل إلى حضرة المفتي، الذي كلف باستنباط الأحكام الشرعية من مظانها، على ضوء القواعد والأصول التي وضعوها لأنفسهم.
بينما منطوق الآية يتحدث عن “الأمن” و”الخوف”، وهي شؤون سياسية بحتة لا دخل للدين بها، يدخل فيها اليوم ما يسمى بالأمن القومي للدول. ورد هذه الأمور إلى الرسول، يعني إرجاعها إلى شخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بوصفه ولي أمر المسلمين الأول آنذاك، لا بوصفه النبي الرسول كما يعتقد بعض الفقهاء والمشائخ.
ومن القرائن الدالة على صحة ما نقول: إن الآية لم تطالب بإرجاع الأمر إلى الله والرسول كما تعودنا في آيات أخرى شبيهة، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. (النساء59).
ذلك أن عبارة “تنازعتم في شيء” تشمل النزاع في الدين والدنيا، كما تشمل نزاع القلوب ونزاع العقول، وهذه الأنواع من الاختلاف بحاجة إلى مرجعية إلهية، تلتقي عندها قلوب المتنازعين قبل عقولهم، أما مسائل الأمن والخوف، وغيرها من مسائل الاجتماع السياسي، فلا تحتاج لأكثر من أهل الاختصاص في الدولة والجماعة.
إن آية (النساء83) هي واحدة من الآيات القرآنية التي تفتح باباً للعلمانية بمفهومها الإسلامي، حيث تجعل مرجعية القضايا السياسية مرجعية مدنية لا دينية، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الآية - كما قلنا - كان في مقام ولي الأمر لا في مقام المبلغ، ومقام الولاية السياسية هو مقام مدني لا ديني، كما هي طبيعته، وكما أثبتنا في مقال سابق نشر على صفحات (الجمهورية) بعنوان “الإمامة والخلافة والوهم”.
ومما يلفت الانتباه أن شمس الدين بن قيم الجوزية، في كتابه الموسوعي والمرجعي المسمى “أعلام الموقعين عن رب العالمين” لم يذكر آية واحدة في التشريع لوظيفة الإفتاء بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع حرصه الشديد على تأصيل كل شاردة وواردة في مجال الإفتاء، مما يدل على أن هذه الوظيفة قد تكونت بمحض الخلط وتقليد أهل الكتاب، لا استجابة لمطلب قرآني.
لكن، هل معنى ذلك أن لا يكون للإسلام (القرآن) علماء متخصصون يكشفون غامضه ويجلون أسراره؟!. بالطبع لا، فنحن لا نقصد ذلك؛ فالقرآن الكريم خطاب عام شامل، يقوم على شبكة نصية لغوية واسعة ومتنوعة، فيها الواضح الجلي وفيها الغامض الخفي، وما كان هذه صفاته فهو يحتاج إلى علماء متخصصين ولا شك.
غير أننا نؤكد مع ذلك على أمور، أولها: أن وظيفة هؤلاء العلماء والدارسين، ليست وظيفة دينية، بل وظيفة مدنية، مثلها مثل بقية وظائف العلم والمعرفة الأخرى. ومن ثم فإن الاختلاف معهم كالاختلاف مع علماء الأدب والفيزياء، لا فرق.
وثانيها: أن العلم بهذا الخطاب لا يشترط فيه أن يكون العالم مؤمناً زاهداً عابداً يمشي على الماء من فرط كراماته، بل يشترط فيه أن يكون مدركاً لطبيعة الخطاب ومرجعيته المعرفية وقوانين اللسان الذي نزل به، حتى لو كان من الكافرين بحجيته..!.
وآخرها: أن ما يلزم الفرد المسلم من هذا الخطاب أمام الله، هو فقط ما بلغه وسعه من الفهم، لا ما بلغ وسع العالم منه، ومن ثم فإن الفتوى والمفتي عملان لا معنى لهما في ظل هذه الحقيقة.. وللحديث بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق