الخميس، 7 فبراير 2013

العلمانية.. خارطة طريق جديدة


             أعادت الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة إلى طاولة النقاش عدداً من القضايا الإشكالية المزمنة في الفكر السياسي العربي، وفي مقدمتها مفهوما العلمانية والدولة المدنية، بعد أن ارتفعت أسهم هذين المفهومين في الأوساط الشعبية مؤخراً.
وهو ما ينذر بارتفاع حدة الصراع بين أطراف الخلاف التقليدي حولهما مستقبلاً، ولا شك عندي أنه سيكون خلافاً حميداً ما بقي في دائرة الفكر.
لكن يا ترى هل بقي شيء في مفهوم العلمانية يستحق النقاش، بعد كل المداد الذي أريق حولها في الفترات الماضية؟. ألا يصح عليها ما قيل في علم النحو العربي قديماً، من أنه قد نضج حتى احترق؟!. أياً ما تكن الإجابة فإن بقاء المشكلة العلمانية على المستوى السياسي يعني أن باب الكلام فيها مازال مفتوحاً ومبرراً.
 وانطلاقاً من هذا المعنى الأخير يتساءل الكاتب: هل العلمانية مشكلة عربية لا تقبل الحل؟. هل تشبه مشكلة الرجل القصير الذي لا يمكن أن يطول مهما حاول؟!.
يتطوع الكاتب بالإجابة عن هذا السؤال بالنفي. مستنداً في ذلك إلى عدد من الحقائق:
أولاً: إن العلمانية مفهوم مضطرب غير مستقر. ومن ثم فإنه مفهوم مطاوع، يمكن تحديده بما يتناسب مع خصوصيات مجتمعاتنا العربية والإسلامية**.
ثانياً: إن الخطاب الديني السياسي المناهض للعلمانية، يعاني من عيب خطير، لا يمكن تبريره، ولا مجال للشك فيه، هو عيب الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني؛ باعتبار أن الدين هو ذلك المنزل السماوي المقدس، وأن الفكر الديني هو ذلك المنتج البشري الناتج عن دوران العقل حول النص الديني.
 ثالثاً: وعليه فإن الزعم بوجود تناقض بين العلمانية والإسلام، قبل تحديد المفهومين، بصورة دقيقة وحاسمة، وقبل تخليصهما من الزوائد الطارئة عليهما، هو نوع من العبث الكلامي الذي لا يليق بأهل الفكر.
وإذا ما حسبتُ أن الحقائق الماضية محل اتفاق بيني وبين القارئ فإن المقام يقتضي طرح هذا السؤال: هل في الإمكان إعادة تعريف الإسلام والعلمانية دون المساس بحقيقتيهما الذاتيتين؟.
وبصيغة أخرى: هل في الإمكان اكتشاف العلمانية في الإسلام، أو اكتشاف الإسلام في العلمانية دون اعتساف أو تكلف يذهب بحقيقتيهما معاً؟!.
 وقبل أن يتطوع الكاتب بالجواب فإنه يود التأكيد على الحقائق الآتية:
1 - إن أية مقاربة لهذه المشكلة لا تتسم بالموضوعية هي مقاربة محكوم عليها بالفشل ابتداء، من أية جهة صدرت.
2 - إن الموقف التحليلي للمشكلة هو الأقرب نسباً إلى الموضوعية العلمية، على عكس الموقف الأيديولوجي الذي يتسم بطبيعته بالتحيز والتلوين.
3 - ستظل الأيديولوجيا هي مثار النقع في حياة العرب السياسية، ولا قرار للنظم السياسية، ولا للحياة الاجتماعية، مادامت الأيديولوجيا هي محور الصراع السياسي عندهم. 4 - لن تنتهي مشكلة العلمانية بمجرد تجاهل خصومها لها، ولا بمجرد تصلب دعاتها على أشكالها التقليدية.
وبناءً على المقدمات الماضية يمكننا طرح صيغة ائتلافية جديدة بين الإسلام والعلمانية، تحقق غايتهما الجوهرية (العدالة والسلام)، ولا تمس حقائقهما الذاتية، تقوم هذه الصيغة على مبدأ إعادة تعريف المفهومين المشكلين؛ فأما مفهوم العلمانية فقد حققه الدكتور عبدالوهاب المسيري، بصورة شبه وافية، في كتابه: “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، وهو الجهد الذي يستند إليه هذا المقال، وقد خلص المسيري إلى وجود طرفين نموذجيين في المتتالية الزمنية العلمانية: طرف العلمانية الجزئية، وهي تلك الحالة التي تفصل فيها الدولة عن الدين. (مع ملاحظة التطور التاريخي لمفهوم الدولة). وطرف العلمانية الشاملة، وهي تلك الحالة التي تفصل فيها الحياة عن الدين. ثم يرشح المسيري للمجتمعات العربية العلمانية في صورتها الجزئية.
وإذا كنا نتفق مع د.المسيري في تحليله للعلمانيتين وتفريقه بين نموذجيهما الرئيسين، كما نتفق معه في رفض العلمانية الشاملة، إلا أننا - لمبررات موضوعية - نتحفظ على قبول اقتراحه بجعل “العلمانية الجزئية” مشروعاً سياسياً عربياً. وذلك للاعتبارات الآتية:
1- ليس من منطق الديمقراطية أن يكون الدين مرجعاً لمجتمع ما، ثم لا يكون مرجعاً لدولة ذلك المجتمع.
2- في الإسلام نصوص قطعية لا يمكن فصلها عن الدولة؛ لأنها تستهدف نشاطات مشتركة، مثل نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ومنه تتأصل المعارضة السياسية)، ستظل مثار خلاف وقلق سياسيين.
3- الاستقراء الدقيق يدل على أن المشكلة ليست في الدين نفسه، بل في الفكر الديني النابت حوله. وتنحدر – تحديداً - من أربع مشكلات أصولية نوعية:
 الأولى، نصوص غير قطعية الدلالة.
 والثانية، نصوص غير قطعية الثبوت.
 والثالثة، نصوص غير قطعية الحجية.
والرابعة، قصور في الجهازين المفاهيمي والفني للمؤسسة الدينية التقليدية المنتجة للخطاب الديني.
ونخلص من ذلك إلى ضرورة تطوير مقولة “العلمانية الجزئية” بحيث لا تتصادم مع الدين نفسه، ولا تبقي على مصادر القلق.
ويمكننا فعل ذلك باقتراح صيغة جديدة للعلمانية الجزئية هي صيغة “فصل الدولة عن المذهب”. سواء أكان مذهباً فكرياً أو كان مذهباً فقهياً. وسواء أكان مذهباً للفرد أم كان مذهباً للجماعة. وسواء أكان مذهباً تاريخياً قديماً أم كان مذهباً معاصراً. إلا أن من المهم أيضاً إعادة تعريف المذهب هنا، ليشمل كل نص يحتمل التأويل على أكثر من وجه. بحسب قواعد التأويل وشروطه المقررة في الأوساط والمؤسسات المختصة. ذلك أن المذهب لا يكون إلا فهماً ظنياً لنص غير قطعي. ولهذا فإن المذاهب لا يكفر بعضها بعضاً. ويكون النص ظنياً في ثبوته إذا لم يرد بطرق متواترة، وظنياً في دلالته إذا احتمل أكثر من تأويل.
نقترح ذلك استناداً إلى:
1- أن المذهب جزء من الفكر الديني لا من الدين. وما كان من منتجات البشر فهو محل أخذ ورد. وينطبق هذا الحكم على أصول المذهب قبل فروعه. وعلى أصول المذاهب وفروعها مجتمعة أو متفرقة.
2- أن معظم المذاهب الإسلامية المعتبرة لا يكفر بعضها بعضاً على الأصول أو الفروع المختلف حولها. مما يدل على أن الآراء ذات الطابع الخاص في المذاهب لا تعد من الضرورات الدينية التي يكفر منكرها عندهم. وعليه فلا فرق بين أن ينكر مذهب مذهباً آخر، وبين أن تنكر الدولة المدنية المذاهب المختلفة جميعها مادامت تعترف بالنص الأول (الدين) الذي نشأ حوله الخلاف.
3- دل الاستقراء على أن جميع المذاهب الإسلامية التقليدية – تقريباً - قد وقعت في الخلط بين ما هو دين وما هو فكر ديني. وأظهر مثال على ذلك أن الأصوليين لم يتفقوا حتى الآن على معايير حاسمة في التفريق بين ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في مقام الدين (الرسالة) وما صدر عنه في مقام الاجتهاد. مع غموض شديد في مكانة الاجتهاد النبوي من طبيعة “البلاغ المبين” الذي كلف به النبي (صلى الله عليه وسلم). هذا فضلاً عن وجود كثير من المشكلات الأصولية ذات الخطورة النوعية، كحجية الإجماع، ونسخ القرآن للقرآن. وغيرها من القضايا التي يترتب على إعادة النظر فيها تعديلاً بنيوياً في فلسفة الدين نفسه.
وهنا قد يثور تساؤل من نحو: ماذا يتبقى في الدين بعد استبعاد المذاهب؟. وجوابنا واضح: يتبقى الدين الذي اكتمل قبل مجيء المذاهب!. أي مجموع النص الثابت بصورة قطعية. مقروءاً بمناهج أكثر تطوراً وارتقاءً. ونعلم أن كلمة “مناهج” هنا تثير عند البعض حساسية غير مبررة، ناتجة عن ضعف قدرتهم على التصنيف؛ إذ يعتقدون أن المناهج تدخل في باب المضامين. وأن المضامين غربية كافرة. بينما الحقيقة التي لا تخفى على المثقفين أن المنهج هو الطريقة، والطرائق من عالم الوسائل لا المضامين. ولا أظن أحداً من المعترضين يختلف معنا على الانتفاع بوسائل الغير ومواعينهم، إن كان لنا بها حاجة. وحتى لو جاءت بعض هذه الوسائل (المناهج) محملة بمنظورات غربية شاذة أو منحرفة، فإن الواجب أن نتعامل معها بحسب القاعدة المستنبطة من تعامل القرآن الكريم مع الخمرة. فننظر إن كان إثمها أكثر من نفعها رددناها، وإن كان نفعها أكثر من إثمها، قبلناها لصالح المؤمنين. وكثيراً ما فعل هذا رجال الفكر العربي في العصر الحديث. وبعضهم من المحسوبين على العلمانية والغرب!.
ومن بداهة القول: إن الذي يتصدى لعملية الحكم في صلاحية هذا المنهج أو ذاك من عدمها، هم المفكرون والفلاسفة، لا الدعاة والخطباء، لاعتبارات كثيرة منها:
 1- أنهم أصحاب هذا الاختصاص. أعني اختصاص تحليل المفاهيم والمركبات النظرية.
2- وأنهم هم الذين برعوا في نقد الحضارة عموماً، وفي نقد الظاهرة الغربية على وجه الخصوص. بينما برع الخطباء والدعاة في النقل عنهم بصورة قاصرة في أغلب الأحيان.
3 - أن مجموع من يسمّون بالعلماء والدعاة والخطباء الدينيين، هم - في أحسن أحوالهم - خبراء في ما قاله السلف الصالح. أي أنهم علماء بالتراث المذهبي لا بالدين ولا بالحضارة. وبما أن عالم المذهب يعد جزءاً من المذهب، فلا يصح أن يكون المذهب هو الخصم والحكم في الوقت نفسه.
إن استبدال شعار “فصل الدين عن الدولة” بشعار “فصل الدولة عن المذهب” هو حل يتسم بميزات كثيرة منها:
1- أن هذه الصيغة المعدلة لمفهوم العلمنة تحل العلمانيين من الحرج الذي يقعون فيه عند مطالبتهم باستبعاد الدين من الممارسة السياسية. ويوقع المذهبيين في حرج مماثل حين يصرون على جعل المذهب - وليس الدين - مرجعاً للدولة. وهو ما يعني تحييد أقوى حججهم في الصراع مع العلمانية.
2- هذه الصيغة كفيلة بطي معظم نقاط الخلاف بين التيارين الديني التقليدي وخصومه بمختلف مشاربهم، وخاصة تلك الخلافات الفقهية والفكرية حول قانوني العقوبات والأحوال الشخصية نحو: قوانين عقوبة الردة وعقوبة الرجم للزاني المحصن، وقوانين الزواج المدني وأنصبة المواريث، وغيرها من المفاهيم المشكلة أمام الحياة المدنية الحديثة!.
___________________________________________________
**(انظر: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - عبدالوهاب المسيري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق