الخميس، 7 فبراير 2013

العلمانية الثالثة - الجزء الثاني

          لا يمكن أن يكون الحديث عن علاقة الإسلام بالعلمانية، حديثاً منهجياً، ما لم نبدأ بوضع حدود واضحة لهذين المفهومين. وكان الجزء الأول من هذا المقال قد تكفل ببيان حدود العلمانية التي نعنيها في صف العلمانيات المعروضة. ونتوقع من هذا الجزء أن يتناول الحد الثاني في هذه الجدلية، وهو الإسلام، فما هو الإسلام يا ترى؟!.
إنه لشيء مؤسف حقاً أن يضطر كاتب اليوم إلى إعادة طرح هذا السؤال، بعد أربعة عشر قرناً من مجيء الإسلام. وما كنا لنطرحه لو كان هناك إجابة ناجزة. وكأن المسلمين لم يجدوا فرصة كافية خلال هذه القرون المتطاولة لتحرير أشهر مصطلح في حياتهم. وليس الأمر سهلاً كما قد يظن البعض، فإن غموض المصطلحات له عواقب وخيمة على الحياة العقلية، ومن ثم على مختلف وجوه الحياة. لأن المصطلحات الغامضة والفضفاضة كالعملة النقدية الزائفة، تمحق الاقتصاد/ الفكر بالتضخم.
وإذا قمنا بمحاولة عاجلة لتحقيق هذا المصطلح، فسنكون بإزاء ثلاثة معانٍ رئيسية على الأقل: الأول يشير إلى الإسلام في معناه التاريخي، أي الإسلام كما عرف في التاريخ. وقد عرف الإسلام في التاريخ بوصفه نقيض الديانات الأخرى، اليهودية والمسيحية والبوذية والمجوسية وغيرها. وهذا هو المعنى الشعبي والتقليدي لكلمة الإسلام، عند المسلمين وعند غيرهم.
والثاني يشير إلى المعنى القانوني للإسلام، وهو مستنبط من قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. (الحجرات14). فالإسلام في هذه الآية هو إسلام الظاهر، أي الإسلام الذي يحاسب عليه القانون، أما الإسلام الحق، فهو مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله.
أما المعنى الثالث للإسلام فهو الإسلام من المنظور الإلهي، أي الإسلام الذي عند الله، والذي جاء في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ. (آل عمران19). وهذا يشمل ما جاءت به كل النبوات وكل الرسالات السماوية، ويمثله الآن القرآن الكريم، باعتباره خلاصة الكتب السماوية جميعاً، منذ أن بدأت الرسالات مع إبراهيم (عليه السلام)، إلى أن ختمت بمحمد (صلى الله عليه وسلم): إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. (الأعلى 18-19). وهذا المعنى الأخير هو الذي ننطلق منه في حديثنا عن الإسلام.
هل اتضح الأمر تماماً؟.. بالطبع، لا. فما زال أمامنا صفاً طويلاً من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة، منها هذا السؤال العاجل: إذا كان الدين عند الله الإسلام، والإسلام عند الله هو القرآن، فماذا عن الكتب السماوية الموجودة اليوم بين أيدينا، والتي اعترف بها القرآن من حيث المبدأ، كالتوراة والأناجيل، أو ما يسمى بالعهد القديم والعهد الجديد عند المسيحيين؟. وماذا عن الحديث النبوي؟ وماذا عن كتب المذاهب الفقهية والفكرية؟. ما موقع هذه الكتب من الدين؟!.
والسؤال الأول في مصفوفة الأسئلة السابقة، ليس ملحاً لنا نحن المسلمين اليوم، ولا يترتب عليه في موضوع العلمانية أثر يذكر، ما دام القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على الكتب كلها “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. (المائدة48). والهيمنة هنا مفهوم شمولي، يجعل النص القرآني هو “المعتمد” الأول والأخير في مجال الدين، وهو النص الذي لا يقبل النقاش لمن آمن به، أما ما عداه من النصوص فهو خاضع له خضوع القانون للدستور.
أما الجواب على سؤال الحديث النبوي، فقد فصلنا فيه القول في مناسبات أخرى سابقة ومعروفة لدى المتابعين، ومجمل القول فيه أن الحديث النبوي - حتى لو صحت نسبته إلى النبي - لا يعد جزءاً من الرسالة التي كلف النبي (صلى الله عليه وسلم) بإبلاغها للناس، وأنه - في حال ثبوته - يعد جزءاً من السيرة النبوية لا غير. وسيرة أي نبي تتضمن فهمه الشخصي للدين والحياة، لكن هذا الفهم - مهما كان فذاً - يظل محكوماً بشروط الزمان والمكان لا يخرج عنها، وهي شروط متغيرة بتغير العصور، على عكس الدين الذي يختص بسمة الثبات.
ولا مجال هنا لمزيد من تفصيل هذه المسألة ولا إيراد براهينها، فقد أفردنا لذلك دراسة وافية بعنوان “ هذا بيان للناس، حديث النبي من التاريخ لا من الدين”، منشورة قبل سنوات، في بعض المواقع الإلكترونية، وفي صفحة الكاتب على الفيس بوك، لمن شاء المزيد من التفصيل. إلا أننا معنيون هنا بالإشارة إلى حقيقتين لهما شأن بموضوع هذا المقال.
الحقيقة الأولى: أن القول بحجية الحديث، أو بعدم حجيته الدينية، هي _ في أدنى الاعتبارات _ مسألة خلافية بين مسلمين. بدليل أن أحداً من طرفي النزاع فيها لا يجرؤ على إخراج الآخر من الملة الإسلامية. وحتى إذا وجد في هذا الطرف أو في ذاك من يجرؤ على التكفير، فإنه سيظل حالة شاذة، أو محصورة داخل مذهبه، مما يعني أننا أمام حالة مذهبية بامتياز. وهذا ينقلنا إلى الحقيقة الثانية:
وهي أن الخلاف في المذهب ليس خلافاً في الدين، بل هو خلاف في فهم الدين. وعليه فإن من يزعم بأن مذهبه هو الدين، وأنه وحده جماعة المسلمين، فإنما يفتري على الله وعلى الناس الكذب. أما إذا تجاوز حد الزعم إلى حد الفعل، وذهب يرغم المخالفين على تبني مذهبه، بأي صورة من صور الإرغام، فإنه بذلك يعد خارجاً على حدود الدين نفسه، الذي ينهى عن الإكراه في الدين، بأي صورة من صور الإكراه، بنص قطعي الدلالة والثبوت: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة256).
وسيأتي معنا لاحقاً الجواب عن شبهة تقول: ماذا لو أن الأغلبية المذهبية _ بحكم الديمقراطية العلمانية _ أرادت أن تجعل مذهبها مرجعاً للدولة والقانون؟!. أما الآن، فلا بد أن نستكمل الجواب على سؤال المذاهب الفقهية والفكرية الإسلامية، ما موقعها من الدين؟. والإجابة عن هذا السؤال _ لحسن الحظ _ ليست معضلة، لأننا لم نجد قولاً معتبراً عند المذاهب المعتبرة يزعم أن مذهبه هو الدين نفسه، وأنه وحده جماعة المسلمين.
وحتى إذا وجد مثل هذا التهريج، فإنه سيظل رأياً شاذاً يتوارى خلف حجب التأويل من شدة الخجل، ويكفي في بيان زيفه أن نعلم أن الدين قد اكتمل قبل مجيء المذاهب جميعاً، مع قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً. (المائدة3).
نخلص من السطور الماضية إلى إقرار الشرط الأول من شروط تعريف الإسلام، وهو شرط الفصل والتمييز بين الدين / الإسلام، والفكر الديني / الإسلامي، باعتبار أن الدين / الإسلام هو ذلك المنزل السماوي المتفق على حجيته وثبوته، وأن الفكر الديني / الإسلامي هو ناتج دوران العقل حول النص الديني، فيما يسمى بعملية الاجتهاد والتدبر. وهذا الناتج بطبيعته لا يكون إلا بشرياً.
وقد بينا سلفاً أن المذاهب جميعاً تعد جزءاً من بنية الفكر الديني لا من بنية الدين نفسه. سواء أكانت مذاهب فقهية أو كانت مذاهب فكرية، وسواء أكانت مذاهب فردية أم جماعية، وسواء أكانت مذاهب تاريخية أم معاصرة. ويدخل فيها بالطبع المذهب القائل بعدم حجية الحديث النبوي، لقيامه على نفس الأصول والقواعد المعتبرة لدى المذاهب الأخرى، على الأقل.
وهذا الفصل المبدئي بين الإسلام والفكر الإسلامي ليس جديداً، فقد تعارف عليه المفكرون الإسلاميون منذ بدايات القرن العشرين تقريباً، وهاهو شيخ الإسلاميين محمد الغزالي يؤكد هذه الحقيقة في واحد من أقدم كتبه، هو كتاب “ ليس من الإسلام”، وينقلها بدوره عن واحد من كبار علماء الدين آنذاك هو الشيخ محمد البهي، الذي يقول بالنص: “إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه”.
ليس هذا فحسب، بل يذهب الشيخان خطوة أخرى أكثر جرأة وأكثر تحديداً، في بيان الحدود الفاصلة بين الإسلام والفكر الإسلامي، فيقولان: “والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمه ما انظم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه منه”!.
وهذا التعريف للوحي يتطابق تماماً مع تعريفنا له، وهو التعريف الذي يؤاخذنا عليه المشائخ والدعاة منذ أن طرحنا قضية حجية الحديث النبوي في الصحافة قبل سنوات. والفرق بين موقفنا وموقف الشيخ الغزالي، بعد ذلك، هو أننا ذهبنا وراء هذا التعريف إلى نهايته المنطقية، بينما تذبذب موقف الشيخ الغزالي منه في مواضع عديدة من كتبه.
وتكمن أهمية التعريف السابق للوحي في أنه استبعد تماماً الحديث النبوي من مجال الرسالة، واعترف فقط بالسنن التي ثبتت بالتواتر العملي، بنقل الكافة عن الكافة، وثبت أصلها الديني في نص القرآن الكريم. وهذه السنن كما يعلم المختصون محدودة للغاية، ولا تثير في الفكر الإسلامي أي معضلة حقيقية، فما بالك بالفكر السياسي.
أما ما يسمى بالحديث النبوي _ ومثله الآراء الفقهية _ فإنه لا يدخل ابتداء تحت مسمى السنن عند الأصوليين واللغويين، فضلاً عن اتفاقهم الصريح على كونه لم يثبت بطرق متواترة، كما ثبت القرآن والسنن العملية. وهذا وحده كافٍ في حسم المسألة، وإخراج محل النزاع من دائرة الدين المتفق على حجيته وثبوته، إلى دائرة الفكر الديني المتنازع عليه اجتهاداً.
والحسم هنا لا يعني _ بالضرورة _ اقتناع الطرف المخالف بهذه الحقيقة، لأن المذاهب عادة لا تسلم لخصومها بإصابة الحقيقة، وإنما يعني أن هذه التخريجة الأصولية لموقع الحديث من الدين، قد جاءت وفق القواعد والأصول المعتبرة لدى الطرف المخالف، وما دام الأمر كذلك فليس في استطاعته استبعاد الطرف الآخر من دائرة الإيمان، إلا إذا تناقض مع أصوله وقواعده المذهبية!.
ذلك هو الشرط الأول في فهم الإسلام، شرط الفصل والتمييز بين ما هو إسلام وما هو فكر إسلامي. والخلط بينهما ليس فقط خطأ في المنهج، بل إنه خطأ في العقيدة نفسها، لأنه يوقع صاحبه في مظنة الشرك بالله، ما دام هذا الاعتقاد قائماً على أسس ظنية غير محكمة، و” إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً. (النساء48). أما الشرط الثاني من شروط تعريف الإسلام، فهو موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال، وهو شرط معرفة حدود النشاط الديني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق