الخميس، 7 فبراير 2013

العلمانية الثالثة - الجزء الرابع

        الآن، وقد ميزنا بين الإسلام والفكر الإسلامي، وقلنا: إن القرآن هو الممثل الشرعي والوحيد للدين الإسلامي، وما في حكمه من سنن ثابتة دل عليها القرآن دلالة صريحة، وإن الفكر الإسلامي هو كل فهم بشري لنص غير صريح من القرآن الكريم، مثل ذلك الفهم الذي جعل الحديث النبوي، وما يسمى بالإجماع، وغيرهما، من مصادر الشريعة..!.
وبعد أن ميزنا بين ثلاثة أنواع من مجالات النصوص القرآنية، هي العقائد والعبادات والمعاملات، حسب التقسيم التقليدي للفقهاء، فقد أصبح من حقنا أن نسأل: ما هي المساحة التي يشغلها الدين من حياة الإنسان المسلم؟ هل يشغل كامل النشاط الإنساني، أم يشغل نشاطات بعينها دون أخرى؟ كيف؟.
هناك عدد من الفروض المحتملة في هذا الشأن؛ أولها أن يكون الدين مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة قانونية، وثانيها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية فقط، وثالثها أن يكون مهيمناً على كل جوانب الحياة هيمنة أخلاقية وعلى بعض جوانبها هيمنة قانونية.
لكي تكون الإجابة وجيهة ومقبولة لابد من استنطاق القرآن الكريم نفسه؛ فهل في القرآن نص يحسم هذه المسألة؟. والجواب: ليس في القرآن الكريم نص قطعي في تفصيل هذه المسألة، لكن فيه نصوص موهمة يفيد ظاهرها الشمول والإحاطة، مثل قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.(النحل89). وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(الأنعام162).
وقد اعتقد كثير من الناس أن عبارة “تبياناً لكل شيء” في آية النحل السابقة، تعني الإحاطة والشمول، وهو فهم قاصر نتج عن ضعف معرفة بلسان العرب، الذي هو المرجع في لغة القرآن الكريم. بينما هي في هذا اللسان كناية عن الكثرة والاتساع، ضمن مجال الاختصاص. هكذا وردت في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى على لسان الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. وعن سليمان: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:16]. وعن موسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145].
ولم يقل أحد أن ملكة سبأ أو النبي سليمان قد أوتيا من كل شيء بالمعنى الرياضي أو الفلسفي للعبارة، ولا أن ألواح التوراة قد شملت كل صغيرة وكبيرة في الحياة.
 وأظهر دليل على ذلك أن ظاهر العبارة يدل على أن ملك ملكة سبأ يساوي ملك نبي الله سليمان عليه السلام، وهذا خطأ لا شك فيه، ولا جدال، وكذلك فإن ألواح موسى - بعددها المحدود - لا يمكن أن تتناول كل صغيرة وكبيرة في الحياة، بحيث لا يفوتها علم من العلوم إلا خاضت فيه، وإلا لما احتجنا إلى نيوتن وإنشتاين وأحمد زويل!.
خلاصة الأمر هي أن عبارة كل شيء الواردة في القرآن الكريم لا تفيد الشمول المطلق كما يتبادر إلى أذهان العامة ومن في حكمهم من المفسرين، باستثناء ما جاء في حق الله تعالى مثل قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. (الزمر62)؛ لأن اختصاص الله هنا يشمل كل شيء في الوجود، على سبيل الحقيقة لا على سبيل الكناية والمجاز.
أما آية “الأنعام” السابقة فهي لا تفيد بعبارتها أن حياة المسلم ومماته يخضعان للتشريع والتقنين، وإلا فليقولوا لنا كيف يمكن تقنين الموت؟!. ودلالة العبارة هي الخضوع الباطني لله تعالى، والاعتراف بسلطانه الشامل على الوجود، لكن الله تعالى لم يرد أن يكون سلطانه الشامل تشريعياً على الناس، بل سلطان أخلاقي في المقام الأول، وإن غطى بالتشريع بعض أوجه نشاط الإنسان.
يبدو أننا قد حسمنا خياراتنا مبكراً، وقررنا اختيار الفرض الذي يقول: إن الدين - الإسلام - يغطي مختلف جوانب الحياة بمبادئه الأخلاقية العامة، لكنه لا يغطيها كاملة بتشريعاته القانونية.
وسنعرف لاحقاً ما الذي يترتب على هذا الاختيار، بعد أن نستكمل تأكيد هذه الفرضية وتفنيد الفروض الأخرى المقابلة؟.
إن الفرض الذي يقول بأن الدين هو علاقة بين العبد وربه، يعني في نهاية المطاف أن الدين – الإسلام - هو فقط مجموعة العقائد والعبادات، بالإضافة إلى بعض الأخلاق اللازمة للفرد، غير المتعدية للمجتمع.
 ومن معاني هذه العبارة - بقصد أو بدون قصد - أن شعبة “المعاملات” لا تدخل في نطاق الدين، وهذا أمر ترده النظرة الأولى في القرآن الكريم.
لكن الشيء الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن الأحكام التشريعية التي تطال العلاقات الاجتماعية - ومنها أحكام السياسة - لا تغطي كامل المساحة الاجتماعية، إذا ما اعتبرنا أن الأحكام الشرعية هي تلك التي نص عليها القرآن، بأية صورة من صور الدلالة الأربع، التي نقلنا عن عبدالوهاب خلاف من قبل، ولهذا تحديداً اضطر الفقهاء لصناعة أصول الفقه، حتى يستنبطوا على ضوئها ما يلزم من الأحكام المتجددة.
والشيء الذي لا نقره هنا هو اعتقادهم بأن ما ينتجونه على ضوء هذه الأصول، ووفق هذا المنهج يعد جزءاً من الإسلام (الدين)، بينما كان ينبغي القول: إنها جزء من بنية الفكر الإسلامي، التي هي بطبيعتها بنية مدنية، مادامت أثراً من آثار العقل الإنساني.
 والقول بأنها جزء من الدين، يعني - بالتضمين - أن الإنسان قد ينتج القداسة، مثل الإله تماماً، وهذا هو الشرك بعينه..!.
إن الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة الدينية الإسلامية، هو أنها حاولت تقنين كل أوجه النشاط الإنساني، ثم إضافة مخرجات هذا التقنين إلى دائرة الدين المقدس الذي يأثم منكره ومخالفه.
ولأن عملية التقنين هذه بطبيعتها واسعة النطاق، فقد كان لابد من وظيفة المفتي الشرعي؛ لأن المسلم العادي لا يستطيع أن يتعرف على كل الأحكام من تلقاء نفسه؛ إما بسبب كثرتها، وإما بسبب غموضها.
وإذا سلمنا بكون الفكر الديني هو جزء من بنية النشاط المدني للإنسان، فإن وظيفة المفتي تكون حينئذ وظيفة مدنية لا وظيفة دينية، مثلها مثل وظيفة المعلم، في أي مجال من مجالات التعليم الأخرى، مع فارق بسيط بين الوظيفتين هو أن وظيفة المعلم ضرورة اجتماعية، ووظيفة المفتي ضرر اجتماعي كبير، لا حاجة لنا به..!.
أما كيف تكون وظيفة المفتي خطأ إسلامياً وضرراً إنسانياً، وما علاقة ذلك بما نحن فيه من حديث عن العلمانية الثالثة، وغيرها من الأسئلة، فهي موضوع الحلقة القادمة من هذا المقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق